ماذا بعد مرور ثلاثين عاما على حصار مكة

ماذا بعد مرور ثلاثين عاما على حصار مكة

[caption id="attachment_55227578" align="aligncenter" width="620" caption="جهيمان العتيبي"]جهيمان العتيبي[/caption]

كان العشرون من نوفمبر(تشرين الثاني) عام 1979، الموافق غرة محرم من عام 1400 هجرية، هو نفسه اليوم الذي شهد حصار مكة. وهكذا استهل القرن الخامس عشر الهجري بتدنيس للمقدسات بلغ في فداحته أن آثاره لم تتبد للمراقبين، بل وللمؤمنين إلا بعد ردح من الزمن. وفي ذلك اليوم قطع مائتا مسلح على المصلين بالمسجد الحرام صلاتهم وكانوا من أتباع محمد القحطاني، الذي ادعى أنه المهدي المنتظر. وقد اعتمد الأتباع في ولائهم هذا على حديث نبوي فحواه أن المهدي سيظهر في آخر الزمان في موضع بين مقام إبراهيم وأحد أركان الكعبة. وقد تولى جهيمان العتيبي، صهر القحطاني قيادة المتمردين، وبرر جهاد نهاية الزمان - حسب زعمه - بالدافع إلى تطهير الإسلام. وقد بدأ حملته بالمسجد الحرام.

واستمر الحصار اسبوعين، ونتج عنه وقوع مئات الضحايا وتدمير جزء من الحرم المقدس. وقد شهد الشعب السعودي والعالم الإسلامي كله في ذعر شديد، تحويل أتباع العتيبي الساحة المكية إلى ساحة للقتال. أما المتمردون الذين كانوا غارقين في سيناريو أحداث النهاية الخاص بعقيدتهم حيث كانوا مدججين بالأسلحة والعتاد، فقد أصبحوا في عزلة تامة، ولم يكن من منشوراتهم إلا أن أثارت الصدمة بين الناس والكفر بما يدعون. لقد قوبلت ثورة أتباع المهدي المزعوم بعدم التصديق حتى إن نظريات المؤامرة بدأت تطفو إلى السطح، وقام متظاهرون متشددون باقتحام مبنى السفارة الأميركية في باكستان زاعمين أن كل ذلك كان بمثابة مؤامرة أميركية. وقد تمخضت الحوادث عن مقتل القحطاني بينما بقي العتيبي على قيد الحياة ليتم إعدامه لاحقا مع عشرات المتمردين. ومنذ ذلك الحين ارتبطت الحركات الجهادية الثورية في المملكة في الأذهان بتدنيس المقدسات وأصبح المجتمع السعودي ينظر إلى أي انتحال لشخصية المهدي بعين الشك.

[caption id="attachment_55227585" align="alignleft" width="218" caption="عبدالله عزام"]عبدالله عزام[/caption]

وبينما انتهت رسالة العتيبي بنهاية حياته فقد انفتحت جبهة جديدة للجهاد في الشرق: فقد قام الجيش السوفييتي بغزو أفغانستان في 27 ديسمبر (كانون الثاني) عام 1979 واحتشدت المقاومة تحت لواء الجهاد في مواجهة الاحتلال الأجنبي منحية الاختلافات اللغوية والعرقية جانبًا. لقد كانت حركة الجهاد الأفغاني الحلقة الأخيرة في سلسلة طويلة من حركات معاداة الكولونيالية التي كانت مناوئة للهيمنة الأوروبية. وقد شهد التاريخ حركات مماثلة تحت قيادة شخصيات كاريزمية مثل عبد القادر الجزائري في الجزائر (1832-1847)، وشاميل في القوقاز (1834 - 1859) وعمر المختار في ليبيا (1911-1931). وقد حارب الأفغان من أجل تحرير بلدهم وعلى مدى ما يقرب من عشر سنوات من الجهاد ضد السوفييت، لم يصدروا العنف خارج حدود أفغانستان.

وقد طلب المجاهدون الأفغان من إخوانهم المسلمين تأييد انتفاضتهم القومية ودعمها سياسيا وماديا، إلا أنهم كانوا بحاجة إلى السلاح أكثر من حاجتهم إلى المتطوعين نظرا لتوافر عدد كبير من المجاهدين ضد السوفييت. ثم قام اثنان من أعضاء حركة الإخوان المسلمين المتشددين، هما عبد اللـه عزام وأسامة بن لادن، بإنشاء مركز الخدمات في باكستان، وهو عبارة عن شبكة دولية لإمداد المجاهدين ضد السوفييت بالمال والرجال. وقد تم إطلاق هذه العملية في سرية تامة ولم يتم تطويرها إلا في الفترة بين عامي 1986 -87. ولقي آلاف من المتشددين العرب ترحابا في معسكرات التدريب في غرب باكستان ولم يعبر الحدود من أجل القتال الفعلي في أفغانستان إلا بضع مئات منهم، وحتى هؤلاء كانت جهودهم في تحرير أفغانستان لا تذكر.

جان بيير فيليو

وقد احترم عزام نضال الأفغان من أجل الحرية، بينما خطط بن لادن لتنظيم وحدات عربية مستقلة من المتطرفين الجهاديين. وقام بتأصيل هذه الرؤية تحت تأثير أيمن الظواهري وغيره من المتشددين في حركة الجهاد الإسلامي المصرية.
ووفقا لهذه الرؤية، كان تحرير البلدان الإسلامية من الاحتلال الأجنبي يمثل شقا واحدا من جهاد شامل كان يطمح إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية التي وصمت بالأنظمة المارقة. وقد أدى هذا الاتجاه التكفيري إلى عزل هذه الجماعة عن باقي أعضاء حركة الجهاد وكان عاملا أساسيا في التأسيس السري لتنظيم القاعدة في أغسطس (آب) عام 1988. وأصبح لزاما على كل أعضاء تنظيم القاعدة أن يدينوا بالولاء التام والشخصي لبن لادن. ولم يجد عزام مكانا له في هذا المخطط الكبير وقتل في انفجار لغم في نوفمبر عام 1989.

حركات جهادية متصارعة


في أوائل التسعينيات، أصبح المناخ مهيأً لعهد جديد من التنافس بين الجهاد الثوري والجهاد القومي. وقد لعب تنظيم القاعدة الناشئ على كلا الحبلين، من أجل الترويج لأجندته الأصلية الداعمة للجهاد العالمي. ثم عاد المحاربون الأفغان المخضرمون إلى العالم العربي. وبينما كانت مؤهلاتهم العسكرية محل جدل في الغالب إلا أن حضورهم السياسي كان مؤثرًا. وفي مصر والجزائر كان لهم دور في ترجيح كفة تصعيد الحملة التي شنها الإرهاب الجهادي ضد النظام الحاكم ومؤيديه. وقد حاولت القاعدة استغلال هذه الحروب الأهلية، إلا أن الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر رفضت أي تدخل أجنبي حتى لو كان من إخوانهم في الجهاد. وبالمثل فإن النشطاء المصريين في الجماعة الإسلامية اعترفوا بهزيمتهم عام 1997، التي أدت إلى إيقاف حملتهم الشرسة.

وبعد أن فقد تنظيم القاعدة الأمل في الجهاد الثوري، حاول أعضاؤه استغلال الصراعات القومية لصالح تنظيمهم. فقد حاولوا استمالة متطوعي الجهاد الذين سافروا إلى البوسنة بعد تفكك يوغوسلافيا عام 1992 حيث تمكن الجيش النظامي البوسني من احتوائهم وانتهى الأمر بطردهم في خريف عام 1995. وبعد عام 1996، حققت القاعدة نجاحا أكبر في الإشراف على تدريب المقاتلين الباكستانيين الذين تم تهريبهم إلى كشمير. ونجح أعضاء القاعدة كذلك في استبعاد المؤيدين المحليين لاستقلال كشمير. وبنفس الروح، ساعد المقاتلون العرب الذين ذهبوا إلى الشيشان شاميل باسييف في مواجهة التيار القومي. وقد أعطى هجومهم ضد داغستان المجاورة لهم في أغسطس عام 1999، الجيش الأحمر ذريعة للتدخل في الشيشان وسحق الدولة المستقلة.

[caption id="attachment_55227586" align="alignright" width="236" caption="أسامة بن لادن"]أسامة بن لادن[/caption]

في ذلك الوقت، كان تنظيم القاعدة لا يزال اسما رمزيا، ويستخدمه المطلعون فقط، ولكن في فبراير(شباط) 1998، كشفت حركة الجهاد العالمية عن وجودها علنا عندما أعلن بن لادن والظواهري عن تدشين "الجبهة الإسلامية العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين". وفي بيانهم، حث قادة الحركة أي فرد مسلم في أي مكان في العالم، على ضرب أي أميركي أو أي حليف لأميركا في أي وقت، من دون تمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية.

وكان من الواضح أن هذا الجهاد العالمي اختراع حديث، وهو ما يتناقض مع أربعة عشر قرنا من الممارسات والتقاليد الإسلامية التي تقول إن الجهاد واجب جماعي عموما. وكان يمكن اعتبار الجهاد الفردي مشروعا فقط من خلال إجماع الآراء بين العلماء والزعماء الدينيين، ويطبق فقط في ظروف خاصة ومحدودة جدًا. وكان تفسير القاعدة للجهاد على أنه "متاح للجميع" أمر لم يسبق له مثيل، وقطع الصلة التاريخية بين الجهاد وأي مجتمع يتم تعبئته أو منطقة يتم الدفاع عنها. وافتقر كل من بن لادن والظواهري إلى أي مبررات عقائدية ليثبتا مثل هذا الابتكار.

واستطاع تنظيم القاعدة أن يزدهر في أفغانستان تحت حماية "إمارة إسلامية" خاصة بالملا عمر. وتدفق جيل جديد من متطوعي الجهاد على معسكرات التدريب، ولكن هذه المرة ليس لمحاربة جيش غاز في إقليم محدد، ولكن لتصدير التخريب عالميا. وتمكنت الرؤيا الشاملة للقاعدة من إظهار جداول الأعمال الإقليمية لشركائها الأكثر نشاطًا، مثل الحركة الإسلامية لأوزبكستان في آسيا الوسطى أو الجماعة الإسلامية في جنوب شرق آسيا. ووثق طالبان في حلفائهم العرب على الساحة الدولية وسمحوا لهم بتنفيذ أعمال استفزاز عنيفة وحولوا بالفعل إقليمهم كله إلى "إقليم جهاد" كامل، مكرس للترويج للجهاد العالمي.

وتم تخطيط الهجمات على نيويورك وواشنطن في يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001، لإثارة موجة من الجهاد الثوري في جميع أنحاء العالم الإسلامي، في حين راهن تنظيم القاعدة على العمليات الانتقامية الأميركية ضد أفغانستان، وكان يأمل أن تخسر الولايات المتحدة في هذا الميدان مثل الاتحاد السوفييتي السابق. وانهارت مقامرة بن لادن الاستراتيجية مع الانهيار السريع لنظام طالبان ونتيجة الغضب العام ضد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ومع تزايد عزلة تنظيم القاعدة، توارى عن الأنظار ليحضر لحملته الإرهابية الخاصة ضد المملكة العربية السعودية. وانطلقت الحملة في مايو (أيار) 2003، وولدت هذه السلسلة من التفجيرات رد فعل عنيفا ضد ايديولوجية الجهاد وتم تفكيك معظم شبكات الناشطين في أقل من عامين.

أزمة الجهاد العالمي


نتيجة الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، أعاد تنظيم القاعدة تكوين بعض إمكاناته، وتعاون مع المقاومة الوطنية. ولكن المسلحين المحليين استاءوا من استخدام الزرقاوي للعراق كقاعدة لتصدير الإرهاب إلى البلدان المجاورة، كما كان الحال في حادث عمان في نوفمبر 2005. لذلك تصاعدت التوترات وطرد الجهاديون الوطنيون في نهاية المطاف تنظيم القاعدة من معقلهم في إقليم الأنبار غرب العراق في عام 2007. وكانت هزيمة أتباع بن لادن، على يد الميليشيات السنية وليس على يد الجيش الأميركي، ضربة قاصمة للجهاد العالمي، وتوالت الصدمات في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وأضعفت كبرياء تنظيم القاعدة وامتيازاته.

وبلغت هذه المواجهة بين الجهاد العالمي والوطني أقصى مراحلها من الحرب الكلامية عندما بدأ تنظيم القاعدة حملة دعائية ضد حزب اللـه وحماس. وكانت القاعدة محبطة نتيجة غيابها عن لبنان وفلسطين. واتهم تنظيم القاعدة حزب اللـه وحماس بـ"بيع" أراضيهم وقضيتهم إلى إسرائيل بقبول وقف إطلاق النار أو الانتخابات. وحث التنظيم حركة حماس على إقامة إمارة "إسلامية" في غزة، ولكن سحقت قوات حماس المتعاطفين مع بن لادن. واستخدمت القاعدة مرارا أسلوب التشهير الطائفي للهجوم على مقاتلي الشيعة في لبنان، من دون تحقيق تقدم كبير على أرض الواقع. وتحول الجهاد العالمي بصورة متزايدة إلى نداء ظاهري واعتمد بشكل كبير على شبكة الإنترنت، بينما زاد الجهاد الوطني من جذوره في التمرد.

وبذلك حين لم يستطع تنظيم القاعدة المحافظة على الجهاد الثوري في المملكة العربية السعودية، فشل أيضا في تحويل مسار الجهاد الوطني في الشرق الأوسط. وزادت أزمة الجهاد العالمي سوءا عندما سحب أكثر العلماء الجهاديين تشددا دعمهم لتنظيم القاعدة (بما في ذلك واحد من أعضائه المؤسسين، وهو "دكتور فضل" المصري، أو سيد إمام الشريف).

[caption id="attachment_55227619" align="alignleft" width="344" caption="أتباع جهيمان بعد القاء القبض عليهم"]أتباع جهيمان بعد القاء القبض عليهم[/caption]

وتم تصوير بن لادن وأتباعه بأنهم "خانوا" القيم الأساسية للإسلام. وكان رد فعلهم بالتأكيد على حق المقاتلين المجاهدين، حتى الذين لا يحظون بخلفية دينية، في تقرير ما هو صواب أو خطأ في الإسلام. ويروج تنظيم القاعدة لدين جديد، ويحول الشرعية الدينية من العلماء إلى المتشددين. ويتطابق هذا التصعيد للعنف الرمزي مع حقيقة مفادها أن الأغلبية الساحقة من ضحايا تنظيم القاعدة من المسلمين.

وحين واجهت بن لادن هذه المشكلة المستفحلة، نظر بإيجابية أكثر إلى الجهاد الثوري للعتيبي. ولكن لا يزال تنظيم القاعدة يتمسك بأجندته العالمية، ولا يترقب العد التنازلي حتى يوم القيامة.
ولقد حيد تدنيس مكة المكرمة معظم الطاقات المخلصة في العالم السني. والوضع مختلف تماما في العالم الشيعي، حيث يحظى الحنين إلى المهدي، أو الإمام الغائب، بترنيمات سياسية قوية.
ونجد مقتدى الصدر، وهو رجل دين شيعي عراقي وهو ابن وابن أخ لاثنين من آيات اللـه "الشهداء". ولعب مقتدى على هذا الوتر عند إطلاق "جيش المهدي" في عام 2003. وجمعت الحركة الصدرية بين الجهاد العسكري والمناورات السياسية، بينما تطورت ميليشيا تؤمن بأحداث النهاية بشكل أكثر وضوحا، وهى جماعة "أنصار الإمام مهدي" في جنوب العراق. وتم سحق تمردهم في مدينة النجف المقدسة في يناير (كانون الثاني) 2007، وكان الغضب في العالم الشيعي مماثلا للصدمة التي حدثت لدى الأمة كلها، في نوفمبر 1979، نتيجة اقتحام الكعبة.

ما بعد رسائل جهيمان


بعد ثلاثين عاما من سفك الدماء في مكة، لا تلاقي دعوة العتيبي لحمل السلاح أي صدى. فشل الجهاد الثوري في كل مكان في العالم الإسلامي، أو كما حدث في الصومال، خلق دوائر لانهائية من الحرب الأهلية. ولهذا يسيطر الجهاد الوطني على الساحة الجهادية، وخاصة في حالتي حماس وحزب اللـه، إلا أن مواجهتهما مع إسرائيل قد جعلتهما أكثر شعبية في الخارج أكثر مما يتمتعان به من شعبية داخل أراضيهما. ويرفع المقاتلون المتمردون شعار الجهاد العرقي - الوطني أيضا حين يقاتلون في سبيل الأقليات المسلمة، كما حدث في تايلاند أو في الفلبين، ولكن غياب قيادة موحدة يضعف موقفهم. في كل هذه الأزمات، تعد الحاجة إلى تحويل الانجازات العسكرية إلى إنجازات سياسية هي التحدي الرئيسي الذي يواجهه الجهاد الوطني.

خلال العقود الثلاثة الماضية، ركزت عناوين الأخبار على البعد العنيف لمفهوم الجهاد، وتجاهلت الشعبية المتزايدة للشكل غير العسكري من الجهاد. وتم شن حملات دولية ضد الفقر والأمية والأوبئة تحت راية الجهاد، وعلى سبيل المثال من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي. وأدت زيادة فاعلية المجتمع المدني إلى مبادرات أخرى من الجهاد المصحوب بالوعي الاجتماعي. وبينما ينحرف تنظيم القاعدة بعيدا عن الإسلام ويروج لعقيدته الخاصة، فإن هذا التطور الجذري هو تذكرة طيبة بأن الجهاد ليس بالضرورة مرادفا للعنف، وأنه محاولة شاملة لتحقيق رسالة النبي.
font change