أهي بداية النهاية لولاية الفقيه؟

أهي بداية النهاية لولاية الفقيه؟

[escenic_image id="554931"]

يعتبر زوال نظام قديم أسهل في إكتشافه من قدوم نظام جديد. لقد إنقضى قرن كامل منذ الثورة الفرنسية في عام 1789 ووفاة ولي عهد ملك فرنسا قبل أن يصبح هذا البلد جمهورية حديثة. (عندما سُئل رئيس الوزراء الصيني زاو إن لاي عن رأيه في الثورة الفرنسية، أجاب إجابته الشهيرة: "من السابق لأوانه التكهن بما سيحدث". وربما يؤرخ المؤرخون نهاية الثورة الإسلامية الإيرانية -التي تحتفل هذا العام بمرور 30 عاماً على إندلاعها- بتاريخ إستشهاد "ندي آغا سلطان" البالغة من العمر 27 عاماً وهي ضحية سياسية تم إطلاق النار عليها من قبل شرطة مكافحة الشغب الأسبوع الماضي. وتعتبر ندي الآن بمثابة الشرارة التي أشعلت حركة جديدة لعزل نظام آخر قديم. 

لكن إلى أين تسير الأمور؟ ففي حين هدأ إلى حد ما الصراع على السلطة بين الرئيس محمود أحمدي نجاد ومير حسين موسوي، فإن هناك حراكاً سياسياً كبيراً في الشارع الإيراني. وسوف يقلل الإقتصاد المتدهور لإيران بشدة من الخيارات السياسية المتاحة لأي طرف يسود. وليس أمام موسوي فرص كبيرة لإعادة فرز الأصوات التي يطالب بها بالرغم من التدليس البين في الإنتصار الذي حققه نجاد في الإنتخابات. ومع ذلك فإنه من غير المحتمل أيضاً أن يجتاز النظام بسلام مرحلة إعتدائه السافر على الأسس والمبادئ الدستورية الإيرانية بما يوحي بقرب النهاية.

يقول "عباس ميلاني" الخبير الإيراني في جامعة ستانفورد: "أعتقد أننا لم نصل إلى النهاية بعد، وخامنئي لا يستطيع أن يستعيد مصداقيته. فهو لا يمتلك القوة التي يستطيع بها إحتواء هذه الحركة. والدوائر الإنتخابية الهامة تؤيد التغيير".

ولقد واجهت الحكومة الإيرانية بمعاييرها المتدنية الإضطرابات التي حدثت نتيجة للإنتصار المزعوم الذي حققه أحمدي نجاد، بعنف بالغ. فلم يكد المرشد الأعلى خامنئي يعلن شرعية نتائج الإنتخابات، حتى أعلن أحد المجالس الرقابية أن عدد الأصوات التي سُجلت في 50 مدينة تجاوز عدد الإيرانيين المؤهلين للإنتخاب بنحو ثلاثة ملايين.

 وفي غضون ذلك، رفض مجلس صيانة الدستور جميع إتهامات التزوير في الإنتخابات الوطنية التي إشتدت فيها المنافسة. وقد شعرت الحكومة بالذعر الواضح، فألقى النظام بالقبض على عدة مئات من المحتجين والصحفيين والأكاديميين. وتم قمع أي شخص يجادل في شرعية الإنتخابات ومن ثم يشكك في نزاهة الحكومة نفسها، وأصبح هدفاً للإعتقال على أيدي قوات الحرس الثوري المعروفة بالباسداران. ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز: "لم تعد الجمهورية الإسلامية الإيرانية حكومة ثيوقراطية، لكنها أصبحت حكومة يرأسها قادة عسكريون".

ويبدو أن ردة الفعل القوية قد أخذت رجال الدين الإيرانيين على غرة؛ بإستثناء خامنئي والذي كما جاء على لسان ميلاني كان قد طلب من مساعديه منذ عدة سنوات أن يقوموا بإجراء دراسة حول الثورات الملونة المزعومة التي تسببت في إسقاط حكومات إستبدادية في الإتحاد السوفيتي السابق. فربما يعتقد خامنئي أن ما تسبب في سقوط الأوتوقراطيات القوية قد يتسبب في سقوط أوتوقراطيته.

والآن يجد خامنئي وحلفاؤه المحافظون أنفسهم في شرك، وبإمكان أي خبير إقتصادي متعقل أن يخبرهم عن السبب. فإيران أصبحت أفقر وأكثر إكتظاظاً بالشباب مما كانت عليه في عامي 1998 و2005، وهي آخر مرة حدث فيها غضب شعبي وتحول إلى إحتجاجات في الشوارع. وفي عام 1996، وفي أعقاب ركود إقتصادي شديد، مثّل الشباب من أعمار تتراوح بين 15 و29 عاماً ما نسبته 28,4% من السكان؛ وبعد عقد من الزمان أصبحوا يمثلون الآن 35% من المواطنين الإيرانيين و70% من العاطلين؛ وهذه من أعلى النسب على المستوى الدولي وأعلى نسبة في منطقة الشرق الأوسط. والكثير من المتظاهرين في شوارع طهران والمدن الكبرى هم من أبناء الإيرانيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم منذ عقدين من الزمان جزءاً من جيل ضائع. والآن يواجه أبناؤهم وبناتهم نفس المصير. ولم يعد لدى الإيرانيين شيء يخشون عليه في صدام مع النظام يستحوذ فيه الرابح على كل شيء.

وبالنسبة للشباب الإيراني المحروم وأيضاً أولئك الذين بلغوا من العمر ما يكفي لأن يكونوا قد شاهدوا الثورة تدمر نفسها، كان الإنتصار المزعوم لأحمدي نجاد بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. فالحكومة الإيرانية البعيدة عن شعبها خلال سنوات الفساد المتوطن والهمجية والوحشية قد تهشمت على مسمع ومرأى من الجميع. وقد تعرض المرشد الأعلى لهجوم شخصي وهو الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه شخص وصولي نظراً لأنه وصل إلى ما وصل إليه نتيجة لمؤامرة حيكت عند إختيار خليفة آية  الله روح الله الخميني الكبير. فآية الله حسين علي منتظري وهو خليفة الخميني الذي تم عزله في عام 1989 بعد أن إنتقد علانية الطابع العسكري للنظام، وتحدى نتائج الإنتخابات ومصداقية خامنئي. وقد إستدعى أعضاء البرلمان الذين أغضبتهم الإجراءات القمعية العنيفة وزراء الداخلية والعدل ورؤساء جهاز المخابرات للتحقيق بشأن ما يحدث من تجاوزات. ويتفاوض هاشمي رافسنجاني الرئيس الأسبق الذي يتمتع بنفوذ سياسي مذهل حول تحالف كبار رجال الدين في مدينة "قم" المقدسة في معارضة للنظام. وبالرغم من أوهام غير المحافظين من الأمريكيين، أصبحت الصفوة الدينية الإيرانية التي لم تكن أبداً أحادية الرؤية في حالة عصيان صريح.

إنها بمثابة  صراع غير المتكافئ، تلك المقاومة التي لا تزال سلمية والتي يرى موسوي أنها المنقذ لحركة أسقطت شاه محمد رضا بهلوي فقط لتحل محلها حكومة يغلبها الطابع العسكري في عهد خامنئي والباسداران. (فكل من خامنئي وأحمدي نجاد لديه علاقات وثيقة مع الباسداران الممثل بشكل جيد في وزراء الحكومة). وفي حين يمتلك خامنئي قوة عاتية تحت تصرفه ولديه نزعة واضحة لإستغلالها، ينبغي أن يظهر موسوي قدرة على ضبط النفس وإلا سيخاطر بسلطته المعنوية. وفرصة حدوث إتفاق بين خامنئي وموسوي ضئيلة نتيجة لغياب الإستعداد لدى أي من الطرفين. وقد تحتاج المفاوضات الناجحة إلى تنازلات، ويتذكر كلا الرجلين المدة التي استمر خلالها الشاه بعد أن تولى الحكم، كرد فعل  للمعارضة المتزايدة لحكمه ومسئوليته جزئياً عن التجاوزات التي إرتُكبت في حق الشعب الإيراني.

  ومع ذلك، هناك قيود تحيط بخامنئي والتي إن إستُغلت بذكاء يمكن أن تدمر ما تبقى من مصداقيته. فمثلاً تم مؤخراً إستغلال التقنيات الحديثة في العصيان حيث كشفت الهواتف المزودة بكاميرات والرسائل النصية عبر موقع "تويتر" فظائع الحرس الجمهوري وكبحت جماح نظام يخشى ظهور شهداء جدد. يقول كريم سادجادبور الخبير الإيراني والزميل في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي بواشنطن: "يدقق خامنئي في إستخدام القوة، فهو يدرك أنه في عام 1978عندما زاد عدد الناس الذين قتلهم الشاه، زادت مراسم الحداد وما لبثت أن تأججت تلك الإحتجاجات أكثر وأكثر. وبمرور الوقت فقد الشعب الإيراني الثقة في شرعية نظام الشاه. وهذا هو ما يحدث بالضبط في الوقت الراهن".

وعلى عكس زعماء الحركة الصينية التي ظهرت منذ عشرين عاماً وكانت تنادي بالديمقراطية وقُدر لها الفشل (يبدو أن عام 2009 سيكون مليئاً بالمناسبات المشئومة) تبدو أن المعارضة في إيران قد تبنت إنسحاباً تكتيكياً. ووفقاً لسادجادبور، ربما تستغرق المرحلة التالية للحركة شهوراً إن لم يكن سنوات. ونظراً للقمع الذي يواجهه من يعبرون عن إحتجاجهم في الشوارع من قبل قوات الشرطة، قد يدعو موسوي وحلفاؤه إلى إضراب عام يشل حركة الإقتصاد المحاصر بالفعل. ويرتكز نجاح هذه الخطوة على دعم زعماء الطبقة التجارية القوية؛ والذين مثلوا حلفاء أساسيين لرجال الدين في عصيانهم منذ ثلاثين عاماً فقط ليروا التجارة وهي تذهب أدراج الرياح نتيجة للعقوبات الدولية وسوء إدارة الإقتصاد.

ويظل زعماء التجارة ذوى نفوذ بالغ، حتى بالرغم من أن الثورة كانت مدمرة بالنسبة لأنشطتهم وأعمالهم، فربما يصبحون بمثابة جماعة هامة للإنقلاب على النظام".

كما أن الفوضى والإنشقاقات في إيران وضعت حداً لإعتقاد إدارة بوش السابقة أن إيران بمثابة قوة إقليمية صاعدة. فإيران التي كانت تتميز بأنها قوة موحدة يمكنها زعزعة الإستقرار في الشرق الأوسط، لأنها في حقيقة الأمر نظام سيئ للغاية تدعمه أنظمة غامضة وإئتمان سهل يتم تمويله من خلال قطاع النفط في البلاد. وتواجه إيران عجزاً في ميزان المدفوعات يعادل حوالي 10% من إجمالي الناتج المحلي.

غير أنه على نقيض المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول الغنية المنتجة للنفط، تفتقر طهران إلى الإحتياطيات اللازمة لتغطية فجوة متسعة في النقد الأجنبي نتجت عن إنخفاض أسعار النفط. ولكي تعوض ذلك، يتحتم على إيران إما أن تزيد الصادرات غير النفطية، ويتطلب ذلك عملة إيرانية أرخص لإكساب السلع المحلية أسعاراً تنافسية أكثر في الخارج؛ مما سينجم عنه معدلات تضخم أعلى نتيجة لذلك، وإما أن تخفض من حجم الواردات.

وخلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، تحولت شركات إيران المملوكة للدولة إلى الإقتراض قصير الأجل من المقرضين الأجانب وهو خيار لا يوجد اليوم في بيئة تعاني أزمة في الإقراض. وكانت تلك الشركات تواجه نقصاً في رؤوس الأموال في ظل تباطؤ النمو الإقتصادي.

ويعتبر الفساد في إيران اليوم أسوأ بكثير مما كان عليه في عهد الشاه. فقد ظل الحرس الجمهوري لسنوات يقيم إمبراطورية إقتصادية خاصة به، مع وجود إستثمارات له في شركات الطاقة في الخليج، وشركات الإنشاء (بما فيها شركة جهاد للبناء وهى شركة تشييد كبرى)، وشبكة مترو الأنفاق في طهران وبوابات المطارات. كما أن الحرس الجمهوري يسيطر على منشآت الطاقة النووية بالبلاد، والتي تعد مصدراً لكثير من القلق الدولي، ومركزاً لمصانع الصواريخ بعيدة المدى.

 ثم هناك المؤسسات الخيرية والتي تعرف بـ "بونياد"، ويقدر عددها بالمئات وتستثمر في كل شيء بداية من مزارع فول الصويا إلى الفنادق. وتأتى معظم إيراداتها من تجارة التهريب الواسعة، وتمثل تلك الإيرادات نحو 30 % من الإقتصاد الإيراني. ولا تخضع المؤسسات الخيرية للضرائب، وهى متحررة من السيطرة المباشرة للحكومة وتعتمد الآن بشكل أساسي على برنامج إيران الضخم للخصخصة.

 ومما يزيد الأمور سوءاً أن إيران تستهلك من مخزونها النفطي -وهو شريان حياة الإقتصاد- أسرع مما يمكن أن تجدده. ورغم أنها تنعم بأحد أكبر إحتياطيات النفط في العالم، إلا أن المتوقع أن تصبح طهران مستوردة خالصة للنفط بحلول عام 2020 بسبب نقص مزمن في الإستثمار في مجالات الطاقة.

 ويعتبر تحدي إصلاح الدولة الإسلامية مهمة شاقة تماماً، مثلما أن إزالة النظام الذي حول الدولة إلى ركام مهمة محفوفة بالصعاب. وعلى الجانب الآخر، كان إفساد أحمدي نجاد للإقتصاد هو الذي وضعه في موقع دفاعي خلال الحملة الإنتخابية، ويشير كم هائل من الأدلة إلى أن ذلك إضطره هو وحلفائه إلى التحايل على النتائج. وربما كان خامنئي على الأقل يقترب من الصواب عندما قال فى عبارة شهيرة أن ثورة عام 1979 لا علاقة لها بسعر البطيخ. فمثل كل الثورات الناجحة، كانت الثورة تتعلق بكرامة الإنسان ومسائلة الحكومة، مثلما كانت تتعلق بالتجارة. وقام خلفاء خامنئى بتفريغ الثورة من جوهرها عن طريق تقريب الدخلاء على الثورة بينما يحرمون الناس من أبسط حقوقهم.

 والثورات مثل الحروب الإستبقائية، تحكمها بنية عضوية ولا يمكن التنبؤ بها. وتتحول طليعة حركة واحدة غالباً إلى مجرد شعار لغيرها. (فقط اسأل أي ثوري إشتراكي جيد، إذا أمكنك العثور على مثله). والأرجح أن تتخذ الفصائل المتحاربة في الدراما الفارسية الحالية أشكالاً مختلفة كلما إزداد أمد النضال، ناهيك عن أنها تبدو متمايزة اليوم. ويبدو أن كلاً من الحكام والمتمردين يعدون لحصار طويل. ونعيد صياغة عبارات ونستون تشرشل، وهو الرجل الذي فهم السلطة والصراع أكثر مما فهم تطلعات الشعوب المقهورة، فنقول إننا يمكن أن نشهد "نهاية بداية" نضال الإيرانيين من أجل التجديد. وعلى الطريقة الإيرانية نقول، إن أكثر القوى حسماً تلك التي لا نراها.

ستيفن جلين - محرر مقيم بواشنطن وكاتب متخصص في شؤون الشرق الأوسط وآسيا.

font change