سيدي بوزيد.. عام على "حريق" البوعزيزي

سيدي بوزيد.. عام على "حريق" البوعزيزي

[caption id="attachment_55230325" align="aligncenter" width="620" caption="سيدي بوزيد التونسية.. من هنا بدأ كل شيء"]سيدي بوزيد التونسية.. من هنا بدأ كل شيء[/caption]

في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010، اتخذ شاب من الباعة الجائلين بمدينة غير معروفة في منطقة فقيرة بتونس قرارا صعبا سوف يشعل بعد ذلك ثورة في بلاده ويغير وجه الشرق الأوسط بشكل عام.
ولا يعد إطلاق الشرارة الأولى للديمقراطية في خمس من الدول الآن (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا) التي كانت السياسة التشاركية بها مخادعة والديكتاتورية هي العرف السائد، بالعمل اليسير. ولكن محمد البوعزيزي – الذي لم يكن شخصا معروفا في ذلك الوقت في بلد يمثل النفوذ به كل شيء، وتمثل الأصول المتواضعة عقوبة مدى الحياة – تمكن من تغيير ذلك كله.

منذ ديسمبر العام الماضي، تم تخليد الشاب البوعزيزي وفعلته اليائسة التي تحولت أملا ليس في تونس وحدها بل وأيضا في العالم العربي. لقد أصبحت الشوارع التونسية، التي كانت تخلد من قبل السابع من نوفمبر 1987 تاريخ انقلاب الرئيس السابق زين العابدين بن علي على الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، تخلّد اسم "الأب الروحي" للربيع العربي.

وعلى الرغم من أن ذلك مجرد إجراء شكلي، فإن تغيير اسم شارع لتخليد فرد يحمل مغزى عميقا بالنسبة للديكتاتوريات السابقة التي كانت صور الديكتاتور دائما حاضرة فيها، حيث تعكس تلك الشوارع التغيرات الكبرى التي حدثت والتي تضمنت في مرحلة أولى إدارة حكومة تصريف الأعمال الناجحة للبلاد، والأهم من ذلك إجراء الانتخابات الشرعية الأولى منذ عقود وما تبعها من انتخاب لرئيس للبلاد وحكومة شرعية.

لقد أصبحت الثورة التونسية المعيار الذي تقيس عبره الدول المجاورة مدى تقدمها صوب الإصلاح. ومما لا شك فيه، أن تونس قامت بخطوات مهمة في معالجة المظالم التي قادت إلى الثورة في الأساس، من تعزيز السياسة التشاركية إلى الإقرار بأهمية توزيع الثروة.
ومع ذلك، فلكي نفهم حقا التقدم الذي حدث والتحديات التي ما زالت البلاد تواجهها، من المهم أن نفهم كيف أثرت الثورة على مدينة سيدي بوزيد التي منها بدأ كل شيء.

[caption id="attachment_55230330" align="alignright" width="300" caption="محمد البوعزيزي"]محمد البوعزيزي[/caption]

تعكس سيدي بوزيد على نحو خاص المشكلات التي كانت تونس تعاني منها نتيجة لسوء الحوكمة. فنظرا لعدم قدرتها على الاستفادة من الأثر الانتشاري للمدن المنتجة على ساحل البلاد، كانت المدينة تعاني من بطالة مزمنة، كما كانت تقع في أسفل المنحنى في ما يتعلق بالتفاوت الاقتصادي الداخلي.

من الناحية السياسية، يمكننا القول إن سيدي بوزيد عززت مكانتها على الأقل رمزيا بالمقارنة بوضعها السابق. ليس فقط من خلال إقرار باقي المدن التونسية بأن الثورة نشأت في ربوعها ولكن كذلك عبر إقرار المجتمع الدولي بذلك، حيث إن عدد الفعاليات والجوائز وغيرها من المناسبات التكريمية التي تقر بالدور الذي لعبته المدينة في الثورة كان كبيرا.
فعلى سبيل المثال عقدت الحكومة في 17 ديسمبر أول «مهرجان دولي لثورة 17 ديسمبر»، في سيدي بوزيد بدلا من عاصمة البلاد. ووفقا لمسؤول حكومي، جاء قرار عقد المهرجان هناك، في جانب منه، «لإنعاش المحافظة أخذا في الاعتبار دورها في تحريك الأحداث في يناير (كانون الثاني)».

وقد منح التقدير الذي حصلت عليه، والذي كانت المنطقة محرومة منه من قبل، مجتمعها ثقلا خاصا في التعددية السياسية بالبلاد.
فقد اختار حزب النهضة الإسلامي الذي فاز بانتخابات الخريف أن يكون مقره في تلك المحافظة. وعلى الرغم من أنها حركة رمزية، فإنها سمحت للمجتمع بلا شك أن يؤثر على الأجندة الحالية للحزب. حيث إن التوافق بين أهداف الحزب من معالجة الممارسات الفاسدة للنظام السابق وضمان تحسن الظروف الاقتصادية للتونسيين مع التحديات الأساسية التي تعاني منها المدينة ليس مصادفة.

فما زالت سيدي بوزيد تمثل التحديات كافة التي سوف تواجهها البلاد في العملية الانتقالية. حيث لم تتخلص المحافظة تماما من العنف السياسي الذي – على الرغم من أنه أقل خطورة مما يحدث في الدول المجاورة لتونس – ما زال مستمرا في أعقاب الثورة.
فقبل الانتخابات مباشرة، كان هناك عدد من الحوادث الأمنية، منها الأحداث التي اندلعت عندما تم منع مرشح من المشاركة في العملية الانتخابية نظرا لمخالفة حزبه شروط تمويل الحملة الانتخابية. وقد أدى العنف الذي اندلع إلى فرض حظر التجول وهو ما تكلف 4 ملايين دينار (نحو مليوني جنيه إسترليني).

وعلى الرغم من أن الاضطرابات السياسية لا يمكن إرجاعها كلية للتحديات الاقتصادية التي تواجهها المنطقة، لا تساعد مثل تلك الأحداث على تحسين مستوى المعيشة للمواطنين أو تعزيز آفاق الاستثمار أو فرص العمل. فمن الناحية الاقتصادية، ما زال أمام سيدي بوزيد طريق طويل لكي تقطعه، ولسوء الحظ، فإن مطالب الثورة في ذلك السياق لم تتم تلبيتها إلى حد كبير ليس فقط في تلك المنطقة ولكن في جميع أنحاء البلاد.

وتأكيدا لتلك الحقائق، أصدرت الحكومة الانتقالية أخيرا تقييما للوضع الاقتصادي في تونس. حيث يلقي «الكتاب الأبيض» نظرة مهمة على الصورة الاقتصادية الحالية للبلاد موضحا أن المناطق الداخلية لم تشهد نهضة صناعية كما أن ليس لديها العديد من الأنشطة التي يمكنها تحفيز التنمية. بالإضافة إلى أنها ما زالت متأخرة في ما يتعلق بالبطالة والفقر، والتعليم والرعاية الصحية والاستثمارات.

لم تكن سيدي بوزيد قادرة على التغلب على تلك التحديات، حيث يصل معدل البطالة فيها إلى 41 في المائة، وهو ما يضاهي ضعف المتوسط الوطني الذي يبلغ 23.3 في المائة. وكجزء من منطقة وسط الغرب (بالإضافة إلى محافظات القيروان والقصرين)، لديها أيضا معدل فقر مرتفع يبلغ 12.84 في المائة مقارنة بالمتوسط الوطني 3.75 في المائة.

ولزيادة الوضع سوءا، في بلد تفتخر بمجانية التعليم وسهولة الالتحاق بالتعليم الجامعي، كانت سيدي بوزيد واحدة من أعلى معدلات التخلف التعليمي في البلاد حيث وصلت إلى نسبة 2.6 في المائة يليها القيروان والقصرين اللتان تجاوزتا ذلك المعدل حيث حققتا 3.5 في المائة و4 في المائة على التوالي.

وبالفعل تشير تلك الإحصاءات إلى أن هناك الكثير الذي يمكن أن نتمناه لتلك المدينة التي ألهمت مطالب الحرية السياسية والعدالة الاقتصادية. إلا أن هناك ما يدعو للتفاؤل بشأن مستقبل سيدي بوزيد، حيث ساعد دورها المركزي في الثورة على جذب أنظار المتبرعين الدوليين والمستثمرين الذين كانوا يستثمرون أموالهم في أماكن أخرى.

[caption id="attachment_55230327" align="alignleft" width="300" caption="أهالي سيدي بوزيد يحيون الذكرى الأولى للثورة"]أهالي سيدي بوزيد يحيون الذكرى الأولى للثورة[/caption]

فمنذ أسابيع أفادت المدينة من المشروع التركي لإنشاء مشروع لتحويل المنتجات الزراعية. ومن المتوقع أن يوفر ذلك المشروع 9000 فرصة عمل بالإضافة إلى تأثيره المهم على الاقتصاد المحلي.
بالإضافة إلى عقد دورات تدريبية في مجال الطاقة المتجددة للشباب الخريجين ترعاها «الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة»، و«الوكالة الألمانية للتعاون الفني» بهدف تعزيز مهارات الفنيين والخبراء التونسيين في مجال الطاقة المتجددة وتوفير فرص اقتصادية لتلك المنطقة الفقيرة.
وعلى الرغم من أن تلك المشروعات لا تمثل حلا سحريا للمشكلات الاقتصادية في المناطق الفقيرة في البلاد، فإنها تمثل، بلا شك، خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح.

وبشكل عام، وعلى الرغم من أن سيدي بوزيد ما زالت تواجه أزمات اقتصادية، كما أن عليها أن تبذل أقصى جهودها لكي تحقق التغيرات التي تحتاجها، فإن الثورة مهدت الطريق على الأقل لنوع الإصلاح الاقتصادي الذي سوف يقلص الاختلافات الإقليمية ويسمح للمدن المشابهة بالإفادة من الثروات الخفية للبلاد.

ربما تكون سيدي بوزيد قد غيرت مستقبل تونس والمنطقة خلال أيام معدودة عندما تسببت في اندلاع الثورة، ولكن أهداف تلك المدينة لا يمكن تحقيقها بجدية إلا من خلال إدارة فعالة للاقتصاد الوطني ومن خلال شفافية النظام السياسي. وعلى الرغم من أن أهداف محمد البوعزيزي ومؤيديه سوف تحتاج إلى الوقت لكي يتم تحقيقها، فإن سيدي بوزيد تسير بلا شك على طريق تحقيق تلك الأهداف.
font change