مأمول ولكنه مستبعد

مأمول ولكنه مستبعد

[escenic_image id="55105924"]

في الوقت الذي تسحب فيه الولايات المتحدة قواتها من العراق، سوف تنشب منافسة شرسة على النفوذ الإقليمي بين دول الشرق الأوسط بما في ذلك تركيا، وإيران، وسورية، والعراق، ودول الخليج. ووفقا لتقرير قدمه بول سالم لـ"مركز كارنيغي للشرق الأوسط"، فإن وضع إطار رسمي للتعاون يمكنه أن يساعد على الاستقرار والتنمية الاقتصادية في وقت حرج ويشهد توترات. ويعرض سالم في نهاية تقريره الذي جاء بعنوان "تأسيس التعاون في شرقي الشرق الأوسط" السيناريوهات الثلاثة المحتملة لمستقبل المنطقة. يرجح أول هذه السيناريوهات استمرار الوضع الراهن؛ مما يعني استمرار التوتر بين بلدان المنطقة الذي لا تتم معالجته إلا من خلال معالجة أزمة بأزمة. ويرسم ذلك السيناريو، وفقا لسالم، أكثر الصور واقعية لمستقبل شرقي الشرق الأوسط، ويؤكد سالم أن مثل تلك الاستراتيجية ستؤدي على المدى البعيد إلى مزيد من عدم الاستقرار، خاصة في ظل وضع إيران وأزمة برنامجها النووي.

فيما يرجح السيناريو الثاني حدوث تراجع أمني قوي، ينتج في الغالب عن هجمة إسرائيلية أو أميركية على إيران. وسوف تعمل مثل تلك الهجمة على تقوية شوكة المتشددين في النظام الإيراني، مما يدفع إيران إلى الإسراع في بناء أو الحصول على أسلحة نووية، وهو ما سوف يدفع تركيا والدول العربية الكبرى بالضرورة إلى محاولة الحصول على أسلحة نووية كذلك.

فيما يتوقع السيناريو الأخير حدوث تقدم في التعاون الإقليمي؛ من خلال تعهد دول المنطقة بالاستثمار في أمنها المشترك ومصالحها الاقتصادية. وهو أكثر السيناريوهات المأمولة بالنسبة للاعبين الأساسيين سواء في الشرق الأوسط نفسه أو في باقي أنحاء العالم. وعلى الرغم من أنه أكثر السيناريوهات استبعادا، فإنه يستحق البحث والسعي لتحقيقه باعتباره هدفا على المدى البعيد؛ ففي ظل انسحاب الولايات المتحدة من العراق، تتزايد أهمية دراسة إمكانية تحقيق المزيد من التعاون في شرقي الشرق الأوسط. فبعد الغزو الأميركي للعراق، حدث فراغ سياسي في العراق الذي كان يعمل في وقت من الأوقات كمنطقة عازلة بين تركيا وإيران والعالم العربي. وفي نفس الوقت، على الرغم من أن تركيا وإيران كانتا طوال معظم القرن العشرين تميلان صوب الغرب، تزايد اتجاه كلا البلدين صوب الشرق الأوسط خلال العقود الماضية. وقد خلقت تلك التطورات شبكة جديدة من المصالح وأنماط التعاون. ففي الوقت الذي تزايدت فيه التجارة، والاتصالات السياسية، والتعاون الأمني، تزايدت مخاطر المشاركة ونشأت صراعات بديلة كذلك.

فقد غيرت حرب العراق من توازن القوى في المنطقة من خلال إزالة النظام الخصم لكل من إيران ودول مجلس التعاون الخليجي مما أسفر عن تزايد النفوذ الإيراني والتحدي الذي يمثله الشيعة بالنسبة لهيمنة السنة في العراق وغيرها.

وقد عزز تغير ميزان القوى من الآراء المختلفة التي يحملها اللاعبون الأساسيون بشأن مستقبل المنطقة وموقعهم فيها، حيث تدعو إيران إلى منطقة خالية من النفوذ الأجنبي، بينما تخشى دول الخليج تغير توازن القوى العسكرية لصالح إيران إذا ما تركت الولايات المتحدة الشرق الأوسط. ومن جهة أخرى، ترغب تركيا في أن تصبح المنطقة أقل آيديولوجية؛ يحكم العلاقات فيها التعاون والمساعي البراغماتية لتحقيق الأمن والمصالح الاقتصادية. وقد اتسعت الفجوة بين هذه الآراء المتعارضة في ظل حقيقة أن عقلية الحرب الباردة ما زالت تحكم العلاقات بين البلدان في الشرق الأوسط مما يعني أن كل تفاعل يتم النظر إليه باعتباره لعبة لن تنتهي إلا بالخسارة. وقد عززت الولايات المتحدة من انتشار تلك العقلية، حيث إن مقاربتها للتعامل مع المنطقة اعتمدت على إستراتيجية "فرق تسد" خاصة بين إيران وجيرانها منذ 1979. ويؤكد سالم إنه على الرغم من أن تلك الإستراتيجية تحقق مكاسب مباشرة فإنها تزيد من انعدام الثقة والتوتر على المدى البعيد وهو الأمر الذي لن يكون في مصلحة أحد.

وبالتالي، يجب تشجيع إيران على التوصل إلى اتفاق مع المجتمع الدولي. وفي ذلك الإطار، يطرح سالم قائمة طويلة من الشروط التي يجب أن يلتزم بها كل طرف؛ مثل رفع العقوبات المفروضة على إيران؛ ودمج إيران في المجتمع الدولي؛ والإقرار بنفوذها الإقليمي؛ والتعاون معها في مواجهة الجماعات الإرهابية؛ وحثها على الاقتراب من مقاربة الأرض في مقابل السلام لإسرائيل. وهي الاقتراحات التي يمكن وصفها في أفضل الأحوال بأنها متفائلة أو بأنها ساذجة في أسوأ الأحوال. وعلى الرغم من أن سالم يقر بأن "التقدم لا يبدو محتملا" حتى الوقت الذي تم إعداد التقرير فيه، فإنه أخفق في استكشاف الفرصة الحقيقية بالنسبة لإيران؛ وذلك حيث إن الموقف العدائي صوب الغرب يخدم النظام الحاكم؛ مما يعني أن عدم التفاوض ليس فقط نتاج سلسلة من سوء التفاهم أو السياسات الفاشلة بل إنه سياسة النظام. على أية حال، فإن ذلك لا يغير من صلاحية طرح سالم الذي يفيد بأن واشنطن يجب أن تقر بأن الحوار بين تركيا، والدول العربية الشرقية، وإيران يعزز الاستقرار الذي يمكنه المساعدة على تخفيف حدة التوتر الإقليمي وربما يشجع طهران على سياسة أكثر اعتدالا. ويبدو ذلك الطرح أكثر أهمية في ضوء حقيقة أن عزل أو احتواء إيران بفعالية أصبح أكثر صعوبة بعد الغزو وانهيار العراق. وعلى الرغم من أن لتلك المنطقة تاريخا طويلا من محاولات التعاون الفاشلة مثل اتفاقية بغداد، ومؤتمر مدريد ومبادرة جيران العراق، وإعلان دمشق فإن التعاون ما زال ممكنا. وعلى الرغم من أن تلك المحاولات تشير إلى إقرار الجميع بالحاجة للتعاون، فإنه لا يمكن فرضه من الخارج.

ولكي يؤكد إمكانية التعاون، يقدم سالم سلسلة من الحقائق المشجعة؛ فالتجارة بين تركيا وإيران والدول العربية الشرقية تزايدت إلى حد كبير في السنوات الأخيرة. وعلى المستوى الاقتصادي، هناك تكافؤ إلى حد ما بين تركيا وإيران والدول العربية مما يعني أن التعاون في تلك المنطقة لن يميل لمصلحة أحد بعينه. وسوف يتم الانتهاء من مشروع للسكك الحديدية عالية السرعة بحلول عام 2012 الذي يربط بين اسطنبول ومكة مرورا بسورية والأردن مما يشير إلى عودة التكامل التركي العربي. كما تعمل كل من تركيا وإيران على تحديث خطوط السكك الحديدية التي تربط بين اسطنبول وطهران ومنها إلى إسلام آباد. ومن خلال توضيحه لمدى تشابك المصالح الاقتصادية بين بلدان المنطقة، مشيرا إلى أن أية أزمة تؤثر على صادرات الطاقة تضر بمصالح كافة اللاعبين في المنطقة، يؤكد سالم أن فقدان الثقة هو العقبة الأساسية أمام التعاون. ومن ثم، فإن وضع إطار أمني يمكنه تخفيف ذلك التوتر. والأهم من ذلك فإنه من مصلحة الدول الكبرى المصدرة للبترول تنويع اقتصاداتها في ظل ارتفاع معدلات البطالة ونسبة الشباب إلى أعداد السكان.

ويذهب سالم إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال القول إنه على الرغم من أن وضع إطار للتعاون في منطقة شرقي الشرق الأوسط يمثل هدفا مهما في ذاته، فإنه سيكون أيضا الخطوة الأولى على طريق تأسيس إطار متكامل للتعاون الإقليمي يمتد إلى دول المغرب، ومصر وإسرائيل. ويبرز ذلك الطرح الأخير حول المستقبل النظرة العامة المتفائلة للتقرير. حيث كان سالم يحاول معظم الوقت التأكيد على أنه من مصلحة الجميع بما في ذلك أوروبا وروسيا والصين والهند تشجيع التعاون، معارضا سياسة الولايات المتحدة "فرق تسد". وعلى الرغم من أنه يؤكد على نحو دائم أن كثيرا من الأهداف التي ناقشها ما زالت غير مكتملة الأركان، فإنه، رغم حذره، يمكن اتهامه بالتقليل من شأن الصعوبات الموجودة. ومن جهة أخرى، فإن موقفه من تغيير نبرة الصراع المتعلق بالشرق الأوسط يمكن الاحتفاء به، وباعتباره شرطا مسبقا لمستقبل مختلف، تجدر مناقشته.

font change