مارجين ساترابي

مارجين ساترابي

[escenic_image id="55133023"]

كانت مارجين ساترابي تنشر روايات مصورة منذ بداية الألفية الجديدة ولكنها لم تظهر على الساحة العالمية إلا في مهرجان"كان" 2007  من خلال العرض الأول لفيلمها"بيرسيبوليس"، الذي كان يعتمد على سلسلة روايتها المصورة الشهيرة التي تروي السيرة الذاتية لها، ونشأتها كفتاة متمردة خلال الثورة الإسلامية في إيران. ويعود بنا سنوات إلى الوراء؛ إلى وطن مختلف تماما. وسرعان ما حاز الفيلم احتفاء النقاد، ووجدت ساترابي بعد ترشيحها للفوز بجائزة الأوسكار نفسها في طليعة السينما المستقلة.

في 19 يوليو (تموز) المقبل سوف تعود سترابي والمخرج فينسنت بارونود مرة أخرى إلى الاستوديو لبدء ثاني عمل ضخم لهما والمقتبس من روايتها المصورة "الدجاج بالخوخ".

وكما فعلت ببراعة في نسختها السينمائية من "بيرسبوليس" يبدو أن ساترابي عازمة على استكشاف آفاق جديدة للمشهد السينمائي المعاصر الذي ترى أنه يعج بالأفكار المزيفة والتجارية حول ماهية "الجديد".

"أين مساحة الإبداع؟" ذلك هو السؤال الذي طرحته الفنانة في مايو (أيار) الماضي عندما كانت تعلن رسميا عن فيلمها القادم."هناك باستمرار مساحة أقل للمشاريع المختلفة. فعلى سبيل المثال؛ هناك نظرية مفادها أن سينما الغد سوف تقتصر على الأفلام ثلاثية الأبعاد. وأنا أعمل في مجال الأفلام ثلاثية الأبعاد ولكن ذلك ليس مثيرا بالنسبة لي.

فدائما يتحدث الناس حول الأفلام ثلاثية الأبعاد، عندما تمر السينما بمرحلة تغير؛ فقد حدث ذلك في الخمسينات وفي الثمانينات، رغم أن الأفلام ثلاثية الأبعاد موجودة منذ الأخوين لوميير".

ومع ذلك فإنه في السينما، وعلى غرار كافة الفنون الأخرى، فإن الحقيقة أو أصالة أي فكرة ترتبط دائما بالأعمال والأفكار والعمليات الإبداعية التي تسبقها. ومما لا شك فيه أن ساترابي، باعترافها، ليست استثناء من ذلك. فقد قالت في حوار أجري معها في 2008 -  كما ذكر الناقد السينمائي الشهير اندرو ساريس في لقائه في "نيويورك أوبزرفر" - فإن بيرسيبوليس يعكس تأثرها الذي لا يمكن إنكاره بحركات السينما من الواقعية الإيطالية الجديدة والتعبيرية الألمانية.

وبالطبع يبدو الجمع بين هاتين المدرستين غريبا إلى حد ما. فمخرجو ما بعد الحرب العالمية الثانية من الواقعية الجديدة مثل فيثوريو دي سيكا وبوربتو روسليني كانوا يخرجون للشوارع لتصوير الأفلام - عادة بمصاحبة ممثلين هواة - في مساع لتقديم أعمالهم كأفلام تسجيلية شبه درامية. ومن خلال تصوير مواقع معروفة وأشخاص عاديين، كان مخرجو الواقعية الجديدة يسلطون الضوء على الحقائق القاسية المتعلقة بالأمراض الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانوا يسعون لكشفها أمام قطاع أوسع من الجمهور.

ومن جهة أخرى، كان التعبيريون الألمان يحصرون أنفسهم في الاستوديو؛ لكي يتمكنوا من خلق مشاهد خيالية وموترة. (جدير بالذكر أن ساترابي وبارنود سوف يصوران فيلم الدجاج بالخوخ في استوديو بابلسبرغ الشهير ببرلين الذي أنتج فيه فريتز لانغ رائعته ميتروبوليس).

وقد استمد المخرجون التعبيريون على غرار الشباب منهم - الواقعية الجديدة - الكثير من منظومة قيمهم الجمالية من محيطهم السياسي والاجتماعي الذي يعج بالاضطرابات. وعند منعطف القرن، وجد مخرجون مثل لانغ ومارونو أنفسهم وسط ثورة ثقافية يعززها صراع عالمي غير محدود بات وشيكا.

وكما كتب عالم الاجتماع والناقد ولفغانغ روثك: "لقد كان الشباب غاضبين وناقمين على التناقضات القاسية للإقطاع الأرستقراطي والتوسع الاقتصادي والإيمان المطلق بالتقدم العلمي".

وعلى غرار لانغ ومارنو، كانت حياة ساترابي تعج بالصراعات الاجتماعية والسياسية؛ فقد هربت من إيران مرتين، كما تصور على نحو مؤثر في بيرسيبوليس، ثم عادت مرة أخرى وهي شابة وبعدما تخلصت من أوهام ثورة  1979.

وبعد تجاوزها لمأساتها الشخصية، فليس مفاجئا أن تنجذب ساترابي فنيا للأفلام التعبيرية. ولا يحتاج المرء إلا إلى مشاهدة عدة لقطات من بيرسيبوليس لكي يلحظ تأثرها الملحوظ بالتصميمات الفنية المبالغ فيها للفيلم الكلاسيكي "عيادة الدكتور كاليغاري" الذي أنتج عام 1920 وربما يكون نص ساترابي أكثر مرونة وشخصياتها أقل تعرضا للتعذيب ولكنها تمكنت مع ذلك من ضخ إحساس قوى بالشك داخل رؤيتها البصرية ذات البعدين.

فعلى غرار الرؤية البصرية للواقعية الإيطالية الجديدة، هناك شيء أصيل وغامض في أداء ساترابي الجماهيري. فهي كثيرة التردد في عمل حوارات ولكنها عندما تفعل ذلك فهي لا تضيع مجرد حركة واحدة. فعيونها المضيئة تتحرك يمنة ويسرة لكي توضح فكرة فيما تبدو حركاتها التعبيرية مثل موجات تدفع أفكارها إلى الشاطئ.

وفي نفس الوقت، فإن معظم ما تقوله يحمل قدرا من الصراحة الصادمة. وكناقدة جريئة لجورج دبليو بوش، ومدافعة صريحة عن مرشح المعارضة الإيراني مير حسين موسوي في 2009 ومدخنة شرهة، فإنه من الواضح أن ساترابي ليست من الأشخاص الذين يستطيعون إخفاء مبادئهم خلف حجب الدبلوماسية.

وبالإصغاء إلى آرائها، ومواقفها من السياسة أو المساواة بين الجنسين يأتي للمرء انطباع بأن عالم مارجين ساترابي على غرار مشهد بيرسبوليس يقتصر على اللونين الأسود والأبيض.

فتقول في حوار لـ"الإندبندنت" في 2006 "في إيران إذا لمسك رجل عليك ضربه. وبالتالي فإذا مسني أحد بسوء، فإنني سأضربه على فمه.. الأمر بهذه البساطة".

وعلى غرار فلسفتها المباشرة والبسيطة، فإن أكثر المناحي إبهارا في رؤية ساترابي للعالم هو رفضها القوي للحكم المطلق. وعلى الرغم من قوتها في الإعلان عن آرائها سواء في أفلامها أو شخصيا فإنها تغلفها دائما بحس الدعابة، في رفض هادئ يمنع أي أحد من التعامل معها بجدية أكثر من اللازم. وعلى غرار أقطاب التعبيرية، فإن الدعابة المغروسة بعناية في أعمال ساترابي تجعل الجمهور مندهشا دائما مما لا يسمح له أبدا بالتعامل مع رؤيتها الفنية باعتبارها إنجيلا سياسيا.

فتقول في حوار مع "تايم أوت دبي" في مارس (آذار): "أنا لست صوت جيل ولست نائبة سياسية. فأنا إنسان ولد في مكان وزمان محددين وقد كتبت رؤية شخصية للغاية تمثل ذاكرتي عن تلك المرحلة".

إنه ذلك الصراع الأساسي - ذلك الشد والجذب بين الواقع القاسي والأزمات الشخصية - هو الذي يجعل أعمال ساترابي على ذلك القدر من الإقناع الفني. ربما تجعلنا ساترابي ننظر إلى العالم عبر عدسة من الأبيض والأسود وربما تكون كل شخصية أو كلمة أو ظرف سياسي يمر عبر تلك العدسة مستمدا من وجودها ضمن إطار الواقعية الجديدة. ولكن هناك دائما عامل موازن للتعبيرية وهو السؤال الذي ليست له إجابة حول السببية غير المنطقية التي تجعل من صور ساترابي على نحو مفارق مصدرا للبهجة ثلاثية الأبعاد وفي الوقت نفسه تحول ألوانها الثنائية إلى ظلال لا نهائية من الرمادي.

مما لا شك فيه أن ساترابي لا تستخدم فنها لإعادة إنتاج العجلة السينمائية ولكنها تجعله يتمحور حول أساليب جديدة وقوية. وفي الوقت الذي يبدو فيه أن التيار الأساسي للسينما أصبح عالقا في معضلة فنية تتعلق بالمصالح التجارية، من المرجح أن يتمكن أشخاص مثل مارجين ساترابي من جذب الوسط الفني بعيدا عن حياده ودفعه لآفاق بصرية جديدة.

وعلى غرار كافة الفنانين العظماء الذين سبقوها، يبدو أن ساترابي تمتلك وعيا استثنائيا بشأن معنى أن تكون "جديدا" في مجال يكتسب فيه مفهوم الأصالة دلالة مختلفة تماما عن أي مجال آخر. ولا تستطيع مارجين ساترابي إعادة إنتاج تاريخها الخاص ولا تستطيع روايته من خلال أدوات فنية جديدة. ولكنها تستطيع التقاط الأجزاء والتفاصيل التي قدمها سلفها ومزجها مع رؤيتها الذاتية وشق طريقا جديدا في المشهد دائم التغير للسينما المعاصرة. وعلى غرار القول الشهير لجان لوك غودار: "ليست المسألة من أين حصلت على الأشياء ولكن المسألة هي إلى أين تذهب بها".

font change