العطور في العالم العربي دنيا ودين

العطور في العالم العربي دنيا ودين

[escenic_image id="55156060"]

في أسواق مثل خان الخليلي في مدينة القاهرة القديمة أو في أي سوق عربية أخرى، تغلل المحال والساحات وحتى ملابس التجار وزبائنهم غلالة من العطر؛ حيث تغلف رائحة الورود والياسمين والحالة المثيرة التي يخلفها العود (الذي يتم استخلاصه من شجر العود)، واللبان وخشب الصندل، قلب الثقافة الإسلامية نفسها.

وللعطور في العالم العربي استخدامات دينية وطبية وعلمية، وفي الوقت نفسه فإنها تشجع المرء على الالتزام بإحدى العادات الشخصية اللطيفة. لقد كان أول العطور التي تدوم لمدة طويلة هو اللبان والمر المستخلصان من عصارة الأشجار التي تنمو في الأساس جنوب عمان. كما كان الأطباء وأطباء الأسنان وخبراء التجميل يستخدمون اللبان أيضا منذ 3000 عام قبل الميلاد، وفقا لما تشير إليه النصوص المسمارية المحفورة على الألواح السومرية. وقد اكتشف السومريون أن معظم النباتات العطرية والعصائر لها خصائص مطهرة تجعل منها وسائل طبيعية لعلاج الجروح الخارجية ومداواة الأمراض الداخلية. كما كان المر واللبان يستخدمان أيضا في مصر الفرعونية وما زالا حتى الآن من المواد العطرية المهمة، ليس فقط نظرا للعطر الذي يفوح منهما ولكن أيضا لقوتهما الوقائية.

إن المنطقة العربية هي موطن كثير من النباتات العطرية والمواد الصمغية التي تكون معا بالإضافة إلى إفرازات بعض الحيوانات (مثل مسك الغزال)، عددا كبيرا من المواد العطرية. وتنحدر كلمة " perfume" من الكلمة اللاتينية  per fumemالتي تعني «من خلال الدخان» حيث يرسل الأشخاص بغلالات من البخور إلى آلهتهم حاملة صلواتهم. وطوال الأزمنة القديمة كان هناك طلب متزايد ومستمر على البخور خاصة المصنوع من اللبان الذي كان مميزا لطقوس المرور في الطريق من الميلاد إلى القبر ولإقامة الطقوس اليومية بالإضافة إلى الاستخدامات المحلية من تبخير الغرف وأغطية الأسرة والملابس.

وعبر تاريخها التجاري، كان ثمن البخور والزيوت العطرية المستخدمة في صناعة العطور يفوق في بعض الأحيان وزنها ذهبا. فكان يتم مقايضتها باللآليء البحرينية وخشب الصاج الهندي والجياد والحرير والبورسلين من بلاد بعيدة مثل الصين، وبالذهب فعليا في البلاط الملكي الأوروبي في العصور الوسيطة. وكانت الليدي ماكبث، لشكسبير تعتصر يديها الداميتين صارخة بأن كل عطور العالم العربي لن تجعل يديها جميلتين.

وما زالت أكثر العطور التقليدية شعبية في الدول العربية هي العنبر والياسمين والعود والمسك الذي يعد من أقوى تلك العطور وأكثرها بقاء، وهو يستخدم عادة كأساس لتكوين العطور الأخرى. وكان خشب الصندل الذي يتم استيراده من جنوب الهند من المكونات التي يتم الاحتفاء بها منذ آلاف السنين وصولا إلى مصر القديمة؛ حيث إن عطره الغني والحلو والخشبي يجعل من الممكن استخدامه كعطر في ذاته أو تخفيفه واستخدامه كأساس لخلط وتكوين العطور الأخرى. ومن أكثر العطور ملاءمة للرجال الذي ينتشر في آلاف الأسواق على مدار الأسبوع هو دهن الورد الذي يتم جلبه من الطائف بالمملكة العربية السعودية وبالتالي يطلق عليه البعض اسم الطائف.

ويكمن «فن صناعة العطور» كما أخبرني أحد الخبراء المصريين في «المزج»، حيث يختار اثنين أو ثلاثة أنواع من المكونات من بين مئات زيوت الزهور والتوابل ويخلطها بنفس طريقة المصريين القدماء. فهو يفتت بتلات الزهور في آلة ضغط خشبية لاستخلاص الزيوت ثم يخلطها مع التوابل. وقد أخبرني أن الكيميائيين الفرنسيين قد أخذوا معهم زيوته إلى «غراس» وأضافوا إليها الكيماويات والكحول لإعداد تلك العطور ومنحها أسماء فرنسية ثم بيعها بأسعار باهظة. ويشبه عطر المسك الذي يصنعه إلى حد بعيد عطر «بال أ فيرسي» باهظ الثمن الذي يقدمه جان ديبري.

وقد تحدثنا أيضا مع أحد صناع العطور في الأقصر حول فن مزج العطور الأساسية. وعلى غرار العطر الغربي، فإن ترك انطباعات حول الخصائص الديناميكية والدقيقة هو هدف العطر الذي لا ينسى. حيث يتألف العطر من ثلاث طبقات؛ الأولى ترك الانطباع الأول حيث إنها سريعة التبخر وتكون في معظم الأحيان الآن برائحة الفواكه، تليها طبقة أخرى سريعة التبخر تتكون في الأغلب من روائح الزهور، وأخيرا نجد الطبقة الأساسية التي تكون في الغالب خشبية وتابلية ومثيرة وهي التي تساعد العطر على الاستقرار.

إن العطر هو أحد أشكال الرفاهية التي يستطيع حتى الفقراء من المسلمين التمتع بها كجزء من عملية الطهارة، وهي الطقس الذي يتم عبره تطهير الجسم قبل الصلوات الخمس اليومية. كما تستخدمه أيضا الأرملة بعد مرور 130 يوما من الحداد، حيث تدلك شعرها بأبخرة العود. ووفقا لشعائر القدماء فإنه يتم دهن الموتى بزيوت الكافور والزعفران والورد والعطر لاستحضار الملائكة. وكل يوم في كثير من المنازل العربية، يتم حرق البخور ورش العطور؛ حيث يتم تعطير الغرف خمس مرات يوميا عادة بالبخور باستخدام مكونات مثل مياه الورد والسكر والعنبر وخشب الصندل والزعفران في وصفات تم تناقلها من جيل إلى جيل، ومن الأمهات إلى بناتهن.

يا لها من طريقة متحضرة للحياة! فعندما يحين موعد انصراف الضيوف يقوم مضيفهم بإحضار البخور وتبخيرهم بعدما يكون قد قدم لهم بالفعل قارورتين أو ثلاثا من قوارير الزيوت العطرية في حامل بلوري عقب تناولهم الطعام. فعند انصرافهم، يمررون دخان العطر على ملابسهم ويستنشقون بعضا منه في وداع برائحة العطور. فقد تسللت تلك العطور السرمدية إلى نسيج الحياة نفسه، كرمز لضيافة عربية محببة.

 

* جولييت هايفت - كاتبة ومصورة ومتخصصة في التراث الشرق أوسطي والثقافة المعاصرة. وهي تعمل حاليا في إعداد كتابها الثاني «تصميم عمان» بعدما نشرت كتابها الأول: «اللبان هبة عمان» إلى العالم في 2006.

font change