في انتظار المهدي

في انتظار المهدي

[escenic_image id="55204579"]

في خطاب ألقاه في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، في المؤتمر الوطني عن «الحرب الناعمة» في طهران، أكد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أن «هناك الكثير من التفسيرات للإسلام، ولكن أساس ممارساتنا هو التفسير الإيراني. وتثبت التجربة التاريخية أن التفسير الإيراني للحقيقة هو أقرب التفسيرات لها».

وقد أثار هذا التصريح غضب معارضي أحمدي نجاد من المحافظين الذين يقولون إن الإسلام وحده - وليس القومية - يجب أن يكون أساس ممارسات الجمهورية الإيرانية، ولكنه أيضا صدم المحللين الدوليين المتابعين لسجل الجمهورية الإسلامية طوال الأعوام الثلاثين الأخيرة. وقبل هذا التصريح، كان القادة الإيرانيون دائما ما يؤكدون على أن الإسلام هو أساس السياسات الخارجية والمحلية في الحكومة الإسلامية.

وفي فتوى نشرت على موقعه الإلكتروني، قال آية الله علي خامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية ، إنه «وفقا للمذهب الشيعي، يجب على جميع المسلمين طاعة الولي الفقيه والخضوع لأوامره. وتنطبق هذه الفتوى أيضا على الفقهاء الشيعة الآخرين ناهيك عن تابعيهم. وفي منظورنا، يعد الالتزام بحكم الفقيه جزءا لا يتجزأ من الالتزام بالإسلام وحكم الأئمة المعصومين». وبالتالي اللقب الرسمي لخامنئي في وسائل الإعلام الحكومية في إيران هو «قائد العالم الإسلامي».

لماذا تحول أحمدي نجاد إلى خطاب قومي يرفض مفاهيم العرب والأتراك للإسلام، وبدلا من ذلك يعلن أن المدرسة الإيرانية للإسلام تقدم أصح تفسير للدين؟

بعد توليه منصب الرئاسة منذ خمسة أعوام، اعتمد أحمدي نجاد على خطاب مروع لجذب التأييد. وقد بشر بكل شيء بدءا من نهاية العالم إلى مجيء الإمام المهدي (الذي ينتظر الشيعة عودته)، إلى إقامة حكومة عالمية عادلة. وها هو الآن يتخلى عن الخطاب الشيعي الذي حاز شعبية كبيرة لدى الشيعة من العرب بالإضافة إلى نظرائهم الإيرانيين، ليختار نبرة أكثر قومية. وبافتراض أن أحمدي نجاد يأخذ خطابه الجديد على محمل من الجدية، من الممكن أن يشير ذلك إلى تحول جذري في منظور القيادة الإيرانية.

ولكن لم تكن الجمهورية الإسلامية على الدوام مؤيدة لجميع المسلمين. بل كان دعم إيران للمصالح الإسلامية مشروطا بأجندتها الإقليمية. وإذا كانت هناك قضية ما لا تضع المصلحة الإيرانية في المقدمة، فإن الحكومة إما أنها تتجاهل القضية أو تقف إلى صف الخصم. وأحد أبرز الأمثلة على ذلك هو تناول إيران لقضية الشيشان. لقد التزمت إيران الصمت حيال مسلمي الشيشان الذين يدخلون في صراع مع روسيا منذ ما يزيد على عشرة أعوام. بالإضافة إلى ذلك لم تصدر إيران أي تصريحات في يوليو (تموز) 2009، عندما قتلت قوات الحكومة الصينية ما يزيد على 190 مسلما إيغوريا في سلسلة من الاشتباكات العنيفة. وفي مثال آخر على عدم استمرار دعم إيران للمسلمين، موقف إيران في الصراع بين الأرمن المسيحيين في الغالب والأذريين المسلمين، حيث أيدت إيران القوات الأرمينية وأدانت الأذريين.

عند تناول الجغرافيا السياسية من منظور واقعي، تحول علاقات إيران مع روسيا والصين وأذربيجان دون دعمها لعديد من قضايا المسلمين في هذه الدول. وكذلك، لا يخلو موقف إيران تجاه المسلمين داخل حدودها من التناقض. في خطبه العامة، يتهم آية الله خامنئي القوى الغربية بإشعال الصراعات الطائفية بين الشيعة والسنة. في رأيه، يستفيد الغرب من الانقسام والصراع الداخلي بين المسلمين. ولكن لا يؤيد وضع السنة في إيران هذا الادعاء. لقد فُرض تمييز قانوني وسياسي منظم على السنة منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979. وفي حين يملك اليهود والمسيحيون والزرادشتيون (عبدة النار من المجوس) معابد وكنائس في كثير من المدن الإيرانية، من بينها العاصمة، لا يسمح للسنّة بوجود مساجد لهم أو أداء صلاة الجمعة الخاصة بهم في طهران.

ولا تتعلق مشكلة إيران بالمسلمين غير الشيعة فقط، حيث يواجه الشيعة - سواء كانوا مثقفين علمانيين أو مرجعيات دينية - الذين لا يؤمنون بنظرية حكم الولي الفقيه عقوبات صارمة. وقد أدان آية الله روح الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية، الحكومات العربية ونخبها بسبب عدم تأييدهم لنموذج الإسلام الثوري الذي كان ينشره. ولكن بعيدا عن ذلك، تعرض رجال دين ومرجعيات دينية شيعية (مثل آية الله أبو القاسم الخوئي في النجف وآية الله كاظم شريعتمداري في قم)، الذين عارضوا أيضا نموذج الخميني الذي يبرر بالضرورة احتكاره للسلطة، لهجوم علني. لقد وصفهم بـ«الأغبياء» و«أعداء الإسلام والرسول»، و«أتباع الإسلام الأميركي»، واتهمهم بأن «عقولهم متحجرة».

ويترسخ موقف إيران نحو المسلمين في منهجها في الإسلام ذاته. قبل عام 1979، كان آية الله الخميني يعمل جاهدا من أجل تكوين قاعدة فكرية لتأييد ولاية الفقيه، قائلا إنه لا غنى عن التطبيق الصارم للشريعة. وحيث إن الفقيه خبير في الشريعة الإسلامية، فهو أكثر شخص مؤهل لتطبيق مبادئها، وبذلك يجب أن يحكم البلاد. ولكنه عندما وصل إلى السلطة، وجد أن الحداثة أدت إلى عدم تحمل الثقافة والمجتمع الإيرانيين لكثير من المبادئ الشيعية، وأصبح شبه مستحيل العودة إلى أسلوب الحياة الذي يتناسب مع الفهم التقليدي للفقه الإسلامي. لذلك، استعار فكرة «المصلحة» من الفقه السنّي، والمصلحة الوطنية (وهو مفهوم فرنسي يبرر هيمنة الدولة) من الفلسفة السياسية الغربية، وطبقهما وفقا لأحكامه الخاصة.

وقال الخميني إنه في الحالات التي تتعارض فيها الشريعة مع واقع الحياة العصرية، يملك الولي الفقيه السلطة الدينية لإصدار حكم مخالف للشريعة. وبهذه الطريقة، ما يجعل الوالي الفقيه مختلفا ليست قدرته على تطبيق الشريعة، بل سلطته الدينية الفريدة التي تتيح له تجاهل الشريعة من أجل المصالح الخاصة بالنظام، إذا كانت الشريعة معارضة لما من شأنه أن يحافظ على بقاء الحكومة.

ووفقا لهذا الأسلوب المستحدث في التفكير، حل الخميني كثيرا من المشكلات التي واجهتها حكومته، ومن بينها حق المرأة في الاقتراع (وهو ما حرمه الخميني منذ أكثر من عقد قبل قيام الثورة)، وحق المرأة في الظهور على شاشة التلفزيون، أو في الأفلام أو كعازفة موسيقية، بالإضافة إلى البيع القسري للممتلكات الخاصة، وفرض أنظمة ضريبية جديدة، وغيرها. لذلك على الرغم من وجود كثير من الفقهاء الآخرين في العالم الشيعي يتسمون بمعرفة وعلم أوسع من الولاة الفقهاء في إيران، فإن ما يجعل هذه الفئة من الشيعة مناسبة للمنصب هو أنهم يعرفون أيضا ماهية مصالح النظام ويمكنهم إدراك المواقف التي يجب فيها بطلان الشريعة من أجل المصالح الوطنية.

ولم يعد بطلان حكم الشريعة مجرد مسألة موقتة في الجمهورية الإسلامية، بل أصبح مؤسسيا. عندما أدرك الخميني أن الأوضاع الحالية تمنع التطبيق الكامل للشريعة، أدخل مبدأ المصلحة. ثم أسس مجلس مصلحة النظام لإدخال منهجه في النظام السياسي. وكان مجلس صيانة الدستور، الذي تأسس وفقا للدستور الأصلي، مكلفا بدراسة قرارات البرلمان لضمان التزامها بكل من الدستور والشريعة الإسلامية، في حين كان مجلس مصلحة النظام معنيا بفض المنازعات بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور.

على سبيل المثال، إذا رفض مجلس صيانة الدستور قرارا صادق عليه البرلمان، من الممكن أن يحال مشروع القانون إلى مجلس مصلحة النظام للمداولة. وإذا اعتقد مجلس مصلحة النظام (نيابة عن الولي الفقيه) أن قرار البرلمان يخدم مصالح النظام، من الممكن أن يصوت لصالح مشروع القانون، حتى وإن كان مخالفا للدستور أو الشريعة الإسلامية. وعلى قمة الهرم يوجد الولي الفقيه، المخول بإبطال القانون بنفسه أو من خلال مجلس مصلحة النظام. وكان هذا هو المعنى الضمني لعبارة «السلطة المطلقة للولي الفقيه» المذكورة في نسخة الدستور التي تمت مراجعتها.

وقد وضع آية الله الخميني تفاصيل نظرية الحكومة، وما هي إلا حكم استبدادي باسم الإسلام. وفي هذا النظام السياسي، لا يعتمد كل شيء على فهم الولي الفقيه للإسلام، بل على إرادته.

وتتبنى الجمهورية الإسلامية نهجا نفعيا نحو الإسلام، بل وتسعى أيضا إلى استخدام المذهب الشيعي لصالحها. في سياستهم تجاه المسلمين يستخدم القادة الإيرانيون الانقسام الشيعي - السنّي من أجل تحقيق مكاسبهم السياسية بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية لدى مخاطبة العالم السني، بينما يؤكدون على الهوية الشيعية عند مخاطبتهم للشيعة. وعندما يخفي الرئيس أحمدي نجاد خطابا مروعا تحت مظلة الخطاب القومي، لا يجب أن يفترض أحد أنه يؤمن بالقومية الإيرانية أو الآيديولوجيا الإسلامية.

على سبيل المثال، في حين كانت الحكومة تحظر الذكر العلني لحضارة وتقاليد ما قبل الثورة الإسلامية في إيران منذ أعوام، فإن أحمدي نجاد من منصبه الرئاسي، يتحدث عن فخر بما قبل الثورة الإسلامية وممالك إيران الرائعة. وفي جميع خطبه قبل الانتخابات الأخيرة، كان من الصعب أن نجد أي إشارة لتلك الفترة. ويأتي هذا التغيير في الخطاب كجهد واضح من جانبه لاستعادة التأييد المطلوب، لا سيما بين الطبقات الدنيا والمتدينين، بعد الانتخابات المثيرة للجدل التي أجريت في يوليو (تموز) عام 2009. وينتج هذا أيضا عن تدهور الوضع الاقتصادي الإيراني بسبب العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة بالإضافة إلى سوء الإدارة الاقتصادية في الحكومة.

لقد أفقدت الأزمة السياسية، التي بدأت في العام الماضي، الجمهورية الإسلامية مصداقيتها كحكومة «إسلامية». ودائما ما يهاجم القادة الإيرانيون الأنظمة الديمقراطية الليبرالية الغربية ويعتبرونها فاسدة. وعلى الرغم من أنه ليس لديهم مطالب واقعية بالديمقراطية، فإن ما يتعرض للخطر هو الطبيعة الإسلامية للنظام والادعاء بأن إيران هي «الجمهورية الإسلامية الحقيقية الوحيدة» في العالم. لقد أصبح من الصعب عليهم استخدام الإسلام لتبرير ما حدث في العام الماضي.

ومع ذلك، من المعلومات العامة أن الإسلام لا يقبل باغتصاب الرجال والنساء في السجون كعقوبة على تظاهرهم احتجاجا على نتائج الانتخابات. لذلك أجبر أحمدي نجاد على البحث عن شيء آخر يكسب به مجموعة جديدة من الناخبين. ويفتخر بعض الإيرانيين، داخل وخارج البلاد، بهويتهم القومية، ولكنهم لا يهتمون بالضرورة بالنظام السياسي الحالي. وربما تشبع محاولة أحمدي نجاد تصوير إيران كقوة عظمى في المنطقة شعورهم الوطني. وقد لا تشكل تلك المجموعات فصيلا كبيرا بين الإيرانيين، ولكنهم الآن أصبحوا هدفا لرئيس يائس لديه كل شيء ولكنه فقد شرعيته الدينية.

وكما صرح آية الله حسين علي منتظري، النائب السابق لآية الله الخميني الذي أصبح من أبرز معارضي النظام، لم تعد الجمهورية الإسلامية الآن إسلامية أو جمهورية، فما يشكل قراراتها ليس المذهب الشيعي أو الآيديولوجيا الإسلامية. فما يحدد سياسات إيران هو اهتمامها بالحفاظ على مكانة الصدارة في المنطقة وبقائها كنظام حكم فردي. وتفتقد الجمهورية الإسلامية للمبادئ، كما أن جميع تحالفاتها مع دول أو جماعات أخرى موقتة. لذلك، من المسموح لها الرقص مع الذئاب إذا تطلبت «مصلحة النظام» ذلك.

 

  مهدي خلجی- باحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. وقد درس المذهب الشيعي في قم، والكلية التطبيقية للدراسات العليا في جامعة السوربون في باريس. ويحمل أحدث كتاب ألفه باللغة الفارسية عنوان: «النظام الجديد للمؤسسة الدينية في إيران».

font change