أطفال مصر

أطفال مصر

[escenic_image id="5530515"]

أخذني صبي، يبلغ من العمر عشرة أو ربما أحد عشر عامًا، وعيناه مملوءتان بالحماس، إلى الطابق الثاني من ملجأ للأيتام وأطفال الشوارع في الإسكندرية، لكي يريني غرفته. وعندما وصلنا، أخذ يبحث عن شيء بجانب سريره، وبعد لحظات، كان يمد لي يده بقطعة من الشيكولاتة.

وبالرغم من الصور الكثيرة، التي لا تزال محفورة في ذاكرتي بعد زيارتي لمشاريع التنمية المجتمعية في مصر، فإن أكثر ما أثر في نفسي هو هذا الصبي ورغبته في المشاركة، رغم أنه لا يكاد يمتلك شيئًا تقريبًا من الناحية المادية، لقد كان امتنانه واضحًا للفرصة التي أتيحت له للعيش في بيئة آمنة، وحصوله على التعليم وعلى ما يكفي من الطعام، ولكنه لم يكن يعبر عن امتنانه فقط في هذا الموقف، بقدر ما كان يعبر عن مدى فرحه وسعادته للكرامة والاحترام الذي أصبح يحظى بهما، وللفرصة التي أتيحت له.

وقد قطعت مصر شوطًا كبيرًا في خفض معدلات وفيات الأطفال، حيث يوضح تقرير اليونيسيف، الذي يرصد حالة الأطفال في العالم في عام 2009، التحسن الكبير الذي طرأ على مؤشرات الرعاية التي يتمتع بها الطفل في مصر. ففي عام 1990 وصل معدل وفيات الأطفال دون الخامسة في مصر إلى 93 طفلا لكل 1000 مولود، ولكن بحلول عام 2007، فإن هذا المعدل قد انخفض لأكثر من النصف، كم أن معدل وفيات الأطفال الرضع، الذين تقل أعمارهم عن سنة واحدة، والذي بلغ في عام 1990، 68 طفلا لكل 1000 طفل، قد انخفض بحلول عام 2007 إلى 30 طفلا فقط لكل 1000 طفل. ولكن على الرغم من هذا التقدم، فإن مصر مازال لديها طريق طويل لتقطعه لضمان حقوق الإنسان لمواطنيها من الأطفال.

كما يضع التقرير، الذي أصدرته منظمة "انقذوا الأطفال" غير الحكومية، والذي يرصد أوضاع الأمهات في العالم في عام 2009، مصر في المرتبة 22 بين الدول النامية فيما يتعلق بدرجة رفاهية الطفل، وفى سياق الدول العربية المجاورة، فإن هذه المرتبة التي تحتلها مصر تعد أفضل من سوريا، التي تحتل المرتبة الـ 55، والمغرب، التي تحتل المرتبة الـ 57، وليبيا التي تحتل المرتبة الـ 46، والجزائر، التي تحتل المرتبة الـ 41. فهناك ثلاث دول عربية فقط هي التي حققت تقدمًا ملموسًا في هذا الشأن عن مصر، وهى الأردن وقطر والبحرين.

بيد أن هذه الأرقام المذكورة عن مصر مبالغ فيها بعض الشئ، لأن الرعاية التي تقدمها مصر للأمهات والنساء بشكل كلي تتسم بالضعف الشديد. فدرجة الرفاهية التي يحظى بها الطفل تعتمد ـ إلى حد كبيرـ على مدى ما تحصل عليه أمه من التعليم والرعاية الصحية والموارد الاقتصادية، والمساواة في الحقوق القانونية. وبالتالي، فإن النتائج الفقيرة التي تحققها مصر باستمرار في هذه النواحي، من المحتمل جدًا، إن لم يكن من المرجح، أن تجعل مصر تفقد مكانتها وأن يتدنى مستوى رعاية الطفل فيها وينخفض بسرعة.

وقد ركز أول تقرير أصدرته الأمم المتحدة، عن التنمية البشرية العربية في عام 2002، على ثلاث عقبات رئيسية تحول دون حدوث التنمية في العالم العربي وتؤدي إلى تباطؤها، وهى انتشار الجهل
والأمية، وحرمان المرأة من حقوقها، وغياب الحرية السياسية. وهى أمور لم يتم التوصل إلى حل لها حتى الآن. ومن المؤكد أن نقص فرص الحصول على التعليم، وحرمان المرأة من حقوقها، قد يكون له تأثير بالغ الضرر على الأطفال، حيث قد يؤدي إلى وقوعهم في براثن الفقر، إلى جانب تهميش دور الفتيات في المجتمع.

وتعد مصر دولة فريدة من نوعها في العالم العربي، حيث تواجه الكثير من التحديات الاستثنائية في مجال التنمية البشرية.. نظرًا لتعدادها السكاني الكبير.. فمعظم الدول العربية التي كانت قادرة على تحقيق تحسينات كبيرة في رفاهية الطفل، كان لديها تعداد سكاني أصغر، مثل الأردن، وكانت أكثر ثراء بشكل ملحوظ، مثل البحرين وقطر. وقد يكون من المفيد أن نقارن بين المغرب ومصر، فالمغرب بلد مماثل لمصر فيما يتعلق بنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (ووفقًا لإحدى البيانات الصادرة عن البنك الدولي في عام 2009، يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المغرب 2،580 دولار، ويبلغ نصيب الفرد في مصر  1،800 دولار). كما يعاني المغرب، مثل مصر، من الفقر المدقع والتفاوت الكبير في دخل الأفراد، بالإضافة إلى معدلات البطالة المرتفعة في كلا البلدين. ووفقًا لإحصائيات اليونيسيف، فإن معدل وفيات الأطفال دون الخامسة في المغرب في عام 1990 كانت نسبته قريبة جدًا من مصر، حيث بلغت 89 طفلا لكل 1000 مولود، ولكن بحلول عام 2007 فإن هذا المعدل قد انخفض إلى حد كبير ليصل إلى 34 طفلا لكل 1000 مولود.

إلا أن مسارات التنمية في مصر والمغرب يمكن أن تتغير، بشكل كبير خلال السنوات المقبلة، وذلك مع قيام حكومتي البلدين بتوجيه الأولية فيما يتعلق بالإنفاق الحكومي إلى مجالات مختلفة، ويبدو أن المغرب تستثمر أكثر حاليًا في تحسين القدرة على الوصول إلى المعلومات، وتعزيز حقوق المرأة وزيادة الفرص التعليمية، ومن المرجح أن يؤدي الاستثمار في تلك المجالات إلى تحسن في التنمية البشرية في المغرب وتحسن في الرعاية المقدمة للأطفال، وذلك في حالة حصول تلك المجالات على التمويل الكافي وفي حالة تطويرها بشكل مستدام، أما إنفاق مصر العسكري الكبير على وجه الخصوص فيقوض من قدرتها على محاربة الفقر بشكل فعَّال ومن قدرتها على توفير احتياجات أطفالها.

لكن رغم وجود فجوة كبيرة بين حاجة أطفال مصر إلى الحصول على حقوقهم المنصوص عليها في معاهدة الأمم المتحدة حول حقوق الطفل ـــ بما في ذلك الحصول على التعليم الجيد وعلى الرعاية الصحية وعلى المأوى وعلى خدمات الصرف الصحي الجيد وعلى الغذاء والحصول على ما يقتضيه الواقع الاجتماعي المصري ـــ فإنه توجد مشروعات جيدة خاصة بالأطفال تركز على المجتمع في مختلف أنحاء البلاد، وتحقق تلك المشروعات تغييرًا ملموسًا في جودة حياة الأطفال والشباب المصريين.

وفي هذا الصدد تعمل مجموعة متنوعة من المنظمات غير الحكومية بشكل نشط في مجال الطفولة، ويعمل بعضها تحت رعاية منظمات غير حكومية أكبر مثل منظمة بلان إنترناشونال ومنظمة انقذوا الأطفال ومنظمة أوكسفام ومنظمة كير، والتي تدخل في شراكات مع المنظمات غير الحكومية المصرية، والمنظمات الأخرى تعد منظمات حكومية أصغر ليس لها انتماءات دولية.

ويحظى مشروع أطفال الشوارع الذي زرته في الإسكندرية برعاية منظمة بلان إنترناشونال غير الحكومية التي تهتم بالتنمية في مجال الطفولة، وتشمل المجالات الرئيسية التي ركزت عليها برامج المنظمة زيادة الالتحاق بالمدارس وإقامة أندية يستطيع الأطفال إيجاد أماكن آمنة للقراءة واللعب بها، وعلى تعزيز حقوق الفتيات والمرأة وعلى برامج مدخرات وقروض القرية، وعلى إحياء وتوسيع البرامج الصحية وبرامج تغذية الأطفال وزيادة القدرة على الحصول على المياه النظيفة وعلى خدمات الصرف الصحي الجيدة.

وتوجه منظمة بلان إنترناشونال اهتمامًا خاصًا لتوعية الأطفال بحقوقهم وتوفير الفرصة لهم للتعبير عن همومهم وعن احتياجاتهم عن طريق وسائل الإعلام والتجمعات المجتمعية واللقاءات مع المسئولين الحكوميين، وللتعبير عن تجاربهم مع الحرمان من حقوق الإنسان الخاصة بهم، وبينما تعمل المنظمة على المستوى المحلي لتقديم الدعم للأطفال ولتمكينهم من التمتع بالحق في الحياة الكريمة وفي التنمية والحماية، تناضل أيضًا من أجل تعزيز رفاهية الأطفال على نطاق واسع في مختلف أنحاء البلاد.

ويتمثل التحدي الأكبر لمصر في تعزيز أنشطة المنظمات غير الحكومية مثل برامج منظمة بلان إنترناشونال، التي تركز على تنمية المجتمع وفي استخدام الموارد المالية والبشرية للدولة للقيام بذلك، مع التنسيق مع تلك المنظمات بشكل فعال، فهناك حاجة إلى توسيع كبير للبرامج الحالية التي تتسم بالمحدودية وتصل إلى نسبة صغيرة من الأطفال والشباب المصريين، فعلى سبيل المثال، يعد 54% من الفتيات في المناطق الريفية في صعيد مصر غير مسجلات في المدارس،  وذلك طبقًا لمنظمة "انقذوا الأطفال"، وبالتالي يعد توفير التعليم لجميع الأطفال المصريين وتحسين طرق التدريس ـــ التي لا تقوم عادة على الفهم وتقوم على الحفظ بدلا من التعلم التفاعلي وبدلا من الطرق الأكثر فعالية لتشجيع الأطفال على المشاركة ـــ من المجالات التي يجب أن تعتبرها الحكومة المصرية من الأولويات.

وترتبط بعض التحديات الاجتماعية، مثل زيادة عدد أطفال الشوارع في القاهرة والإسكندرية بشكل غير مباشر بمجموعة من المشكلات الاجتماعية المعقدة والمستعصية، مثل الجريمة والفقر والعنف الأسري والاعتداءات على الأطفال والتي لا تتم المعاقبة عليها. وهناك الكثير من المشروعات في مصر تتعامل مع هذه المشكلة بشكل فعال، مثل توفير مراكز لرعاية أطفال الشوارع، لتوفير الاحتياجات الأساسية المباشرة للأطفال ومنع تعرضهم للخطر، لكنها لا تعالج الأسباب الأساسية التي تجعلهم أطفالا بلا مأوى، وهذا لا يقلل من أهمية تزويد الأطفال الذين يعيشون في الشوارع باحتياجاتهم، بل ينطوي على التأكيد أن هذا الحل يعد من حيث طبيعته ردًا جزئيًا، ومن غير المرجح أن يؤدي إلى خفض عدد الأطفال الذين يتجهون إلى الحياة في الشارع أو إلى التعامل مع العوامل التي تتسبب في جعلهم يفعلون ذلك، ويعد عدم وجود حل منظم وذي تمويل جيد من جانب الحكومةـ في إطار من الشراكة مع المجتمع المدني ـ لمشكلات فقر الأطفال وحرمانهم من حقوقهم من الأمور الشائعة في مختلف الدول النامية، ولا يقتصر هذا الأمر على مصر، لكن وفي ضوء ارتفاع عدد الأطفال والشباب في مصر، تفرض العواقب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لعدم معالجة هذه القضية بشكل مكثف وشامل تهديدًا على استقرار الدولة المصرية، كما تتسبب في الحرمان على المستويين الإنساني والمالي في المجتمع المصري وبالنسبة لأطفال مصر على وجه الخصوص.

إن نجاح مصر في خفض وفيات الأطفال خلال العقدين الماضيين يظهر أن هناك من الأسباب ما يدعو للأمل، وإذا توافقت الإرادة السياسية مع الموارد الاقتصادية والبشرية التي تمتلكها مصر، سوف يكون لأطفالها مستقبل أفضل، تصان فيه حقوق الإنسان الخاصة بهم ونحفظ فيه كرامتهم، ويصاحب ذلك إمكانية أن تتحقق فائدة للمجتمع المصري ككل.

 

باحث مقيم في لندن متخصص في حقوق الإنسان

font change