دعوة المهدي المنتظر

دعوة المهدي المنتظر

[caption id="attachment_55227591" align="aligncenter" width="620" caption="بيت الله الحرام"]بيت الله الحرام[/caption]

المشهد كان طبيعيا فزوار بيت الله الحرام تعودوا عليه كل صباح. نعوش الموتى تدخل للصلاة عليها. ساروا معها، وبعضهم ساعد في حملها طمعا في الثواب لم يتخيلوا أن ما يحملونه ليس موتى، وإنما أسلحة وذخائر. لم يتصور زوّار البيت للحظة أنهم يحملون على أكتافهم عتادا لاحتلال البيت. لكنها كانت المفاجأة فنعوش الموتى صناديق سلاح. والأكفان ما هي إلا أسلحة نارية وذخائر جهزها جهيمان العتيبى ورجاله أعضاء الجماعة السلفية المحتسبة لاحتلال الحرم من أجل إعلان ظهور المهدي المنتظر أمام المصلين في الحرم. صعق المصلون فالمشهد أمامهم مخيف. بيت الله تحت الاحتلال. الأرض الطاهرة دنستها أطماع الزعامة، فجهيمان يجهز من اجل إعلان البيعة لصهره محمد بن عبد اللـه القحطاني بين الحجر والمقام. بعض المصلين تملكهم الرعب. لكن أغلبهم ظلوا على سكينتهم وكلهم إيمان أن بيت اللـه معصوم، وباحته محفوظة، من أرادها بسوء هلك.

لكن جهيمان ظل في غيه، عشق الزعامة أذهب عقله فأراد أن يحقق حلم صهره وتوهم أنه سوف يحرر الجزيرة العربية والعالم كله من الظالمين. كانت الفكرة الخلاصية مسيطرة على جهيمان، لم تعد أذناه تسمعان إلا نداء المهدي، ولا عينه ترى إلا سترة الإمامة. صور له وهمه أن اعتصامه في الحرم لن يطول، وأن مواجهاته مع الجيش والأمن السعوديين لن تستغرق وقتا، فالحصار لن يدوم أكثر من ثلاثة أيام يخسف اللـه بعدها الأرض بكل رجال الأمن لتنطلق آيات المهدي القحطاني، وتتدفق عليه ملايين البشر لتبايعه وتعلن تنصيبه أمام الكعبة المشرفة.

[caption id="attachment_55227593" align="alignleft" width="215" caption="جهيمان "]جهيمان [/caption]

دخلت عناصر الشرطة متصورة أن ما حدث ليس إلا مسحة من جنون ستزول سريعا، لكنها وجدت نفسها أمام وهم كبير لا يقبل الحوار ولا الإقناع، يسعى بكل قوته لتحقيق وهمه ولو عاند الدنيا كلها، وأمام هذا الإصرار الجهيمني لم يكن من سبيل أمام قوات الأمن السعودية إلا أن حاصرت جهيمان وأتباعه داخل الحرم لنحو سبعة عشر يوما على غير ما توقع أتباع جهيمان، كانوا يعتقدون أن المهمة سهلة.

ولن تمر ثلاثة أيام إلا ويتحقق وعد زعيمهم.. ويخسف بقوات الأمن الأرض.. لكن مرت الأيام الثلاثة من دون خسف أو سوء طال رجال الأمن، فتملك اليأس أتباع جهيمان وزاد اليأس ثم بدأت أحلامهم تتبدد بعدما قتل القحطاني نفسه ولم يجد جهيمان سبيلا للسيطرة على الأتباع إلا بالتهديد لكل من يفكر في شق عصا الطاعة أو حتى يتحدث عن موت المهدي، فجهيمان لم يكن يتحمل أن يضيع حلمه فظل يشيع أن المهدي حُصر في (القبو) وسوف يخرج قريبا، لكن كما يقولون "الكذب أبدا لا يدوم" فسرعان ما تأكد الجميع من كذب جهيمان ففقد سيطرته وضاقت به السبل فاستسلم هو ومن بقي من أتباعه في قبو المسجد الحرام، بعد أن كانوا يعتلون المنارات للسيطرة على بيت اللـه الحرام.

يقطع التلفزيون السعودي بثه ليظهر نايف بن عبد العزيز على الشاشة وآثار التعب ظاهرة عليه، وملامح البشرى تتسلل إليه على استحياء ليعلن تطهير قبو المسجد الحرام من جميع عناصر التمرد ليسدل الستار على أصعب مراحل التاريخ السعودي الحديث بمحاكمة عادلة للشرذمة التي انتهكت حرمة البيت العتيق، وإصدار الملك خالد بن عبد العزيز أمره رقم 2/ 4207 بقتل المتورطين من عصابة "جهيمان" المقبوض عليهم وتوزيعهم على عدد من المناطق للعبرة، وفي اليوم نفسه قتل 63 متورطا في مدن مكة المكرمة 15، المدينة المنورة 7، الرياض 10، الدمام 7، بريدة 7، حائل 5، أبها 7، تبوك 5.

وكان جهيمان من ضمن قائمة المحكومين بالإعدام، وتم تنفيذ حكم الإعدام فيه في 9 يناير 1980م، ليغلق ملف أول حادث للتطرف الديني في المملكة قادها جهيمان المغمور الحالم بزعامة وهمية، فهو لم يكن يوما ممن يتوقع لهم هذا المصير. فجهيمان المولود في 1936، والمكني بأبي محمد بدأ حياته موظفا عاديا بالحرس الوطني السعودي لثمانية عشر عاما منذ عام 1955، إلى أن ترك الحياة العسكرية عام 1973.

ثم انتقل إلى المدينة المنورة حيث درس في الجامعة الإسلامية والتقى هناك بمحمد بن عبد اللـه القحطاني الذي تزوج فيما بعد أخت جهيمان وكان سر التغير الذي قلب حياة جهيمان بعدما التقى مع محمد بن عبد اللـه في الكثير من الأفكار والتي بدأ بنشرها بشكل سري وعلى نطاق ضيق في بعض المساجد الصغيرة بالمدينة المنورة في البداية، ولقيت هذه الأفكار الخلاصية كما كانوا يسمونها صدى إيجابيا عند البعض، وأخذت الجماعة التي أسسها جهيمان تكبر، حتى وصل عدد أفرادها إلى الآلاف.

البداية كانت دعوة محتسبة عندما باركها الشيخ عبد العزيز بن باز منتصف الستينات الميلادية، وبرغم انطلاقها تحت راية قيادة مركزية تكونت من ناصر بن حسين وسليمان بن شتيوي وسعد التميمي جهيمان العتيبي، فإن تفرغ الأخير للدعوة والثورة الداخلية التي كان يحس بها والتطلع للزعامة جعلته الرجل الأول والمحرك الرئيسي للجماعة، حتى اختزلت الجماعة السلفية المحتسبة في جهيمان وجهيمان في الجماعة، كان يعتبرها رسالته وحده وحقه الأكيد في الزعامة. لذا لم يكن يتردد في أن يقود سيارته الجمس الصالون ليجوب القرى والهجر في رسالة الدعوة التي يحملها شرق المدينة المنورة في قرى النخيل وما جاورها من هجر.

[caption id="attachment_55227594" align="alignleft" width="300" caption="جنديان سعوديان يمشطان القبو أسفل الحرم وهما يلبسان الاقنعة الواقية من الغاز"]جنديان سعوديان يمشطان القبو أسفل الحرم وهما يلبسان الاقنعة الواقية من الغاز[/caption]

فالموظف الهادئ المستكين تحول فجأة بعدما سيطرت فكرة الزعامة عليه إلى بركان من النشاط والغضب أيضا، فكان عام 1978، هو المرة الأولى التي يكون فيها جهيمان وأعضاء الجماعة مطلوبين أمنيين لدى الدولة السعودية، بسبب أفكار الانتقام لإخوان السبلة التي كثيرا ما كان يرددها على أتباعه من دون خوض في تفاصيلها، وكان في هذه الأثناء يعكف على إصدار عدة رسائل أهمها "الرسائل السبع، رسالة الإمارة والبيعة والطاعة، كشف تلبيس الحكام عن طلبة العلم والعوام - وهي رسالة كتبها مدافعا عن الإخوان الذين كانوا في جيش الملك المؤسس - رفع الالتباس"، وقد تم طباعة تلك الرسائل في الكويت، وقامت مجلة الطليعة الكويتية اليسارية بطباعة كتب جهيمان بسعر زهيد ويتم تهريبها عبر الحدود الشمالية للمملكة، عن طريق أتباعه الذين كانوا يتنكرون في هيئة رعاة غنم ويخبئون تلك الكتب تحت الخبز اليابس.

ويشكك الكثير من الباحثين في كون جهيمان هو من كتب هذه الرسائل بنفسه، ويرون أن هناك من كتبها له، وممن طالتهم أصابع الاتهام في ذلك محدث اليمن الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه اللـه، والذي كان يؤيد جهيمان في البداية قبل أن يتراجع، لكن الشيخ مقبل حاول تبرئة نفسه من هذه التهمة، وقال في أحد كتبه: ثم بعد هذا خرجت بعض رسائل جهيمان فقبض على مجموعة منا، وعند التحقيق قالوا لي أنت التي كتبتها، جهيمان لا يستطيع أن يكتب، فنفيت ذلك واللـه يعلم أني لم أكتبها، لكن نفي مقبل لم ينه القناعة التي سيطرت على الجميع بأن جهيمان لم يكتب هذه الرسائل بنفسه، وهو ما أكده ولي العهد السعودي وقتها الأمير فهد بن عبد العزيز في حوار مع جريدة السفير اللبنانية عندما قال إن جهيمان لم يكن سوى رجل عادي إلى درجة متناهية، وأنه متواضع لغويا وفكريا، وأنه لا يمتلك من القدرات ما يمكنه من تأليف كتب، لكن مع تنفيذ حكم القتل في جهيمان دفن معه سره وفتنته التي أراد إشعالها أيضا
font change