كيف تحكم الحركة قطاع غزة؟

كيف تحكم الحركة قطاع غزة؟

[escenic_image id="5510060"]

في الخامس والعشرين من يوليو 2006، فازت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالانتخابات الوطنية الفلسطينية. وبينما جاء هذا النصر الانتخابي تتويجًا لمسيرة طويلة من الاندماج السياسي المتواصل، فقد قوبل بالاستياء ليس فقط من جانب إسرائيل والمجتمع الدولي ولكن أيضا من جانب منافستها بالداخل، ألا وهي فتح. وقد استجابت إسرائيل والجبهة الرباعية (المكونة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا) بمحاولة تقويض الحكومة التي تتزعمها حماس من خلال العزلة السياسية والاقتصادية، وفي نفس الوقت دعْم سلطة محمود عباس على أمل أن يؤدي ذلك إلى دفع حماس نحو  موقف أقل تشددًا، والتشكيك فيها إلى الحد الذي يدفع الشعب الفلسطيني إلى إقصائها عن السلطة بمحض اختياره. بل إن فتح التي اعتادت دائما على السيطرة على الملعب السياسي، لم يتسن لها أن تقبل بهزيمتها الانتخابية، وحاولت بشكل صريح القضاء على قدرة حماس على الحكم. وقد استتبع ذلك صراع دموي متزايد على السلطة مع قيام الفصيليْن بتعبئة ميليشيات عسكرية وتكديس السلاح واللجوء إلى أعمال القتل داخل الأراضي المحتلة. وبحلول يونيو عام 2007، تدهور الوضع بحيث تحولت الاشتباكات بين الفصيلين إلى صراع شامل من أجل السيطرة على قطاع غزة. وفي أقل من إسبوع دهمت حماس المنشآت الأمنية للسلطة الفلسطينية ومراكز فتح الرئيسية لتستولي على قطاع غزة.

تاريخ التنافس

نجحت حماس في خلال العامين التاليين لهذا الانقلاب العنيف في إحكام قبضتها على قطاع غزة، بالرغم من استمرار العزلة السياسية والاقتصادية، وتدهور البيئة الأمنية. وقد أتت التحديات الخارجية التي تواجهها حماس في إدارة قطاع غزة نتيجة للضغوط التي تمارسها السلطة الفلسطينية من مقرها في الضفة الغربية، والتي قامت بمقاطعة الأمن والقضاء والقطاعات الحكومية الأخرى في قطاع غزة، مباشرة بعد استيلاء حماس على السلطة، مما أدى إلى بتْر الروابط الإدارية التي تربطها بحكومة حماس. كما حثت السلطة الفلسطينية موظفيها العاملين في القطاع العام، بالامتناع عن العمل، وإلَّا تعرضوا لخطر إلغاء رواتبهم الحكومية. كما سعت السلطة الفلسطينية لحرمان حكومة حماس من الحصول على الإيرادات الحكومية بإعلانها عن توقف الحكومة عن جباية الضرائب في جميع أنحاء قطاع غزة، واكتفت بدفع الرواتب بشكل غير منتظم لبعض موظفي القطاع العام الثانويين (مثل عمال النظافة في المستشفيات وعمال البلدية). وبالإضافة إلى ذلك، فقد منعت السلطة الفلسطينية، المتمركزة في الضفة الغربية، دعم الوقود من الوصول إلى قطاع غزة قي كثير من الأحيان. ووفقا لما ذكرته مجموعة الأزمات الدولية، فإن السلطة الفلسطينية لم تكتفِ بذلك، بل ضغطت على الجهات المانحة لتأجيل المشاريع الجديدة المزمع القيام بها في غزة. كما تضمنت التحديات الخارجية الأخرى التي تواجهها حماس الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، والذي يحظر الصادرات ويحد بشدة من الواردات ويحرم مرور أكثر من 100،000 من العمال من غزة إلى داخل الأراضي الإسرائيلية. وقد قامت إسرائيل في أواخر عام 2007، بمواصلة خفْض الإمدادات الغذائية الواردة إلى قطاع غزة، ردًّا على استمرار القصف الفلسطيني، كما قامت أيضا بخفض واردات الوقود وتقييد إمدادات العملة الأجنبية، وهي سياسة ما زالت إسرائيل تتبعها حتى اليوم ولكن مع بعض التغيرات الطفيفة. وكنتيجة لذلك، فقد حاق الدمار بالكثير من الصناعات في غزة مثل التصنيع والبناء والنقل، كما تم تسريح الجزء الأكبر من العاملين في القطاع الخاص. ومن ثَمَّ تواجه حماس ضغوطًا متزايدة لكسر الحصار من أجل وقف انهيار الاقتصاد في غزة. وبالتالي تعتمد قدرة حماس على حكم غزة اعتمادًا كبيرًا على هاتين القوتين الخارجيتين. فلن ينتعش اقتصاد غزة إلا إذا رفعت إسرائيل الحصار الذي تفرضه على غزة من ناحية، وأفرجت السلطة الفلسطينية عن أموال القطاع العام في قطاع غزة من ناحية أخرى.

وداخل قطاع غزة، اضطرت حماس أيضا للتغلب على عدد من العقبات، ومن بينها شبكة غزة القوية والمدججة بالسلاح من العشائر والأسر والميليشيات التي تنتمي لأطراف أخرى متعددة. ولم تتضمن هذه الميليشيات المنافسين التقليديين العلمانيين فقط مثل فتح، ولكنها شملت أيضا عناصر أسلامية أخرى مثل حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، وعددا متزايدا من الجماعات الموالية لتنظيم القاعدة، وبينها أخيرا جماعة جند أنصار اللـه.

إلا أنه بالرغم من التحديات الهائلة،  لم تتمكن حماس من البقاء فقط ولكنها استطاعت تعزيز سلطتها أيضا. وقد فعلت ذلك باختيار التركيز على العوامل التي تستطيع السيطرة عليها، مثل تحدياتها الداخلية، بينما تستمر في التصرف باعتبارها حركة مقاومة تجاه أولئك الذين لا تستطيع السيطرة عليهم، مثل العناصر الخارجية على النحو الذي تمارسه إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

واستخدمت حماس الأمن لتُثبت صلاحيتها للحكم، وقد حققت نظامًا داخليًّا مُحكمًا نسبيًّا عن طريق احتكارها لممارسة العنف دون منازع وذلك باستخدام جهازها الأمني الذي أُعيد تنظيمه. وبناءً على ذلك، فشل حصار غزة الذي نفذته إسرائيل والأطراف الدولية على أمل عزل وإقصاء حماس في نهاية المطاف في إضعاف الحركة. وبدلا من ذلك، سهَّل الحصار قدرتها على الحكم دون عائق في الوقت ذاته، وذلك عن طريق تهميش التأثيرات الأكثر اعتدالا داخل الجماعة.

وبينما قد يُلقى سكان غزة باللوم على حماس لعدم قدرتها على إنهاء الحصار، فهم يلومون إسرائيل أيضا على فرضه، كما يلومون المجتمع الدولي على دعْمه وكذلك حركة فتح على السكوت عليه. ونتيجة لذلك، تمتعت حماس بالحرية في إعادة تشكيل المشهد السياسي في غزة وتعزيز موقفها من خلال جعْل الأمن الداخلي واستخدام القوة هما العمود الفقري لحكمها الإداري في المنطقة.

احتكار ا لعنف

أرست حماس الأسلوب الذي ستدير به غزة خلال استيلائها القمعي على المنطقة في يونيو من عام 2007. وأثارت المواجهة التي أدت إلى الانقلاب، مخاوف حماس الأمنية حينما أصرت حركة فتح على الاحتفاظ بالسيطرة على الأجهزة الأمنية في قطاع غزة في مواجهة جهود حماس الحثيثة من أجل وضْع هذه القوات الأمنية تحت سلطتها.

وكانت حماس تعلم أن موقفها في السلطة لن يكون آمنًا أبدًا حقًا ما لم تدعمه القوة، ولهذا سعت حماس أيضا إلى الاعتراف الرسمي بقوة الدعم التنفيذي التابعة لها؛ وهي قوة أنشئت بعد نصرها الانتخابي في عام 2006، وهى تمثل الآن شرطة غزة. وكان استيلاء حماس على القطاع الناتج عن ذلك عنيفًا بشكل ملحوظ، وأدى سفْك الدماء المروِّع إلى قتْل عدد من الفلسطينيين في عام 2007، يفوق عدد مَن قُتلوا في الصراع مع إسرائيل.

وتم اعتبار التجمعات العامة غير المرخص لها، وخاصة إذا ما ارتبطت بحركة فتح، على أنها تعكير للأمن وتم تفريقها أحيانًا باستخدام الذخيرة الحية. وتم أيضا قمْع أعمال العصيان الصغيرة بوحشية مع استخدام القوة غير المتكافئة في كثير من الأحيان. وفى حين استهدفت حماس الجماعات الأمنية المنافسة ومجتمع غزة المدني، صرحت منظمات حقوق الإنسان بأن تعداد المعاقين في غزة قد تضاعف خلال أربعة أيام. وتميز كل من استيلاء حماس على القطاع وحملتها اللاحقة من أجل السيطرة على المنطقة بأعمال الاعتقال غير المبرر والإعدام بدون محاكمة والتعذيب. والأمور التي أسفر عنها الاستيلاء على كل مؤسسات السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، هي القمع المنتظم للمعارضة السياسية والمدنية، وتقوية نظام الرقابة والمراقبة وتعزيز الأجهزة الأمنية لحماس، والتي تُستخدم بلا خجل لتنفيذ هذه التغييرات. وهكذا، تحولت كتائب عز الدين القسام، وهى الجناح العسكري لحماس، من قوة سرِّية للفدائيين إلى قوة عسكرية ترتدي الزي الرسمي ومنظمة ذات فاعلية مسئولة عن قمع الجماعات المسلحة داخل قطاع غزة وحمايتها من الهجمات الخارجية أيضا.

كما حولت حماس قوة الدعْم التنفيذي إلى ثلاثة فروع مسئولة عن إدارة الأمن الداخلي في غزة: وهى الشرطة المدنية وقوات الأمن الداخلي (وهى جهاز المخابرات) وقوات الأمن الوطني (قوة شرطة الحدود). وبعبارة موجزة؛ أرست حماس أسس الحوكمة الإدارية في قطاع غزة وحافظت عليها من خلال احتكار الأمن بلا منازع، مما أعطاها القدرة على السيطرة على منطقة ظلت تحكمها العشائر المتنافسة والميليشيات المتناحرة حتى الآن.

وفي حين كان هناك بالتأكيد انخفاض كبير في الفوضى الداخلية نتيجة لذلك، فقد كانت الاستجابة الشعبية متباينة، فبينما يشعر بعض سكان غزة بالراحة لاستعادة القانون الداخلي والنظام، يواصل آخرون العيش في حالة من عدم الثقة، وتُقْلقهم هيمنة حماس ويخافون من استخدامها للقوة والعنف.

وتوجد مبررات لبعض هذه المخاوف على الأقل، حيث إن حماس استخدمت أيضا هذه القوات الأمنية المتحولة لقمع أي تحديات تمثلها الميليشيات والعشائر المتنافسة لتوطيد سيطرتها على قطاع غزة. وقد اكتسبت العشائر القوة بشكل مطرد في قطاع غزة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، عندما أدت التوغلات الإسرائيلية إلى التسليح السريع للعائلات التي تدخلت لتوفير الحماية العسكرية والدعم الاقتصادي والبنية التحتية التي لم تستطع الحكومة توفيرها. إلا أنه بعد استيلاء حركة حماس على القطاع، تم شن حملة لتفكيك القوة العسكرية والاقتصادية لعشائر غزة. وتم نزع سلاح العائلات بالقوة أحيانا، وإخضاع اقتصادها  غير الرسمي للرقابة والتنظيم، وقلَّصت السلطات بشكل حاد الأنشطة الإجرامية المرتبطة بهذه العائلات، مثل الخطف وسرقة السيارات وتهريب المخدرات. وقد عزز تراجع نفوذ العشائر قدرة حماس على حكم غزة بفاعلية، ورحب الكثيرون في قطاع غزة بالاستقرار الناتج وتهدئة المجتمع رغم أن بعض المراقبين اتهموا حماس بتأليب القبائل ضد بعضها البعض من أجل توطيد حكم حزبهم.

وقد تعززت قدرة حماس على إدارة قطاع غزة بشكل فاعل من خلال السيطرة على العديد من الميليشيات المسلحة. وتسبب رحيل زعامة فتح عن قطاع غزة أثناء استيلاء حماس عليها في انقسام الحركة، وفقْدها للتوجه وتدهور الروح المعنوية للميليشيا التابعة لها. وحتى مع ذلك، اعتمد البعض داخل حركة فتح إستراتيجية الكفاح المسلح، والعمل تحت قيادة مقسمة ولجأوا إلى خُطط تذكِّرنا بتلك التي استخدمتها حماس خلال الانتفاضة الأولى.

وتضمنت خططهم الجديدة الكتابات على الجدران وإطلاق النيران والتفجيرات، واستهدافهم المتصاعد لإسرائيل أملا في أن يثير ذلك رد فعل عسكري إسرائيلي ضد حماس. وقد تجاوبت  حماس مع ذلك بمصادرة الأسلحة واعتقال السياسيين وأفراد قوات الأمن والمسلحين المشتبه فيهم، وقمعها بعنف لأولئك الذين يرتبطون بفتح أو الذين يُشتبَه في دعمهم لها أو تعاطفهم معها. ونتيجة لذلك، تم سحْق التحدي الذي مثَّلته حركة فتح في قطاع غزة على نحو فعال، وإن كان بطريقة عنيفة.

وتمثل الجماعات الإسلامية مثل الجهاد الإسلامي الفلسطيني تحديًا رئيسيًّا أيضا لموقف حماس، بوصفها الذراع الأساسية للمقاومة الوطنية الإسلامية، وقد مالت حماس إلى كبح أنشطتها من خلال مصادرة الأسلحة ومراقبة عمليات التدريب والحد منها، وأحيانًا السيطرة بالقوة على مساجدها.

في الوقت نفسه، وبينما حدَّت حماس بشكل صارم من استخدام القوة من جانب الميليشيات داخل قطاع غزة، فقد غضَّت الطرف في معظم الأحيان عن أنشطتها ضد إسرائيل، وتهربت بشكل دائم من كبح إطلاق الصواريخ على إسرائيل أو تفكيك صناعة إنتاج الصواريخ والتي تجعل هذه الهجمات ممكنة.

وحين قامت بذلك، أوضحت حماس أنها لن تكسب الكثير بإقناع الميليشيات بمهاجمة إسرائيل، وخاصة في ضوء الحصار الإسرائيلي المتواصل وعمليات التوغل العسكرية في قطاع غزة. وفي الوقت نفسه، حين سيطرت حماس على نشاط الميليشيات داخل قطاع غزة، أشارت الحركة بشكل واضح إلى أنها لن تتسامح مع أي عقبات أمام سلطتها وتحكمها الداخلي. إلا أن حماس اتخذت بشكل تقليدي ملحوظ إجراءات أشد قسوة ضد الفصائل الإسلامية الأكثر تشددا، والتي ظهرت في الآونة الأخيرة على الساحة السياسية في غزة. وكانت الحملة على جماعة جند أنصار اللـه في أغسطس 2009، على سبيل المثال، واحدة من أكثر الأحداث عنفًا في غزة منذ بدء العملية الهجومية الإسرائيلية المسماة بـ"الرصاص المصبوب". ورمزت الحملة لتعصب حماس العميق تجاه أي منافس سياسي داخلي، وخاصة ممن يمكن أن يكونوا مرتبطين حتى من بعيد بفكر السلفية الجهادية.

وقد ينبع هذا الموقف من رفْض حركة حماس لمحاولات القاعدة المتكررة للاستفادة من القضية الفلسطينية، وإيجاد موطئ قدم لها في الأراضي الفلسطينية. وبالإضافة إلى ذلك، فرغم أن انتماءاتها وأنسابها لا تزال غير واضحة، فقد تخشى حماس أيضا من أن تمد هذه الفصائل المتشددة جماعات القاعدة بمعلومات عن الطرق الداخلية في قطاع غزة، وحينما تفعل ذلك ستفتح القطاع أمام تدخل إسرائيلي ودولي غير مسبوق، وبهذا تتغير الظروف التي بموجبها نجحت حماس في تأسيس وتعزيز حكمها.

التحدي الصعب

بالرغم من أن  التركيز على الأمن الداخلي هو المحور الأساسي في البرنامج الذي وضعته حماس لإدارة غزة، فإنها لم تستطع إجبار إسرائيل على رفع الحصار المفروض على غزة بعد الاستيلاء الذي حدث في عام 2007، بالرغم من جهودها المتكررة للقيام بذلك.  وقد نجح هذا الحصار في توليد ضغوط اقتصادية كبيرة لم يسبق لها مثيل في قطاع غزة. حيث ذكرت أخيرًا وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة، أن عدد سكان قطاع غزة الذين يعيشون في "فقر مدقع" قد تضاعف ثلاث مرات ليصل إلى 300000 شخص هذا العام. وبعبارة أخرى، فإن واحدًا من كل خمسة من سكان غزة قد أصبح يعد الآن فقيرًا معدمًا. ونتيجة لهذه الظروف، فقد أصبح الهدف الاقتصادي الأول لمنظمة حماس هو البقاء على قيد الحياة. ولكن في الوقت نفسه، فإن العقوبات الاقتصادية وما نتج عنها من انهيار القطاع الخاص، كانت بمثابة مزيج من النعمة والنقمة للسلطات التابعة لحماس. فمن ناحية، خلق الخنق البطيء لاقتصاد غزة أزمة إنسانية، وولّد سخطًا شعبيًّا، وحدَّ من قدرة حماس على الحكم. ولكن من ناحية أخرى، فقد سمح الاختناق البطيء للاقتصاد لحماس بتحقيق الهيمنة الاقتصادية على نحو فاعل وتشديد قبضتها على قطاع غزة.

وهناك مجموعة من العوامل التي أعطت حماس الفرصة لتمويل نفسها وأنشطتها، وساعدتها على منع حدوث انهيار اقتصادي تام. فأولا، وبالرغم من العداء الشديد والانتهاكات المتعددة، فإن السلطة الفلسطينية بقيادة فياض لا تزال أكبر مساهم في ميزانية الرواتب في غزة، وبالتالي فإنها تعد القوة الرئيسية التي تحرك السوق الفلسطينية. وبالنظر إلى أن حوالي 50 ٪ من القوة العاملة في غزة مكونة من الموظفين الحكوميين الذين يتقاضون راتبًا من الحكومة، فإن هذه المساهمة من جانب السلطة الفلسطينية تعد مصدرًا حيويًّا لا غنى عنه من مصادر الدعم الاقتصادي لحكومة حماس. ومن المفارقات العجيبة أن يكون استيلاء حماس على غزة، واستعادة الحكم من حماس في الضفة الغربية، هما الدافع وراء استئناف إسرائيل للتحويلات الجمركية التي ملأت خزائن السلطة الفلسطينية بالأموال من جديد، ومكَّنتها من مساعدة قطاع غزة. وثانيا، فقد واصلت الأمم المتحدة وغيرها من الجهات الدولية المانحة ضخ الأموال إلى قطاع غزة لصالح عمليات الإغاثة، بينما قامت هذه الجهات في الوقت نفسه بزيادة المساعدات الإنسانية التي تقدمها بشكل كبير كتعويض عن الانخفاض الحاد الذي حدث في مساعدات التنمية منذ منتصف عام 2007. ووفقا لما ذكرته مجموعة الأزمات الدولية، فقد أنفقت وكالات الأمم المتحدة أكثر من 350 مليون دولار في قطاع غزة في عام 2008 وحده. كما وجدت حكومة حماس وسائل جديدة ومبتكرة للحصول على المزيد من الأموال. فعلى سبيل المثال، في الأشهر الأولى بعد الاستيلاء على الحكم، حددت الحكومة كفالة مقدراها حوالي 400 دولار للإفراج عن المحتجزين الذين تم الاشتباه في قيامهم بأنشطة معادية لحماس. كما لاحظ المراقبون أن التبرعات الأجنبية قد أسهمت أيضا بشكل كبير في زيادة عائدات الحكومة في قطاع غزة. فقد قدمت إيران، على سبيل المثال، إسهامات كبيرة بالإضافة إلى الإسهامات التي قدمتها الدول الخليجية الأخرى. وقد تراوحت الإيرادات التي حصلت عليها حكومة حماس من التبرعات الأجنبية بين 150 مليون دولار، 200 مليون دولار. وأخيرًا، فقد استفادت حماس أيضا من إنشاء واحتكار وتنظيم أنفاق من أجل القيام بعمليات تهريب مكثفة بين غزة ومصر، حيث أصبحت هذه الأنفاق في ظل هذه البيئة السياسية التي يتم فيها فرض العقوبات على كل شيء - باستثناء قائمة محدودة من المساعدات الإنسانية ـ بمثابة شرايين الحياة الحيوية لقطاع غزة. فحماس لا تسيطر على غالبية هذه الأنفاق فحسب، بل إنها تقوم أيضا بتحديد الأسعار وجباية الضرائب على جميع البضائع التي تمر عبرها. ووفقا لأحد أصحاب المتاجر في غزة، فقد ضم فرض ضريبة قيمة مضافة نسبتها حوالي 14.5 ٪ على كل البضائع التي تأتي عن طريق الأنفاق.

إلى متى السيطرة ؟

في العامين التاليين لاستيلاء حركة حماس على السلطة، لم تتمكن حماس فقط من النجاح في "إدارة الأزمة"، ولكنها تمكنت أيضا من توطيد سلطتها وشل حركة خصومها المحتملين. فمعظم الوزارات ومؤسسات القطاع العام قد تم تطهيرها تمامًا من الموالين لحركة فتح، كما تمت الاستعاضة عنهم بالمتعاطفين مع حماس، مما ساعد على خلق نظام حكم مستقر إلى حد ما، إن لم يكن نظاما صارما. حيث يبدو إن نموذج نظام الحكم الذي تقدمة حماس يعتمد على تأمين النظام الداخلي وتوطيد النظام من جهة، ورفْض التنازل عن المبادئ الرئيسية للحركة من جهة أخرى فيما يتعلق بمنافسي الحركة من الخارج مثل إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

ومع ذلك، فإنه حتى ولو كانت حماس قد تمكنت من البقاء على قيد الحياة في ظل ظروف وضغوط غير عادية، فإن غزة لا تزال مكشوفة وهشة وضعيفة. فعلى سبيل المثال؛ الوضع الاقتصادي الحالي لا يصلح للبقاء أو الاستمرار على المدى الطويل. كما لم تنجح هجمات حماس على إسرائيل وما نتج عنها من "حرب على غزة" في تغيير الوضع على الأرض. فالمعابر بقيت مغلقة لمعظم الوقت، والتعمير وإعادة التأهيل يسيران بخطى بطيئة مثل القواقع، والصواريخ ما زالت تُطلَق على إسرائيل، والأنفاق من مصر ما زالت تستخدم لتهريب الأسلحة. ومن الواضح أيضا أنه ما لم يتم رفع الحصار فإن حماس ستظل تشن الهجوم تلو الآخر على إسرائيل، وأن المسألة ليست سوى مسألة وقت قبل أن تقوم إسرائيل بشن حرب جديدة على غزة ردًّا على تلك الهجمات. وعلاوة على ذلك، فإنه إذا لم يحدث تقارب بين الفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فمن غير المحتمل أن يسمح المجتمع الدولي بحدوث انتعاش في قطاع غزة، خوفًا من أن يؤدى هذا إلى مساعدة حماس بشكل غير مباشر. وفي نفس الوقت، فلن تتخلى حماس ولا فتح بسهولة عن قبضتها على السلطة. ومع ذلك، فالمصالحة الفلسطينية أمر أساسي لا بد منه، لأنه بدون ذلك سيستمر الحصار، والأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة والتي ستؤدى في نهاية المطاف إلى نزْع الشرعية عن إنجازات حماس الأخرى، مما سيؤدي في النهاية إلى عرقلة كل الجهود التي تبذلها حماس للسيطرة على الحكم في غزة.

font change