الصراع التركي – الكردي.. بداية النهاية

الصراع التركي – الكردي.. بداية النهاية

[escenic_image id="55221900"]

في توركالي، قرية أحد المهربين الواقعة على الحدود التركية الإيرانية، كان جونيت بوز يتحدث وهو على ظهر فرسه. قال، مربتا على عنقها: "حقول ألغام.. باسدران.. إنها لا تخشى شيئا. إذا أطلقت لها اللجام سيكون من الصعب إيقافها. فقد تركض إلى تبريز إذا تركتها".

يقدم وصف هذه الفرس تشبيها جيدا للحرب الكردية التي اشتعلت في هذه المنطقة منذ عام 1984، مما أسفر عن مصرع 40,000 شخص، وإخلاء آلاف عدة من القرى ومنح تركيا صفة أكثر الدول انتهاكا لحقوق الإنسان. ويعلم الجميع أن هذه الحرب يجب أن تنتهي. ولكن تكمن المشكلة في أنه لا يبدو أن أيا من أنقرة أو الحركة الكردية لديهما فكرة عن كيفية وقفها.

صرح جميل بايك، وهو قائد بارز في حزب العمال الكردستاني المسلح، لمجلة "إكسبريس" التركية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قائلا: "لا يمكننا أن نحقق شيئا من وراء القتال، وكذلك الدولة. البديل الوحيد هو الحل السياسي". وبعد شهر، في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني)، أعلن حزب العمال الكردستاني عن وقف إطلاق النار حتى انعقاد الانتخابات العامة، المقررة في تركيا في الصيف المقبل. ولكنه رفض سحب ميليشياته المسلحة من تركيا إلى شمال العراق، منتبها من دون شك إلى الخسائر الفادحة التي تكبدها بسبب الجيش التركي عندما انسحب آخر مرة عام 1999. وفي اليوم الذي تم فيه وقف إطلاق النار، فجر عضو في حزب العمال الكردستاني نفسه في وسط اسطنبول، مما أسفر عن جرح عشرة من رجال الشرطة.

وفي حين يستمر الرجال في الجبال في حربهم الزائفة، تشهد البلدات والمدن الكردية صعودا لظاهرة جديدة في الشهور الأخيرة: وهي العصيان المدني. وقد بدأ هذا الأمر في سبتمبر (أيلول)، عندما قاطع آلاف من الطلاب في جميع أنحاء المنطقة الذهاب إلى المدارس لمدة أسبوع احتجاجا على عدم تعليم اللغة الكردية في المدارس الحكومية التركية. وقبل أسبوع، في 12 سبتمبر (أيلول)، دعا الحزب القومي الكردي في تركيا مؤيديه إلى مقاطعة استفتاء على الدستور دعت إليه الحكومة.

وتحقق له ما أراد: حيث التزم نحو نصف الناخبين في الجنوب الشرقي منازلهم، وارتفعت نسبة الغياب عن التصويت في بعض المناطق إلى أكثر من 90 في المائة. وفي النهاية، في 4 نوفمبر (تشرين الثاني)، في محاكمة مئات من الأكراد بتهمة الانضمام إلى جناح حزب العمال الكردستاني في الحضر، حاول المتهمون الدفاع عن أنفسهم باللغة الكردية. وقال القاضي إنها "لغة مجهولة" وأمر بطردهم من المحكمة.

ويصف كثير من المحللين حملات العصيان المدني بأنها إشارة على أن ميزان القوى داخل الحركة الكردية لم يعد يميل نحو المسلحين في مقابل الجناح المدني. وبدا أن هذا هو مغزى المشاجرة التي وقعت في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) بين قائد حزب العمال الكردستاني المسجون عبدالله أوجلان وعثمان بايديمير، رئيس بلدية ديار بكر، أكبر مدينة يسكنها أكراد في تركيا. وقال بايديمير إن زمن السلاح قد انتهى. وكان ذلك ما يقوله أوجلان باستمرار منذ أن اعتقلته تركيا عام 1999، ولكنه لم يكن سعيدا هذه المرة. ومن سجنه في جزيرة قبالة اسطنبول، قال لرئيس البلدية إن عليه إما التوبة علنا أو الاستقالة. وعلى نحو غير متوقع، اصطف سياسيون أكراد لتأييد بايديمير، بدلا من الرجل الذي يصر حاليا على مخاطبته بلقب "القائد".

لا يقتنع سيردار يلمظ، رئيس جمعية إسلامية مدنية في ديار بكر، بكل ما يقال عن تحول القوميين الأكراد ضد حزب العمال الكردستاني. ولكنه يعتقد أن تأييد حزب العمال الكردستاني الضمني لتصرفات العصيان المدني جزء من جهوده للتأقلم مع الظروف المتغيرة في المنطقة. ويقول: "يشير كل شيء إلى أن حزب العمال الكردستاني، عاجلا أم آجلا، سيتخلى عن سلاحه. تريد أميركا منه أن يفعل ذلك، وكذلك الدول المجاورة لتركيا، كما أن تركيا تتخذ – أخيرا - خطوات لإقناعه بذلك، وهو يرغب في ذلك أيضا. ولكن نزع السلاح يسبب أزمة. وعلى مدار أعوام، كان السلاح والحرب والصراع والشهادة من وسائل الحزب في حشد التأييد. والآن، إذا قدر له الاستمرار، سيحتاج إلى البحث عن أساليب أكثر (مدنية) لحشد التأييد".

ولا يختلف الوضع كثيرا على الجانب التركي. في بداية عام 2006، صرح أعلى جنرالات تركيا علنا أنه "حتى إذا أرسلنا 500,000 جندي إلى (مقر حزب العمال الكردستاني في شمال العراق) لن نتمكن من القضاء نهائيا على هذه الجماعة". وبعد أعوام من إنكار وجود الأكراد، ناهيك عن المشكلة الكردية، خففت أنقرة تدريجيا من حدتها تجاه الأكراد – من دون منحهم الاعتراف الدستوري الذي يطالبون به. وبعد ذلك جاء السماح بتدريس برامج لغة خاصة، في يناير (كانون الثاني) عام 2009، من خلال افتتاح قناة تلفزيونية حكومية باللغة الكردية.

ولكن لا تسير الأمور بهذه السرعة. فقد تعثرت خطط الحكومة الحذرة لإقناع حزب العمال الكردستاني بنزع السلاح سريعا بعد أكتوبر (تشرين الأول) عام 2009، عندما أصدر القوميون الأتراك رد فعل غاضبا على رؤية حشود كردية مبتهجة ترحب بـ"وفد السلام" من حزب العمال الكردستاني العائد إلى البلاد من العراق. لقد تقلص تهديد القوميين بدرجة كبيرة حاليا، بعد انهيار حزب المعارضة القومي في الاستفتاء الذي أجري في سبتمبر (أيلول) الماضي. ولكن يبدو أن الحكومة فقدت حماسها لوضع استراتيجية كبرى.

وبدلا من ذلك، في حين يستمر مسؤولون رفيعو المستوى في مفاوضاتهم مع أوجلان، يبدو أن الحكومة قد قررت محاولة جذب الأكراد إلى جانبها من خلال إيماءات رمزية. وتخطط مديرية الشؤون الدينية الكبرى في البلاد، والتي يعمل بها 80,000 إمام وهي مسؤولة عن متابعة المساجد في الدولة، السماح بإلقاء خطبة الجمعة باللغة الكردية. كما منحت أموالا لـ1.364 مسجدا جديدا في المناطق الكردية ولما تطلق عليه الحكومة "فرق الإرشاد"، وهي مكونة من مسؤولين دينيين مهتهم "حماية وحدة البلاد ومكافحة الانفصال".

في الوقت ذاته، في الأول من ديسمبر (كانون الأول)، أصدرت وزارة الثقافة نسخة باللغتين الكردية والتركية من الملحمة الكردية "القومية" "مم وزين". وقال الوزير: "لا توجد مقدمة كردية، ولكنها عملية ديمقراطية تقدمية". ويشعر محللون بالقلق من أن تكون الحكومة التركية قد قررت التراجع عن أي خطوات كبرى حتى تجرى الانتخابات في العام المقبل.

تقلق هذه الفكرة مقدّر يارديمجيل، الصحافي في بلدة كارس المختلطة عرقيا، الواقعة بالقرب من الحدود الأرمنية. وشكك في أن "الديمقراطية التقدمية" ستكون كافية لتحقيق السلام في المنطقة التي دمرتها حرب استمرت طويلا، وتحسّر على عدم وجود تصور وشجاعة من كلا الجانبين. وتساءل قائلا: "ولكن ماذا تتوقع إذا أمضيت ثلاثين عاما محدقا في فوهة بندقية، أظن أنه سينتهي بك الحال مصابا بالحول".

 

* نيكولاس بيرش – عمل صحافيا حرا في تركيا لمدة ثمانية أعوام. وتنشر كتاباته في عدد كبير من الإصدارات منها مجلة "التايم" و"وول ستريت جورنال" و"تايمز" اللندنية.

font change