الإرهاب وطالبان وتحديات أكثر تعقيداً

الإرهاب وطالبان وتحديات أكثر تعقيداً

[escenic_image id="554954"]

إحدى الطرق التي يمكن بها البدء في إدراك مدى عمق المشكلات التي تواجه باكستان أن نتأمل جيداً إلى أي مدى تتنوع التحديات التي يواجهها أمنها الداخلي بالفعل. ولنفترض أن جميع القائمين بعمليات التفجير قد اختفوا، وأن القتال بين القوات الباكستانية والقاعدة وطالبان في المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية قد توقف بين عشية وضحاها.

وأخيراً لنفرض أن وادي سوات والضواحي المجاورة له قد عادت جميعها لتخضع للسيطرة الضعيفة للحكومة الباكستانية. لو فُرض أن كل هذا حدث بالفعل، فسوف تكون النتيجة شبه الأكيدة أن يصرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما حينئذٍ بأن مهمة بلاده في أفغانستان وباكستان لزعزعة وحل تنظيم القاعدة,  قد أُنجزت بنجاح وإلحاق الهزيمة به.

حينئذٍ سوف تغيب باكستان عن الصفحة الأولى من أوسع الصحف انتشاراً في العالم. ومع ذلك، فإن الانتصار الذي يتحقق للولايات المتحدة في هذه الحالة ونهاية تنظيم القاعدة لن يكون ذا أهمية كبيرة بالنسبة للشعب الباكستاني. فالأفكار الانفصالية للبلوجستانيين الذين يقطنون إقليم بلوجستان تزيد العصيان اشتعالاً في ظل أوضاع يسودها العنف المتقطع والذي يصيب البلاد في ذات الوقت بحالة من الشلل. فقد أودت التوترات العرقية في كراتشي في هذه الأثناء بحياة 50 شخصاً وذلك في 29 أبريل "نيسان" 2009، وهناك حرب مدنية متقطعة تشتعل بين الحزبين العرقيين الرئيسيين وهما الحركة القومية المتحدة التي تمثل المهاجرين الذين يتحدثون اللغة الأردية في مواجهة الحزب الوطني الشعبي الذي يمثل الباختون الذين يتحدثون لغة الباشتو.

إذن المشكلة الباكستانية ليست قاصرة على القاعدة أو طالبان، كما أنها ليست قاصرة على العلاقات المعقدة التي تربط المؤسسة الباكستانية الحاكمة، بما تضمه من مؤسسات استخباراتية وعسكرية بالدول الصديقة مثل الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والصين. والمشكلة الباكستانية مشكلة ممتدة عبر الأجيال، ولن يتأتى خروج باكستان من أزماتها إلا من خلال الاهتمام القوي والفعال بمواجهة التحديات. وبالرغم من سفك الدماء والانقسامات العرقية والخلل الإداري وضعف مصداقية الحكومة وغياب الخطاب الوطني الفعال، لا يزال الأمل هناك قائماً. وأسباب التفاؤل تكمن في المقاومة الفعلية- وإن كانت ضعيفة - للمتطرفين. فالقدرة الباكستانية على التعافي من تشدد الراديكاليين يعتبر بمثابة المحرك الذي لن يساعد في إلحاق الهزيمة بهم فحسب بل سيمكن البلاد من التغلب على التحديات الأخرى أيضاً. 

لكن من أين تأتي هذه القدرة على التعافي؟ إنها تأتي من المدن الباكستانية التي تزداد عالمية باطراد وأصبحت تضيق ذرعاً بالممارسات الطالبانية على نحو متزايد. فبالرغم من الأسباب القوية التي تؤدي بهم إلى التطرف، يشعر الباكستانيون الحضريون خصوصاً الشباب منهم بالاستياء من رغبة طالبان في تدمير الحريات المدنية بدرجة تفوق استياءهم من الفشل التام للحكومة في تقديم أي نوع من الخدمات للشباب. والمدن لا تمثل مركز التجديد والإبداع الثقافي فحسب، لكنها بمثابة موطن لليبراليين الباكستانيين الذين يتحدثون اللغة الإنجليزية ويفصحون عن آرائهم.

ومن السهل أن يشار إلى أشباه النخب في المناطق الحضرية بأنهم غير ذات ثقل في دول أخرى، لكن في باكستان لا يكون الأمر هكذا. في هذا الصدد نقول إنه حتى مؤسس الدولة محمد علي جناح كان رفيع الثقافة يتقن اللغة الإنجليزية ومغرماً بارتداء بدل سافيل راو وكان مولعاً بسجائر كريفين أيه. فللمرة الأولى في ذاكرة الباكستانيين الجدد الذين يتميزون بالوعي السياسي، يواجه الليبراليون في باكستان قيظ الشمس والمناوشات مع أفراد الشعب العاديين وكذلك مخاطر التشويه والقتل من جراء عمليات هجوم انتحارية وذلك نتيجة معارضتهم لبسط طالبان نفوذها على البلاد.

ولكن ربما الأهم أن نشير إلى أن عادات وتقاليد النخبة من أهل المدينة لن تكون هي العوامل الدافعة للتغيير في باكستان. وبدلاً من ذلك، وكما هو الحال في أي مجتمع، ستكون الطبقة الوسطى هي القوة الدافعة. وخلال معظم تاريخ هذا البلد، كانت هذه الطبقة كإبرة في كومة قش. وتشير التقديرات إلى أن عددها الآن يبلغ نحو 30 مليون شخص. وتجار الطبقة الوسطى الجدد الذين يتمتعون بالثراء ورجال الأعمال والمهنيون والمغتربون العائدون يمثلون أكبر تحول حدث في باكستان، على الأقل خلال الربع الأخير من القرن.

وقد جرت العادة على إدانة هذه الطبقة لدعوتها ونصرتها للأساس الفكري الذي يؤيد عمليات التدخل العسكري في البلاد. كانت هذه طبيعة الوضع حينذاك. أما الطبقة الوسطى الباكستانية الجديدة فهي أقوى ما يدعو الجيش لعدم الخروج من ثكناته. ويدرك الجيش الباكستاني قوة هذه الطبقة لسببين. أولهما أن هناك عدداً كبيراً من أفراد هذه الطبقة اليوم يمثلون نتاج الجيل الأول والثاني لضباط الجيش الباكستاني. غير أن الأكثر أهمية هو تعرض الجيش لثلاثة إخفاقات محرجة للغاية في مواجهته مع الطبقة الوسطى. فأولاً، راقب الجيش الجنرال برويز مشرف رئيس الجيش وهو يقرر إقالة رئيس المحكمة العليا في مارس من عام 2007. غير أن المحكمة العليا ألغت القرار وأدانت احتجاجات واسعة في جميع إنحاء البلاد إقالته. وثانياً، شاهد الجيش رئيسه يضطر للتخلي عن منصبه العسكري في ظل ضغوط سياسية لم يسبق لها مثيل، واضطر أيضا للتنحي عن منصب الرئيس. وحدث الأمر الثالث مؤخراً، حين شاهد الجيش رئيس المحكمة العليا نفسه (الذي أُقيل من قبل مشرف مرة أخرى في الفترة الانتقالية)، و قد عاد من جديد من خلال العملية السياسية. وباختصار فإن الجيش أصبح يدرك الآن أنه قد وُجدت أخيراً مؤسسة لديها تصميم مثل تصميمه فى نضالها نحو تحقيق شكل أفضل لباكستان وفق ما ترجو. 

والسبب بسيط وراء التوقعات القوية, التي تشير إلى أن تصبح الطبقة الوسطى ,محاربا قويا في المعركة في سبيل أن تحظى باكستان بالاستقرار والأمن على المدى القصير والمتوسط، وأن تصبح دولة عاملة وعادلة على المدى الطويل. وهذا السبب هو الحفاظ على الذات. تعتمد الطبقة الوسطى بشكل كلي على بلاد يمكن للأعمال أن تنمو بها. يأتي هذا مع تمتع الطبقة الوسطى بثمار العمل الشاق والابتكار والمجازفة والمشاريع.  وما دام العنف يضرب البلاد، لا يمكن أن يكون هناك نمو حقيقي. غير أننا بعد تجاوز المخاوف العاجلة بشأن الأمن، توجد أمور خاصة بالبنية التحتية وقواعد اللعبة وتكاليف الصفقات التجارية. سوف تقود الطبقة الوسطى الإصلاحات في هذه المجالات وتتجاوزها، وهذه الإصلاحات سوف تشمل المدارس ومياه الشرب والصحة لأن بقاء هذه الطبقة يتوقف عليها. المنصة تحترق وأقدام الطبقة الوسطى في النار.

وحتى مع وجود المكان للنضال من أجل باكستان (مدنها), وتوافر الأداة (الطبقة الوسطى) والمبدأ العقلي (الضرورة)، سوف تتطلب العملية الفعلية مهارات لا تمتلكها باكستان كدولة. وهنا يأتي دور المجتمع الدولي. وهذه أعلى درجة من المخاطر في باكستان. فالأسلحة النووية والجار العملاق الذي يصعب توفر الاستقرار معه والكابوس الدولي الذي يتمثل في المشكلة الأفغانية المعلقة بلا حل؛ كل هذه الأمور مجتمعة تزيد المشكلة الباكستانية تفاقماً. إذا كانت هناك أولوية دولية لتصحيح أمر ما، فباكستان أولى. ففي نهاية المطاف، يحتاج العالم إلى باكستان قوية ومستقرة وآمنة. وقد يتمكن العالم من تصحيح الأمور في باكستان باستخدام مدنها والطبقة الوسطى والمؤسسات المتعطشة للإصلاح.

مشرف زايدي - يكتب بجريده الأخبار الباكستانية والشروق المصرية ويعمل كمستشار في التنمية الدولية بالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وحكومات متعددة ومتخصص بالسياسة العامة بباكستان وأفغانستان وجنوب آسيا 

font change