صوفية فتح الله كولن والكماليون الجدد

صوفية فتح الله كولن والكماليون الجدد

[caption id="attachment_55236060" align="aligncenter" width="620" caption="فتح الله كولن"]فتح الله كولن[/caption]


فمن خلال اعتمادهم على أفكار غربية مبسطة حول الصوفية، باعتبارها الإسلام "المتسامح"، أثبت زعماء تلك الحركة مهارة في التسويق للجماعة كبديل معتدل عن تنظيم القاعدة والحركات التابعة له. فبعد يوم واحد من هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، نشر كولن إعلانا من صفحتين في صحيفة "نيويورك تايمز" يقول فيه إن "الإرهابي لا يمكن أن يكون مسلما، كما لا يمكن أن يصبح المسلم الحق إرهابيا".
وكان الإعلان يحمل رسالة واضحة، فقد كان كولن، الذي يعيش في الولايات المتحدة منذ عام 1999، دائم الانتقاد لمساعي تحويل الإسلام إلى ما أطلق عليه "وسيلة للهيمنة على الناس". يقول كولن، إنه يرى بدلا من ذلك أن الإسلام هو "دين اعتقاد، وصلوات، وأخلاق طيبة" وهو ما يتوافق تماما مع التقاليد الديمقراطية الغربية.

وكان كولن من المدافعين الأوائل عن الحوار بين الأديان، حيث التقى البابا يوحنا بولس الثاني في عام 1998. كما التقى بالعديد من قيادات المجتمع اليهودي في العديد من المناسبات بعد ذلك. وتنظم المؤسسات التي أسسها أتباعه مؤتمرات في أوروبا والولايات المتحدة حول "الإسلام المعتدل" وأهمية الحوار المتحضر.
وتقدم المدارس التي يمولها ويدرس فيها أتباعه تعليما باللغة الإنجليزية ـ يتبع المنهج الرسمي للدولة التركية ـ للأطفال من النخب في البلدان من منغوليا لأميركا الجنوبية.


"الأولمبياد" التركي




وفي النصف الثاني من مايو (أيار) من كل عام، يأتي مئات الأطفال من تلك المدارس إلى تركيا، للمشاركة فيما تطلق عليه الحركة "الأولمبياد التركي"، حيث يتنافسون على غناء أفضل الأغاني، وإلقاء القصائد، وأداء الرقصات الشعبية التركية. وتتم إذاعة نهائيات تلك المسابقة في الوقت الرئيس للبث في التلفزيون، وتحظى بتغطية واسعة من قبل الصحف والخبراء الآيديولوجيين. فعن ذلك يقول علي أغاغلو، المدير التنفيذي لإحدى كبريات شركات البناء في تركيا، والذي كان متحمسا في نهائيات العام الماضي: "سوف تحول تلك المنظمة تركيا من قوة إقليمية إلى قوة عالمية". وحتى رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء، المعروف بأنه ليس من المتحمسين للجماعة، ربما لأن قوتها تؤثر على نفوذه، لم يتوان عن الثناء عليها، ففي كلمته لجمهور الاحتفال قال: "عندما أسافر للخارج، أرى علمنا يرفرف ليس فقط على سفاراتنا. بل أراه في المدارس أيضا وهو ما يجعلني أشعر بالفخر".

وعلى الرغم من الاحتفاء العام بفعاليات ذلك الأولمبياد كل عام، تتفاوت الآراء المتعلقة بحركة كولن داخل تركيا. ويمكن إرجاع التشكك تجاه الحركة، جزئيا، إلى شكوك الجمهورية العميقة إزاء ما تطلق عليه "الرجعية" وهو اختصار ملائم لأي تعبير حول الإسلام لا يتوافق مع التفسيرات التي تدعمها الدولة.


نجاح باهر




وفي عام 2000، وبعد ثلاثة أعوام من الحملة التي كان يدعمها الجيش لقمع الإسلام السياسي، وجه المدعي العام اتهاما لكولن بمحاولة تقويض العلمانية التركية، وهي الاتهامات التي دائما ما أنكرها كولن. وفي عام 2006، رفضت إحدى المحاكم القضية.
ومنذ ذلك الوقت، شهدت الحركة نموا واضحا، حيث تزايدت مبيعات صحيفتها الرسمية "الزمان" في خمس سنوات من 300 ألف نسخة إلى ما يقارب المليون نسخة. حتى انه عندما يقوم أشخاص أجانب بالطيران على طائرات الخطوط التركية، تقدم لهم النسخة الإنجليزية من صحيفة "الزمان" وليس صحيفة "تركيش ديلي نيوز" العلمانية، كما كان الحال من قبل.

ويرجع المحللون ذلك التنامي السريع لنجاح الحركة في القبض على روح العصر، وهي تحظى بالثقة لدى رجال الأعمال الجدد في أناطوليا. ففي المدن الأناطولية المحافظة، "عنتاب"، و"قونية"، و"قيصرية" و"دينيزلي" التي تطورت من مدن تجارية صغيرة إلى مدن صناعية كبرى في السنوات العشرين الماضية، تعمل المؤسسات المالية التابعة لكولن على تطوير أقوى المشروعات.


[caption id="attachment_55236061" align="alignleft" width="300" caption="كولن وأردوغان"]كولن وأردوغان[/caption]


ففي كل مرة تمر فيها بتلك المدن، تلتقي برجال أعمال يرددون الآراء التي أعرب عنها كولن في خطبه طوال سنوات: الكبرياء التركي، نسل الإمبراطورية العثمانية العظيمة، الثقة في أن تركيا بعد سنوات من الضعف والعار، في طريقها للارتقاء مرة أخرى والثقة في أن القوة هي قوة الإيمان، والتركيز على المحافظة الأخلاقية بدلا من الإسلام الراديكالي.
ولكن نمو الحركة أثار شكوكا حول أن نواياها لم تعد تقتصر على العلمانيين الرجعيين. وفي إطار تلك الشكوك، يأتي التحقيق الموسع الذي تعرضت له جماعة أخرى يعرفها الأتراك باسم "إرغينكون" وهو اسم لأسطورة تشبه أسطورة "رومولوس ورموس" ولكن من أصل تركي.

بدأ التحقيق في عام 2007، عندما عثرت الشرطة على مخبأ سري للمتفجرات في منزل ضابط متقاعد بالبحرية بإسطنبول. وخلال شهر، تم إلقاء القبض على عدد من الأشخاص بتهمة التآمر لخلع الحكومة، التي تصف نفسها بـ"الديمقراطية الإسلامية" والموجودة في السلطة منذ عام 2002: واستعانت الدولة بقتلة مأجورين لتصفية المعارضين الأكراد في التسعينات، والمحامين القوميين المتشددين، بالإضافة، إلى عدد من كبار الضباط، وهو ما كان يمثل صدمة كبيرة.
وعلى الرغم من إدانة العديد من السياسيين العلمانيين منذ البداية لتلك الأحداث، فإن العديد من الأتراك، سواء كانوا ليبراليين أو محافظين، كانوا مرحبين بتلك التحقيقات. فقد كانت تهمة التآمر واضحة، بالإضافة إلى وجود تاريخ كذلك: فقد قام الجيش بالتدخل في السياسة أربع مرات منذ عام 1960. وأخيرا، خضع "الحراس" غير المنتخبين للجمهورية التركية للمساءلة. فقد كان نصرا للديمقراطية.

ولكن الأمور بدأت تسير في الاتجاه الخاطئ. فلم يعد الأمر يقتصر على الطبيعة السيئة للتهم الثلاث الموجهة لإرغينكون أو طولها (5000 صفحة). كما لم يعد الأمر يقتصر على حقيقة أن بعض المشتبه بهم تم اعتقالهم لما يزيد على العامين: فالأتراك معتادون على ذلك. ولكن الأمر كان يتعلق بالطريقة التي تحولت بها التحقيقات إلى وسيلة لملاحقة معارضي الحكومة والحركة.
وفي عام 2009، اقتحمت الشرطة منزل امرأة مريضة عمرها 73 عاما، ومعروفة بدفاعها عن تعليم الفتيات. وفي 2010، تم اعتقال ضابط شرطة كبير قضى حياته في محاربة إرهاب اليسار بتهمة عضوية جماعة إرهابية يسارية متطرفة. وفي عام 2011، تم اعتقال صحافيين كانا مهتمين بتسليط الأضواء على إرغينكون بتهمة العضوية فيها.

وقد ألقى كثيرون باللوم في حركة الاعتقالات على الحركة. فقد كانت المرأة التي كان المحافظون يتهمونها بأنها مبشرة (والدتها كانت سويسرية) قد أنشأت مدارس تعد منافسا شرسا لمدارس الحركة. ومن جهة أخرى، كان ضابط الشرطة قد نشر كتابا يزعم أن مؤيدي الحركة يهيمنون على مواقع رئيسة في الشرطة. كما كان كلا الصحافيين المعتقلين قد ألف كتبا تنتقد الحركة. فقد قال أحدهما صارخا ورجال الشرطة يقتادونه: "إن من يمس الحركة يحترق". ويقول المدافعون عن فتح الله كولن إن تركيا تعج بمنتقدي الحركة الذين لم يتم اعتقال أي منهم.


الدولة العميقة




ولكن وسائل إعلام الحركة لم تفعل شيئا لتفنيد تلك الادعاءات. فقد كان مذيع النشرة بقناة "سمانيولو" التي تمثل لسان حال الحركة، يبتسم وهو يعلن وفاة المرأة جراء إصابتها بالسرطان مباشرة بعد الغارة. وعندما تم اعتقال الضابط، أولى أحد كتاب المقالات بصحيفة "الزمان" كثيرا من الاهتمام لمزاعم تورطه في علاقة مع إحدى المدرسات. فيقول حسين غوليرس، أحد كتاب الأعمدة المرموقين بالزمان: "إذا لم يكن على علاقة بتلك المرأة، هل كان سيصبح في السجن الآن. فليحمنا الله من خطايانا، لأنها ما تستغله الدولة العميقة". (الدولة العميقة هي مجموعة من المدنيين ورجال الجيش، يعتقد الأتراك أنهم يهيمنون على تركيا خفية منذ عقود).

ثم قدم غوليرس اقتباسا عن المؤسس المزعوم لوحدة شرطة عسكرية ينسب إليها عدد من عمليات القتل خلال التسعينيات قائلا: "قبل أن نجند الناس للانضمام إلى (منظمة استخبارات الدرك) كنا نعمل بانتظام على تلويثهم: فليس لهم نفع إذا كانوا أطهارا". وكانت الإشارة واضحة: لقد كان ضابط الشرطة عضوا في "منظمة استخبارات الدرك"، وهي الجماعة التي كان أحد الضباط الأوائل، الذين يقدمون دليلا ضدها في التسعينات.
وفي الوقت الذي كان فيه القلق الدولي يتزايد حول مصير الصحافيين المعتقلين، كانت وسائل الإعلام الموالية لكولن، هي التي تتزعم جماعات الضغط، من أجل الحفاظ على قوانين مكافحة الإرهاب غائمة، والإبقاء على "محاكم السلطات الخاصة" التي مكنت القضاة من إبقاء الرجال في المعتقلات لما يزيد على العام، من دون حتى إخبارهم بالقضية والتهم الموجهة ضدهم. يقول إكرام دومانلي، رئيس تحرير صحيفة "الزمان": "تخلصوا من المحاكم. وسوف تفشل كافة المحاكمات ضد البنى العميقة. فذلك ما كان يطالب به مؤيدو إرغينكون منذ مدة طويلة".

إنه مجاز أصبح شائعا خلال السنوات الماضية. ففي الماضي، كان النظام العلماني يصم خصومه بأنهم "رجعيون". والآن تم استبدال تلك الصفة بمصطلح إرغينكون. ومع ذلك، ما زال ولع وسائل الإعلام بالمصادر المجهولة والهجمات الشخصية قائما.
يقول المحللون إن المفارقة هي أن صحيفة "الزمان" كانت من بين المؤيدين الأقوياء، في عام 2004، لخطط الحكومة التي يدعمها الاتحاد الأوروبي لإلغاء "نيابة أمن الدولة" التي كانت تستخدم منذ عقود لسجن خصوم النظام.
لماذا تعارض إحدى المحاكم وتدافع عن الأخرى التي تشبهها إلى حد التطابق؟ ذلك هو جوهر القضية، وفقا لما يقوله منتقدو حركة كولن.
ويقول أورهان غازي ارتكن، القاضي والمحلل السياسي: "ما رأيناه خلال الست أو السبع سنوات الماضية، هو حرب مقنعة على السلطة بين الفصيلين القضائيين".

[caption id="attachment_55236062" align="alignright" width="300" caption="كولن مع بابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثاني"]كولن مع بابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثاني[/caption]

كان القضاة العسكريون يهيمنون على "نيابة أمن الدولة" فيما كان العلمانيون يهيمنون على المحاكم الأخرى. واليوم، ما زال للعلمانيين نفوذ في المحاكم العليا مثل محكمة الاستئناف، والمحكمة الدستورية، فيما يهيمن المتعاطفون مع كولن على "محاكم السلطات الخاصة" المسؤولة عن إدارة التحقيقات في مزاعم مؤامرات قلب نظام الحكم والإرهاب.
ويؤكد ارتكن: "لقد فازت الحركة بصراع القوى، إنهم الكماليون الجدد ولديهم نفس العقلية. فالاعتقاد بأنهم أكثر إسلامية من العلمانيين، هو اعتقاد فارغ كالاعتقاد بأنهم أكثر ديمقراطية".
ويرى ارتكن إشارات لوجود صدع متزايد داخل السلطة القضائية بين مؤيدي كولن والإسلاميين، والذين كانوا متحالفين حتى وقت قريب، نظرا للرغبة المشتركة في القضاء على الأفكار العلمانية السلطوية. فعلى المستوى السياسي أيضا، يبدو أن الحلفاء القدامى يتفرقون: فقد هرعت الحكومة مؤخرا لتمرير قوانين تحمي رئيس المخابرات التركية، بعدما حاول نفس المدعين الذين ترأسوا تحقيقات "إرغينكون" استدعاءه للاستجواب.

ويقول علي بيرامغلو، كاتب العمود بصحيفة "يني سافك" الموالية للحكومة، والتي تتخذ موقفا محايدا من كولن: "لقد انتهى التحالف بين حزب العدالة والتنمية وحركة كولن".
وبعدما فاحت رائحة الدماء، توقفت تركيا عن الاحتفاء بالحركة، وبدأت بحذر التساؤل حول دوافعها. كما بدأت وسائل الإعلام الدولية أيضا، التي لعبت من قبل دورا مهما في صقل صورة الحركة باعتبارها حامل لواء "الإسلام الليبرالي" إعادة التفكير في الأمر. فقد نشرت صحيفة "نيويورك تايمز"، التي كانت حتى وقت قريب من المحتفين عن دون قصد بحركة فتح الله كولن ونشاطاتها التعليمية، مقالتين تنتقدان الحركة. ودفعت المقالة الثانية على وجه التحديد، والتي تم نشرها في أبريل (نيسان) الماضي، الحركة للرد. فقد وجه محامي كولن أروهان إردملي اتهاما لـ"بعض الدوائر الهامشية" بخلق ما أطلقت عليه صحيفة "الزمان" "سيناريوهات متخيلة لتشويه سمعة كولن". فقد نشرت صحيفة "الزمان" عن إردملي قوله: "لقد شنوا حملة تشويه عبر وسائل الإعلام للقضاء على ذلك الاهتمام والاحترام والحب الذي يوليه الرأي العام لكولن".

على الرغم من أن ذلك يبدو حربا كلامية، فإن روزن كاكر، كاتب العمود الليبرالي الذي كان يرصد الحركة لعقود قعدة، يرى أن العديد من أعضاء الحركة أصبحوا قلقين بشأن ما يمكن أن تسفر عنه الأحداث". يرى أن : "الحركة ترغب الآن في أن تخلف وراءها تلك الأحداث (الاستثنائية) التي وقعت خلال الأعوام الماضية، وأن تعود لنشاطات المجتمع المدني".
من جهته، يقول الخبير السياسي دوغو إرغيل متفقا مع كاكر: "إن حركة كولن هي أكبر مصدر بتركيا، وعندما تصل إلى الساحة العالمية، عليك.. موازنة الأمور".
وعندما تعمل على إعادة بناء نفسها، على الحركة أن تأخذ في اعتبارها كلمات الرومي: "إما أن تبدو كما أنت أو كن كما تبدو".
font change