مصر ما بعد مبارك.. للخلف در

مصر ما بعد مبارك.. للخلف در

[caption id="attachment_1848" align="aligncenter" width="620" caption="لافتة بكلية الطب بجامعة الاسكندرية للتيار السلفي"]لافتة بكلية الطب بجامعة الاسكندرية للتيار السلفي[/caption]

جلس الشيخ في مكتب فاخر بالدور التاسع في أحد الأبراج السكنية عابثا بتليفونه الجوال. وفي المكتب المضاء بنور غامر يتسلل من النافذة التي تمتد من الأرض حتى السقف والمطلة على النيل، حدد الشيخ نوع العقوبات التي يمكن أن يتوقعها المصريون إذا ما تم تطبيق نظامه القضائي.
فيقول الشيخ: "في الشريعة الإسلامية هناك عقوبة مشددة لكل جريمة، كجلد الظهر وقطع الأيدي. حيث تحتوي الشريعة على عقوبات قاسية لمن يرتكب جرما". وقد أكمل الشيخ عبد المنعم الشحات، الواعظ المتبع للتيار السلفي الأصولي، حديثه قائلا إن معظم المصريين بعد الثورة يتفقون مع رأيه ولكنهم لم يدركوا ذلك بعد.
وأضاف: "على أية حال، لن يجبر السلفيون المجتمعات على تطبيق الشريعة إن لم يكونوا قد استوعبوها". وأضاف: "مع العلم، سوف يتقبلها المسلمون كافة".
الشيخ عبد المنعم، الواعظ البدين، قصير القامة، ذو اللحية التي تشبه لحية فيدل كاسترو، والتي يحاكيها الكثير من أتباعه، هو متحدث بارز باسم الجماعة السلفية في مصر. وعلى خلاف الإخوان المسلمين، التي كانت تمارس نشاطا سياسيا سريا رغم أنها كانت محظورة لأكثر من نصف قرن، أحجمت الحركة السلفية، التي ظهرت لأول مرة في منتصف القرن التاسع عشر من بين النخبة الفكرية لجامعة الأزهر العريقة بالقاهرة، عن ممارسة السياسة.
ومع ذلك، تخلى بعض السلفيين عن نفورهم السابق من دائرة الضوء السياسي في السباق لانتزاع موطئ قدم فيما بعد مبارك. حيث منحت لجنة شؤون الأحزاب تصريحا بإنشاء حزب النور السلفي في الثالث عشر من يونيو (حزيران) 2011، في حين ما زال حزب الفضيلة يبذل جهودا مضنية لحشد التأييد. ويقال إن هناك عددا آخر من الأحزاب الأخرى قيد الإنشاء.
ويأتي ذلك في إطار تصاعد التوتر بين المسلمين والأقباط في مصر، والذي عزاه الكثيرون للتأثير السلبي لبروز الجماعات السلفية.
وكان نحو اثني عشر شخصا قد لقوا مصرعهم خلال الشهر الحالي في الاشتباكات العنيفة التي اندلعت في إمبابة، أحد أحياء القاهرة، وذلك حين اندلعت أحداث شغب بسبب شائعات عن احتجاز امرأة مسيحية تحولت للإسلام في الكنيسة، وركزت معظم التقارير في اليوم التالي على المجموعات السلفية الكبيرة التي وجدت أثناء الأحداث.
جاءت هذه الحادثة بعدما تصدرت موجة من القصص المرعبة عن السلفية، الصحف المصرية، بالإضافة إلى تقارير حول إغلاق محال خمور عقب مظاهرات للسلفيين، واحتجاجات على عمليات خطف أو قتل تعرضت لها نساء تحولن إلى الإسلام. وفي أعقاب حادثة واحدة، ذهبت وكالة "أسوشييتد برس" لحد القول إن السلفية تقع على مسافة ضئيلة من تنظيم القاعدة، وهي مقارنة ضحلة في أحسن الأحوال.
ليس هناك شك في أن بعض الليبراليين والعلمانيين في مصر ليسوا مولعين بالسلفية. فكما يقول رامي السويسي، أحد أعضاء حركة شباب 6 أبريل، "أنا أحب الدين، ولكنني لا أحب هذه النوعية من التدين. هناك فرق بين الإسلام والتطرف".
وعلاوة على ذلك، يبدو قلق المسيحيين حيال تأثير السلفيين منطقيا في ضوء تعنتهم الذي ظهر في العديد من الأحيان. وأخيرا، قال داعية سلفي آخر يدعى الشيخ خالد عبد الله، إنه يرى أن أقباط مصر متهمون بالخيانة لإقامتهم علاقات مع الغرب.
"إنه أمر محزن، عندما يذهب أقباطنا للأمم المتحدة وأوروبا قائلين: تعالوا إلينا وأنقذوا أرواحنا"، فهم بذلك يخونوننا. هم لا يدركون ما فعلت الأمم المتحدة في العراق وباكستان. "المسيحيون أصبحوا ضد المسلمين الآن. فهم لا يريدون لمصر أن تصبح إسلامية".
ومن جهة أخرى، يعتقد البعض أن الإعلام المصري والنخبة السياسية هم من يقع على عاتقهما اللوم في إثارة الفزع. في مارس (آذار) الماضي، وافق الناخبون المصريون على التعديلات الدستورية بغالبية ساحقة - وهي النتيجة التي تمهد الطريق أمام انتخابات برلمانية ورئاسية في وقت لاحق من هذا العام.
ولكن تلك النتيجة كانت صادمة للعديد من الليبراليين الذين أرادوا فترة انتقالية أطول لتساعدهم على إنشاء هيكل سياسي أكثر قوة. وألقى العديد منهم باللوم على السلفيين.
فيقول جمال سلطان، السلفي، ورئيس تحرير الجريدة الإلكترونية "المصريون": "خلال الاستفتاء على التعديلات الدستورية، أدركت القوى السياسية القدرة الكبيرة للسلفيين على حشد الجماهير صوب التصويت بنعم. وذلك ما حدث أيضا للعديد من الأحزاب السياسية الأخرى في مصر، الذين غضبوا بشدة عندما أدركوا قدرات السلفيين السياسية".
وفقا للأستاذ ستيفان لاكروا، أستاذ معهد الدراسات السياسية في باريس، الذي قضى سنوات طويلة في دراسة الحركات الإسلامية الأصولية، شجب الشيوخ المصريون أحداث العنف التي وقعت بين المسلمين والمسحيين بعد سقوط مبارك.فقال: "إذا ألقيت نظرة على خطب معظم الشيوخ، فقد نددوا جميعا بالعنف. وألقوا باللائمة على السلفية".
وأضاف لاكروا أن السلفية لا تمتلك هيكلا قويا أو قيادة مركزية، وأن من ذهب لإمبابة كان على الأرجح يمثل التفاح الفاسد الذي انساق وراء شيوخ الحي المحتالين. وقال أيضا إن هذه الأحداث وقعت على الأرجح قبل أن يصنع أي من الأحزاب السياسية السلفية هذه الضجة.
جدير بالذكر، أن التاريخ الحديث للسلفية في مصر يعود إلى السبعينيات من القرن الماضي - في الوقت الذي وصل فيه نشاط الجماعة الإسلامية أوجها، وذلك حيث انتشرت بعدما تم وضعها على قائمة المنظمات الإرهابية في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
من البداية، كانت هناك توترات بين السلفيين والإخوان المسلمين، فكان كل منهما يحاول أن يحشد أنصارا له وأن ينشر رسالته بين العامة. وفي محاولة للتنسيق، بدأ سلفيو مصر في الثمانينيات من القرن الماضي تشكيل شبكة قوية تنتشر في جميع أنحاء الجمهورية. ومع وجود قاعدة لهم في الإسكندرية، بدأت الحركة الأصولية تكتسب الشعبية.
[caption id="attachment_1851" align="alignleft" width="267" caption="أي دور للاخوان مع اقتحام التيار السلفي معترك السياسة"]أي دور للاخوان مع اقتحام التيار السلفي معترك السياسة[/caption]

معترك السياسة

قسم المحللون الحركة السلفية لمجموعات فرعية مختلفة، أحجم معظمها عن المشاركة السياسية حتى ثورة الخامس والعشرين من يناير.
واحدة من هذه الجماعات تسمى "السلفيون النشطاء"، تلك الجماعة التي ترجع أصولها للحركات الجامعية في السبعينيات من القرن الماضي، والتي تعمل تحت وصاية شيوخ أفتوا بهرطقة الحكام إن لم يحكموا وفقا للشريعة.
طالما رفض هؤلاء السلفيون المشاركة في انتخابات ديمقراطية، لاعتبارها هرطقة وخروجا عن شريعة الله. إلا أن التغيير طال بعضهم وتبنى مفهوم الديمقراطية واستخدموا أصواتهم بفعالية حتى أن المشايخ دعوا أنصارهم للذهاب والتصويت لصالح التعديلات الدستورية في الاستفتاء الذي أجري أخيرا.
وإنشاء حزب النور دليل على هذا التغير التي طرأ على التفكير السلفي. فعلى الرغم من أن السلفيين عارضوا أي نوع من المشاركة السياسية في السابق، الآن يكونون أول حزب سياسي لهم في التاريخ.
هناك بالطبع قطاع معين من السلفية لم يتحرج من قبل في التعبير عن صوته. الجهادية السلفية، وهي النسخة المتطرفة للغاية من الإسلام والتي تعتبر أعضاء “القاعدة” من أهم أنصارها، والتي ترى وجوب محاربة كل حكومة لا تطبق الشريعة الإسلامية.
في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، تحول النفور السلفي من السياسة إلى انعزال تام. على الرغم من قدرتهم على صنع الأخبار، فإن هذا القطاع من السلفية ما هو إلا قطاع صغير مجمل الحركة. والشيء نفسه ينطبق على السلفيين في مصر مقارنة بباقي المسلمين في البلاد اليوم. وعلى الرغم من أن الشيخ عبد المنعم الشحات يزعم أن هناك ملايين من الأنصار في جميع أنحاء البلاد، يقول ستيفان لاكروا إن العدد قد يكون في حدود مائتي ألف، ولكنه اعترف بأن هذا الرقم غير دقيق، لصعوبة تحديد من هو سلفي.
ومع ذلك، يبدو أن العديد من السلفيين قد تغلغلوا في المجتمع المصري. سميت الحركة تيمنا بالسلف الصالح أو بالسلف التقي في بداية المجتمع الإسلامي.
يعتقد السلفيون أن التابعين الأوائل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هم وحدهم من كانوا يمارسون الإسلام بشكل صحيح، ويمكن أن نميزهم عادة بالجلباب القصير، الذي يتم ارتداؤه امتثالا للتعاليم الإسلامية، حيث إن الملابس الطويلة تدل على الغرور.
ولكن لجمال سلطان، هذه الصور النمطية ليست مفيدة كما أنها مضللة. فيقول: "يهتم الغرب كثيرا بالمظاهر: اللحية، الملابس والطريقة التي يعيشون بها، ولكن السلفية ظاهرة واسعة النطاق. فيمكنك أن تجدهم في الأحياء الفقيرة، وكذلك بين الطبقات الراقية. يمكنك أن تراهم كباعة جائلين، كأساتذة جامعات وأيضا كلاعبي كرة قدم. فهم موجودون في كل مكان".
فيقول لاكروا إن الحركة قد تزايدت إلى حد كبير في العشر سنوات الماضية، في أماكن عدة مثل الإذاعات السلفية المتشددة التي سمح بها نظام مبارك لمواجهة نفوذ الإخوان المسلمين. وأضاف أنه كان من المستبعد أن تشهد مصر أي نوع من السلفية السياسية لمدة طويلة.
يبدو أن العديد من المصريين يتفقون مع ذلك. فإذا تحدثت للناخبين الليبراليين - الذين من المفترض أن تكون لديهم أكبر المخاوف من تهديد السلفيين - ستجد معظمهم رابطي الجأش، مفضلين إبعاد هذه الحركة بدلا من تحويلها لقوة لا يستهان بها.
فيبدو أن الأزمة الحقيقية، كما يشير لها ستيفان لاكروا، هي أزمة ثقافية أكثر من كونها منافسة انتخابية، وهو ما يقلق النخبة الليبرالية بشدة. إذا أخذت سيارة أجرة، وإذا بدا السائق مقتنعا أن النقاب هو الزى الإسلامي الصحيح للمرأة فسوف يقول: "زوجتي لا ترتديه على الرغم من أنها لا بد أن تفعل، ولكننا ضعفاء". هذا ما لم تكن لتسمعه في مصر منذ خمسين عاما. فإذا كنت تعتقد على غرار الشيخ عبد المنعم والشيخ خالد عبد الله، أن كل مسلم سلفي حتى لو لم يدرك ذلك، فالانتخابات القادمة سوف تثبت مدى صحة هذه النظرية.

أليستير بيتش
font change