12 شرطا.. حتى لا تغرق السفينة بما حملت

12 شرطا.. حتى لا تغرق السفينة بما حملت

[caption id="attachment_55236067" align="aligncenter" width="620" caption="كارثة تهدد الاقتصاد المصري ما بعد الثورة"]كارثة تهدد الاقتصاد المصري ما بعد الثورة[/caption]



وقد كان من الطبيعي إزاء ذلك أن يتأثر الاقتصاد المصري. وبالفعل فقد تزايد العجز في الميزان التجاري، كما تحول فائض ميزان المدفوعات إلى عجز، وكذلك تزايد عجز الموازنة العامة للدولة، أما الإنتاج الصناعي فقد اتجه نحو التناقص، حيث أغلق عدد كبير من المصانع، وحققت البورصة المصرية خسائر فادحة، علاوة على تزايد الدين العام الداخلي والخارجي، كما يوضحه الجدولان "1" و"2" كالآتى:

[caption id="attachment_55236082" align="alignleft" width="300" caption="جدول رقم 1 المصدر: الكتاب الإحصائي السنوي، الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ـ القاهرة، 2011 ـ ص 236 "]جدول رقم 1 المصدر: الكتاب الإحصائي السنوي، الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ـ القاهرة، 2011 ـ ص 236 [/caption]

كل ذلك، بالإضافة إلى تناقص بل تآكل احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي المصري، وانخفاض سعر صرف الجنيه، وانخفاض عدد الشركات الاستثمارية التي تم تأسيسها.

وقد سجل معدل التضخم ارتفاعا، وكذلك معدل البطالة، كما تزايدت الأحكام النهائية الصادرة بمحاكم الاستئناف عن حالات الإفلاس للأفراد والشركات.

وفي ظل الغياب الأمني انتشرت حالات التعدي على الأراضي الزراعية، سواء بإقامة المباني عليها أو تجريفها. وعلاوة على ذلك فقد استغلت مافيا البناء حالة الانفلات الأمني، وأسرعت بالبناء من دون تراخيص، والتعلية المخالفة، وهدم الفيلات بدون ترخيص، وإقامة أبراج مكانها.

وكان من أبرز الآثار السيئة على الاقتصاد المصري، تخوف المستثمرين العرب والأجانب، ومحاولتهم البحث عن جهات استثمارية أكثر أمناً واستقراراً. وكان من الطبيعي أن تنخفض السياحة، سواء في عدد السياح أو الإيرادات السياحية أو الليالي السياحية. وقد انعكس كل ما سبق على تصنيف مصر الائتماني، حيث قامت المؤسسات الدولية المتخصصة بتخفيضه أربع مرات في الشهور القليلة الماضية.

ولا نستطيع أن نقول إن الثورة المصرية هي المسؤولة عن هذه الأوضاع الاقتصادية السيئة، وإنما المسؤول عنها ـ كما سبق أن أشرنا ـ الانفلات الأمني، وكثرة المطالبات الفئوية، والمليونيات المشار إليها آنفا.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف يمكن مواجهة هذه المشاكل الاقتصادية الضخمة؟.. وبعبارة أخرى ما هو مستقبل الاقتصاد المصري؟
الواقع أن مستقبل الاقتصاد المصري واعد وزاهر. والدليل على ذلك التحسن الذي بدأ يطرأ على بعض المؤشرات الاقتصادية، خلال الأسابيع القليلة الماضية، فعلى سبيل المثال توقف نزف احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي المصري خلال شهر ابريل (نيسان) الماضي، بل وحقق زيادة قدرها مائة مليون دولار، كذلك انخفض الدين الخارجي بمقدار ملياري دولار خلال نفس الشهر، وكذلك حدثت زيادة ملموسة في عدد الشركات الاستثمارية، التي تم تأسيسها خلال الربع الأول من العام الحالي.

[caption id="attachment_55236083" align="alignleft" width="229" caption=" جدول رقم 2 المصدر: الكتاب الإحصائي السنوي، الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ـ القاهرة، 2011 ـ ص 238"]  جدول رقم 2 المصدر: الكتاب الإحصائي السنوي، الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ـ القاهرة، 2011 ـ ص 238[/caption]


والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف يمكن مواجهة المشاكل الضخمة، التي يواجهها الاقتصاد المصري، والتي أشرنا إليها بالتفصيل في بداية هذا المقال؟.. وبعبارة أخرى، ما هي السياسات التي يجب اتباعها والإجراءات التي يلزم اتخاذها حتى تتحقق انطلاقة الاقتصاد المصري؟

يمكن تلخيص أهم هذه السياسات والإجراءات فيما يلي:
أولا: تطوير النظام الضريبي، وذلك عن طريق العودة إلى نظام الضريبة التصاعدية على الدخل (من دون مبالغة حتى لا يتأثر الاستثمار) وزيادة حد الإعفاء من ضريبة كسب العمل، وتطبيق الضريبة العقارية (بعد تعديل القانون) ووضع خطة محكمة لمحاربة التهرب الضريبي، وكذلك إعطاء حوافز لتحصيل المتأخرات الضريبية (تصل إلى حوالي 60 مليار جنيه).
وبالإضافة إلى ذلك، يمكن بعد سنة على الأقل، فرض ضريبة على الأرباح الناتجة من المعاملات قصيرة الأجل في البورصة المصرية، كذلك تطبيق ضريبة القيمة المضافة، بدلا من ضريبة المبيعات.
ثانيا: ترشيد النفقات العامة للجهاز الإداري للدولة، ولا سيما ما يتعلق بالسيارات الحكومية والسفر للخارج ومكافآت المستشارين.. الخ.
كما يستدعى الأمر أيضا في هذا المجال، تحويل بعض الاعتمادات من بنود يمكن تأجيلها إلى بنود عاجلة، ويكفى أن نذكر هنا مثالاً واحداً وهو ضرورة تأجيل تطوير الطريق الصحراوي، القاهرة ـ الإسكندرية، وتخصيص المليارات المخصصة له لتطوير المناطق العشوائية.
ثالثا: إعادة هيكلة نظام الأجور والمعاشات. وفي هذا الصدد فلابد من رفع الحد الأدنى للأجور لجميع العاملين في الحكومة والقطاع العام والقطاع الخاص إلى 1000 جنيه شهرياً، مع إعادة النظر في هذا الرقم سنوياً لزيادته في حدود معدل التضخم، كما يستدعى الأمر أيضا، وضع حد أقصى للأجور الشاملة في الجهاز الإداري للدولة فقط، ويقترح أن يكون في حدود 35 ألفا، هذا علاوة على ضرورة زيادة المعاشات ووضع حد أدنى للمعاش، بحيث لا يقل عن 50 في المائة من الحد الأدنى للأجور، مع تطبيق نظام لإعانة البطالة.
رابعا: الإسراع في علاج مشكلة الدعم الذي تجاوز 150 مليار جنيه في السنة والذي يذهب جزء كبير منه إلى غير مستحقيه من ذوي الدخل المرتفع وكذلك إلى الوسطاء.

[caption id="attachment_55236084" align="alignright" width="300" caption="المصدر: البنك المركزي المصري ـ التقرير السنوي ـ أعداد متفرقة"]المصدر: البنك المركزي المصري ـ التقرير السنوي ـ أعداد متفرقة[/caption]
ونلاحظ الآتي:
1- بدأ الدعم في مصر عام 1945 بمبلغ مليوني جنيه فقط.
2- الزيادة الكبيرة في اعتمادات الدعم ابتداء من موازنة 2005/2006.
وذلك يرجع إلى ظهور دعم المنتجات البترولية في الموازنة العامة للدولة لأول مرة، ابتداء من ذلك العام.

إن علاج مشكلة الدعم سيعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، وتخفيض عجز الموازنة العامة للدولة، كما سيسمح لمحدودي الدخل بالحصول على السلع المدعمة بسهولة ويسر وكرامة. وعلاج مشكلة الدعم يختلف من سلعة لأخرى، فعلى سبيل المثال يمكن اتباع نظام الكوبونات بالنسبة للبوتاجاز والبنزين، ويمكن إلغاء دعم الطاقة عن الصناعات كثيفة الاستهلاك، ثم يلغى نهائيا عن جميع الصناعات بشكل تدريجي.. وهكذا.
خامسا: تشجيع الصناعة الوطنية، ويمكن أن يتم ذلك عن طريق مواجهة الآفات الثلاث الرئيسة، التي تعوق الصناعة المصرية في الوقت الحالي، وهي الإغراق والتهريب والإجراءات الروتينية.
سادسا: تطوير الأجهزة الرقابية، ويكفي أن نذكر هنا أنه على الرغم من وجود الجهاز المركزي للمحاسبات، وهيئة الرقابة الإدارية، وجهاز مباحث الأموال العامة وجهاز الكسب غير المشروع، نقول رغم وجود كل هذه الأجهزة، فقد استشرى الفساد في مصر بأنواعه المختلفة (فساد سياسي، فساد مالي، فساد إداري.. الخ) وذلك خلال الثلاثين عاما الأخيرة، الأمر الذي يستدعى بالضرورة حتمية تطوير هذه الأجهزة.

سابعا: توجيه اهتمام خاص للتنمية الريفية والزراعية، ويمكن أن يتم ذلك عن طريق إعادة هيكلة الإرشاد الزراعي، إعطاء جهة أكبر للمحاصيل غير التقليدية، العمل على توفير الائتمان الزراعي وبشروط ميسرة.. الخ.
ثامنا: إدماج القطاع غير الرسمي في القطاع الرسمي، على أن يتم ذلك تدريجيا وعن طريق إعطاء مزايا وحوافز لأصحاب مشروعات القطاع غير الرسمي للاندماج في القطاع الرسمي، وسوف يؤدي ذلك إلى زيادة حصيلة الضرائب، وكذلك حصيلة التأمينات الاجتماعية، علاوة على ضمان جودة السلع في جميع المشروعات.

تاسعا: سرعة استرداد الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج، والتي تقدر بمئات المليارات من الجنيهات، وهذا يستدعي أن تكون المحاكمات أمام محاكم عادية وليست عسكرية، وعدم خضوع القضاة لضغوط، والاتصال بأحد المكاتب الدولية المتخصصة لمتابعة هذا الموضوع دوليا. ويمكن أن يساعد هذا الإجراء على تقليل إصدار أذون الخزانة التي تزايدت زيادة كبيرة في السنين الأخيرة، كما يتضح من الجدول الآتي:

[caption id="attachment_55236085" align="alignleft" width="300" caption=" المصدر: التقارير الدورية للبنك المركزي المصري"] المصدر: التقارير الدورية للبنك المركزي المصري[/caption]
عاشرا: تشجيع نظام التعاقد بين الحكومة والقطاع الخاص لسرعة توفير الخدمات للمواطنين، وذلك عن طريق تعاقد الحكومة مع القطاع الخاص، على أن يقوم بتوفير الخدمات المختلفة (مستشفيات، مدارس، محطات توليد كهرباء.. الخ) وتشتري الحكومة منه الخدمات فقط.
حادي عشر: مجموعة أخرى من الإجراءات، يمكن أن نذكرها بإيجاز كما يلي:
تخفيض عدد السفارات والقنصليات والمكاتب المتخصصة في الخارج، طرح مجموعة من أراضي الإسكان المرفقة لبيعها للمصريين العاملين بالخارج، طرح شهادات إيداع بالدولار للمصريين العاملين بالخارج، على أن تكون ذات سعر فائدة مميز.. الخ.
ثاني عشر: يبقى بعد كل ذلك، بل قبل كل ذلك، العمل على استعادة الأمن والأمان والاستقرار السياسي، لأن هذه الأمور تعتبر الشرط الضروري لتحقيق الانطلاقة الاقتصادية.

وفي خضم الحديث عن "مستقبل الاقتصاد المصري"، يتساءل الكثيرون عن النظام الاقتصادي الذي سوف تتبعه مصر: هل هو النظام الرأسمالي الحر؟ أم هو النظام الاشتراكي؟
الواقع أن الإجابة عن هذا السؤال، تستدعى الإشارة إلى آراء الاقتصادي الأميركي ميلتون فريد مان، الذي كان يتحدث دائما في السنوات الأخيرة عن الرخاء الذي سوف ينعم به العالم، حينما يتم اتباع توصياته عن سحر السوق الحرة. كما يستدعى الأمر كذلك أن نشير إلى آراء مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مع رونالد ريغان رئيس الولايات المتحدة الأسبق في الثمانينات من القرن الماضي، حيث طالبا بالعودة إلى آراء آدم سميث عن اليد الخفية، وضرورة تطبيق الخصخصة وإزالة السدود من أمام رجال البنوك. كما نشير أيضا إلى كتاب فرانسيس فوكوياما المفكر الأميركي الذي أعلن للعالم في التسعينات من القرن الماضي في كتابه الشهير "نهاية التاريخ" أن التاريخ قد بلغ نهايته، حيث انتصرت الرأسمالية.

ولكن منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي، وقعت أحداث كثيرة أثبتت فشل نظام الاقتصاد الحر.. ونشير في هذا الصدد إلى حركات الاحتجاج المناهضة للرأسمالية في مدينة سياتل الأميركية في 2007 حيث قامت مظاهرات ضخمة ضد مؤتمر المنظمة العالمية للتجارة.. كذلك في عام 2000 شهدت مدينة واشنطن مظاهرات ضخمة ضد الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.. وبعد ذلك شهدت العديد من الدول الأوروبية مظاهرات ضخمة ضد فشل نظام الاقتصاد الحر في حل المشاكل الاقتصادية، وبصفة خاصة عدم العدالة في توزيع الدخل القومي.




وفي سبتمبر (أيلول) 2008 بدأت أزمة انهيار النظام المالي العالمي في الولايات المتحدة، ومنها إلى بقية دول العالم.. كذلك شهد عام 2011 مظاهرات ضخمة في معظم دول العالم، تطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وتندد بالرأسمالية.
ونعود الآن إلى السؤال الذي طرحناه عن النظام الاقتصادي، الذي سوف تتبعه مصر؟
الأمر المؤكد أن مصر لن تعود إلى النظام الاشتراكي، الذي سبق أن طبقته خلال الستينات من القرن الماضي، والذي ثبت فشله تماما. ومن المؤكد أيضا أن مصر لن تستمر في تطبيق النظام الفاسد الذي كان سائدا قبل ثورة 25 يناير 2011.
إن النظام الاقتصادي الذي سوف تطبقه مصر، سوف يكون نظام الاقتصاد الحر الاجتماعي.

وهذا النظام يقوم على أساس الحرية الاقتصادية المنضبطة، والقطاع الخاص غير المنفلت، ورجال الأعمال الشرفاء، مع الاحتفاظ للحكومة بدور إشرافي ورقابي لمنع الممارسات الاحتكارية الضارة، ومنع الغش التجاري والصناعي، ومنع التهرب الضريبي.. الخ، والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية.
وهكذا نرى أن مصر تسير مع معظم دول العالم، في ربوع بساتين الديمقراطية وحدائق العدالة الاجتماعية.
وختاما، نقول إن الشعب المصري الذي اتحد قديما واستطاع طرد الهكسوس والفرس والفرنجة والمغول، والذي استطاع أن يواجه بكل شجاعة حملة نابليون وحملة فريزر، والذي استطاع أن يلقن إسرائيل درسا لم ولن تنساه في أكتوبر 1973، هذا الشعب العظيم الذي استطاع إزاحة نظام فاسد استمر ثلاثة عقود في 25 يناير 2011، لا شك أن هذا الشعب قادر على اجتياز المرحلة الانتقالية، بما فيها من مشاكل وصعوبات، ولكن ذلك يحتاج إلى مزيد من العمل والجهد والإنتاج، وتغيير كثير من السلوكيات، واستعادة القيم والمثل العليا الأصيلة للشعب المصري.


font change