برلمانات الجنّة والنار

برلمانات الجنّة والنار

[caption id="attachment_55229877" align="aligncenter" width="620" caption="البرلمان الايراني.. وعظ وارشاد وكثير من الايديولوجيا"]البرلمان الايراني.. وعظ وارشاد وكثير من الايديولوجيا[/caption]

يفترض دارسو تجربة الايديولوجيّات التي مرّت بها المنطقة، أن الأفكار الكبرى والمدارس الفكريّة النظريّة تتعرض لهزات عنيفة مع دخولها إلى حيّز التجربة، وغالبًا ما تقع رهينة الأمراض والأغراض الشخصيّة، تلك التي تحوّل الايديولوجيا إلى أداة لتحقيق مآرب (ضيّقة، شخصيّة، طائفيّة) لحملتها، فتركَب روحُ الأيديولوجيا مطيّة إلى الحكم، ومن ثمّ تتآكل وتتحول إلى مشروع سلطوي يحاول البقاء لمجرد البقاء.

يرى فرهنك رجائي مؤلف كتاب "الإسلاموية والحداثة.. الخطاب المتغير في إيران" أنّ المشروع الإسلامي في إيران أنتج دولة منفصلة عن مجتمعها، فالدولة (نحن) والمجتمع (هم)، وأكّد أن ازدواجية الإسلام السياسي ومن يمارسه، أنتجت مرض ادِّعاء التّدين، ويتنبأ الكاتب بأنه مثلما أخفقت الحداثة في ظل الحكم البهلوي لإيران فقد أخفق "الإسلامويون" في نواح كثيرة، وأفضت تحليلاته إلى أنّ التجربة أفضت إلى تآكل الأيديولوجيا الإسلامويّة، وأفرغتها من الروح الدينية. قريب من هذه الرؤية أسقطها كثيرون على التجربة القوميّة والشيوعية العربيّة، بتعديلات يسيرة، في قياس مع الفارق.

بعض النظريات تولد في فضاء من المعارك السجاليّة الكلاميّة لتبتعد عن الأسئلة الحقيقية التي تتعاطاها مفاهيم الدولة، وهذا لا يعني أن المعارك الكلاميّة والفلسفية لا جدوى منها، بل انها قيّمة جدًا متى التزمت مكانها الأكاديمي النظري، بعيدًا عن مباشرة منظومة الحكم.

ومثل هذا المعنى صوّره الكاتب الإيراني عطاء الله مهاجراني، في روايته "الجنّة الرمادية" التي خلّد فيها روح الصراع بين من يحرسون مصالحهم ورؤاهم تحت ستار حراسة الفضيلة، وبين مجتمع الحريّة والإنسانيّة، الذي يعيش طبيعيًا بين الصواب والخطأ، ورمز مهاجراني للكثير من التجارب، التي أرادت فرض الرؤى، وادعت الحقائق المطلقة، وتمنت حراسة الفضيلة، وفي سبيل الوصول إلى مجتمع "الجنة" قتلت وعذبت، بينما كان العرّاب المُنظّر يجرّب نظرياته الخيّالية، ويخلق جنته، فأغرق الجميع في أوحال الانتقال.


[caption id="attachment_55229878" align="alignright" width="132" caption="عطاء الله مهاجراني"]عطاء الله مهاجراني[/caption]


ولم يصل بهم إلى الجنّة، بل خلّدهم في جحيم "جنة رماديّة"، وجعل مهاجراني "الإسلام هو الشهيد المظلوم" جرّاء التجارب المتعاقبة، وهي خلاصة قريبة، لخلاصة رجائي " تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا يؤدي إلى إفقار القيم الروحانية له وإضعافها، وذلك ينتهك من ضمير الدين نفسه ويثير غضب الخالق".

اندهش الكثيرون للخطاب الوعظي الذي ملأ الساحة السياسية في الانتخابات التي شهدتها المنطقة العربيّة الشمال إفريقيّة الأخيرة، فقد ابتعدت المشاريع والبرامج الانتخابيّة عن تناول نسب البطالة، والديون السيادية، ومعدلات النمو البشري، وغيرها من أرقام ومؤشرات الاقتصاد الحي والمرتبط بالمعاش، ولم تتناول أيضا متطلبات الحريّات، والصحة والتعليم، وتركزت حول جدال الهويّة، وتأجيج التنابز والتنافر بين مكونات المجتمع، وقد وصف حزب الوفد المصري الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة ونتاجها بـ"برلمان الجنة والنار"، معلقًا على تحوّلها إلى معركة للتكفير بين الاخوان المسلمين والأقباط. وهو صراع لمجرد الصراع.

التجربة السياسة، التي لا تنشغل بمشاكل الإنسان اليوميّة، وباقتصاده، وتعوّض ذلك بأحاديث فضفاضة، ووعود تخرج عن مضمون السياسة الدنيوية، تجرّ الخسارة للمواطن.

خلو البرامج من لغة الأرقام، وتعويض ذلك بخطاب ايديولوجي مندفع، ينذر "مؤقتًا" بسيادة خطاب أزمة، والتاريخ يؤكّد أن أي خطاب دولة لا يجعل المواطن محوراً سيتآكل، أيّا كانت الايديولوجية التي ترفعه.

السؤال كم من الوقت يحتاج المواطن العربي، وكم هي الفاتورة التي سيدفعها، حتى يصل العقل السياسي، إلى البرنامج الإنساني الذي يخدم المواطن، ولا يجعل (الدولة، الوطن، الشعب) مختبرًا لتجربة النظريات. وكم من الوقت يلزم لفهم معنى الدولة، والوطن والمواطنة.
font change