إجابات عن أسئلة.. وتحفظات على ملاحظات

إجابات عن أسئلة.. وتحفظات على ملاحظات

[caption id="attachment_55237345" align="aligncenter" width="620"]الصحافة العربية الورقية.. أي مستقبل؟ الصحافة العربية الورقية.. أي مستقبل؟[/caption]



بتاريخ الثلاثاء 17 يوليو(تموز) 2012، نشر موقع مجلة "المجلة" على الشبكة العنكبوتية نص مدوّنة الملاحظ الصحفي، تحت العنوان التالي: "أسئلة لبكر عويضة!".
وعدتُ بالرد فتأخرت. عذراً، مع شكر واجب لمن لاحظ، ثم سأل في زمن ساد فيه غيّ التجاهل والتعالي. الشكر أيضاً لِمن تكرّم فنشر.

بدءا، رغم محاولة غض النظر، لم استطع تجاهل علامة التعجب تلك، على الرغم من أنها في العنوان أعلاه محتملة، وليست بذات أهمية تُذكر، لكنها ذكّرتني بإحدى خطايا مِهنية عدة، لحقت بصحافتنا العربية في العقود الأخيرة، إذ يجري إلحاق (!) بجرة قلم مع عناوين أخبار رئيسة تتصدر صفحات الأخبار، فالتحقيقات، والمقالات، بل حتى الصفحة المخصصة لبضع صور ليست بمأمن، أحياناً، من علامة تعجب ترافق خاتمة العنوان، بمناسبة ومن دونها.

***
بدأ الملاحظ الصحافي بالتقديم بالآتي: "يقولون إذا أردت أن تصبح الرئيس المهاب لدولة أو مهنة أو حارة ما، فماعليك إلا أن تواجه الزعيم المتوج وتصرعه، لتصبح بعد ذلك الزعيم الجديد الذي يخشاه ويرتعد منه الجميع".
أول حكايات الملاحظات، إذَنْ، "تتويج" تتبعه "مواجهة" تؤدي الى "مصرع". لستُ، ولا الزميل الملاحظ، من "المحظوظين" بالتيجان، ولا حاجة لنا بما بعدها. إنما استوقفتني الصورة فقلت في حوار مع نفسي، لئن كان هذا ما جرى عليه القول في دولٍ ما، فتلك إلى زوال، وإن طالت لها الآجال، لأنها ـ بالمعنى الحقيقي للدولة ـ دويلات تعني فقط مُلاّك كراسي زعاماتها، وما هي بكيانات تخص شعوبها المعنية بتطورها، بل هي "حارة كلْ من إيدو له"، كما يخبرنا مثل ممجوج جرى على ألسنة السُذج المساكين، ثم جرت تلفزته في مسلسل تابعه مهمومون لا يُحصون ولا يُعدون، وقليل ممن يسمح لهم وقتهم الثمين، فضحك هؤلاء وأولئك، أو انهم راحوا يبكون، وربما لا هذه ولا تلك، ليس مهماً، بل الأهم أن يترسخ خطأ ما، فيتسلل إلى أمخاخ الغافلين، ثم بالرضى والقبول منهم يصبح المبرر المعقول لتتويج كل زعيم مهيمن، جبار، عنيد، مسيطر، فيحْكم الدولة/الحارة، وبيده يبطش ويتحَكّم تُبّعه المتكسبون من هيمنته.

* ثمة "حارات" صحافية و"دول"، وربما مجازاً سُمِيّتْ "امبراطوريات"، على امتداد العالم العربي، مارست طوال سنوات، ذلك القول الفاسد فصار هو السائد، وللأسف.. لا يزال.
لعل هذا ما جعل زميلنا الملاحظ يواصل: "وفي دولة الصحافة المهنية ـ بالمعنى الحقيقي للكلمة ـ هناك زعيم واحد أو زعيمان أو ثلاثة إذا بالغنا".

حقاً، لقد حقَّ على الزميل الملاحظ القولُ بالمبالغة. أولاً، لِمَ نون الجماعة؟ ما المشكلة إذا كتب أو تحدث الفرد بصيغة المفرد؟
لماذا ـ إذنْ ـ نحن عشائر الصحافيين العرب، وأغلب كتّاب الرأي، ناهيك عن نخب قبائل الفكر، نعترض على "دكتاتورية" حاكم الدولة/الحارة، أو العكس، حين يختصر كل الناس في شخص واحد، هوَّ لا أحد غيره، فإذا به ينظر اليهم من علٍ، ولا يخاطبهم إلا بنحن؟
إنصافاً، تلك ملاحظة ليست للملاحظ العزيز فقط، إنما هوّ له فضل إثارتها في ذاكرتي، إذ هي من سمات ثقافة المقالة حصرياً في الصحافة العربية. تمنيت لو أنني قرأت مقالة بالانكليزية يستخدم كاتبها/كاتبتهاWe في محل I إلا إذا اضطر كاتب المقالة أو كاتبتها لضرب مثال ما، أو الجهر صراحة أنه يوجه الكلام نيابة عن فئة محددة ضمن مجتمع ما، فهل يجوز افتراض أن ملاحظنا (أنا وغيري) اعتبر أنه أيضا ينوب عن آخرين من أهل المهنة، إذ يلحظ أن لدولة الصحافة المهنية ـ بالمعنى الحقيقي للكلمة ـ زعيما واحدأ، زعيمين، أو ثلاثة، ليصل ـ بعد ملاحظة جانبته فيها الدقة ـ الى مبالغة تخصني، بقوله: "أحد هؤلاء الزعماء هو بلا شك، الصحافي الخبير بكر عويضة".

خبير، نعم. الحمد لله أولاً، ثم الشكر لكل من تتلمذت على أياديهم ونهلت من كنوز خبرتهم. إنما، كلا، دولة الصحافة المِهنية في العالم العربي كله، ليس جائزاً اختصار كل كبارها ـ بافتراض أن هذا هو المقصود بالزعامة هنا ـ بواحد، أو اثنين أو ثلاثة.
كيف هذا؟
ثم كلا، لستُ "أحد هؤلاء الزعماء". ما مشروعية تلك "الزعامة"؟ أين مصدر الخبر أيها الزميل العزيز؟ أم أن الأمر رأيٌ يحق للملاحظ الجهرَ به؟
حقاً، حرية الرأي يجب أن تبقى مضمونة، إنما تدقيق المعلومة في كل مادة صحافية، بما فيها مقالة الرأي أمر ضروري. وإذْ فحصت رأي الزميل وتحريّت الدقة فيه، فإنني توصلت إلى ما يخالف رأيه. ليست ثمة زعامة في الصحافة. هناك ممارسة. وليس الأمر تواضعاً، بل التزاماً بالموضوعية، التي لو قدّمَها كثيرون على الشخصانية، لكان حال الصحافة العربية أفضل كثيراً.

* كان صحافي راحل تولى رئاسة التحرير في بلده، يأخذ عليّ، من باب التعاطف معي، إرهاق نفسي بذلك النوع من التدقيق، ولأنه اضطر لمسايرتي، عندما جمعنا العمل معاً، صارحني ذات مرة، في مكتبي، بقول ما خلاصته: أنا أفضل تركَ أخطاء الكتّاب اللغوية والمعلوماتية كما هي، فإذا صوّبها لهم المصححون، كان ذلك من حسن حظهم، وإلا فلندع القارئ يرى أخطاء من يعتبرون أنفسهم كُتاب رأي ومفكرين. وإذ أجبته متسائلاً: لكن أنت تحرر المادة؟ أجاب بما مضمونه: أحرر المادة سياسياً فقط، حتى لا نقع ونوقع معنا رئيس التحرير في مشكلة.

***
هي مشكلة تلك الشريحة من محررين تولوا مناصب المسؤولية في الصحافة العربية، لكنها واحدة من كوارث المِهنة بكل مراحلها، ماضياً ثم حاضراً. انظر حجم اللامبالاة. ليس الأمر مقتصراً على التهاون في تدقيق المعلومة بغرض نفاق رئيس التحرير والتحوّل من مِهنية الصحافي إلى مهمة الرقيب السياسي، بل يتعداه إلى اجتراء "فضح" سهو، أو زلة لغوية/معرفية، يُحْتَمَلْ تعرض أي كاتب/كاتبة لهما. صحيح أن المثال أعلاه يشكل حالة فردية، تحمل في داخلها مشاعر تعبّر عن صاحبها، إنما صحيح أيضاً أن كثيرين في المطبخ الصحافي العربي حملقوا بعين الرقيب السياسي، الديني، الفئوي، أو الاجتماعي، وربما الأخلاقي، بين أسطر كل مادة حرروها، بينما نظروا بعين ناعسة للجانب المِهني، فسادَ ما يجوز القول انه فسادُ ذوق في التحرير الصحافي، لم تنج منه "مانشيتات" صحفٍ وأغلفة مجلات. ثم جاءت صحافة "أونلاين" فازداد السوء سوءاً، على رغم أن عنوان أي خبر، أو مقالة يجب، مِهنياً، أن يكون محدود الكلمات، وبقليل من تذوق لغوي حِرفي يمكن تحسس ما اذا كانت واو العطف ـ مثلاً ـ ضرورية فتبقى، أو أنها عبثية فتُلغى.

***
أقفز الآن عن كل ما سجله الزميل الملاحظ في شأن تجربتي، شاكراً تقديره، وملاحظاً في الآن نفسه أن مروره على قديم مقالاتي محمود في سياق البحث، الذي بات مستسهلاً في العقود الأخيرة أيضاً، إنما عدم عثور الملاحظ على أية زلةٍ لي في أي من المقالات، ليس يعني أن كل ما كتبت خلا من الزلات.
كلا أيها الملاحظ العزيز، العاشق للصحافة كمن تلحظ عليه ذاك العشق ذاته، كل ابن قلمٍ خطّاء وخيرُ الخطائين المصوبون لأخطائهم، ليس في اللغة والمعلومة فقط، بل حتى في الموقف السياسي. لو بين يديّ ما يكفي من وقت للبحث، لأخرجت من أرشيفي ما يكفي لإدانتي في محكمة اللغة.. وربما في المعلومة، فليس ثمة منزّه عن زلةٍ.

***
وأصل إلى ملاحظة الزميل العزيز بشأن "طرح العديد من الأسئلة حول المهنة التي أرجو منه أن يجيب عنها، لأنه لا أحد أقدر منه على ذلك"، كي ألحظ، وبقدر من العتب، التالي: لماذا الجزم بـ"لا أحد"، ولِمَ أفعل التفضيل بـ"أقدر"؟
غير جائز هذا، ولا هو بمقبول، لا معي ولا مع غيري. من أولويات موضوعية الاحتراف المِهني تجنب حسم أي استنتاج بإقحام أفعل التفضيل: أعظم، أخبر، أجرأ، أول، أقدر.. الخ.
تكراراً، ربما يجب الأخذ بمبدأ حرية الرأي. نعم، للملاحظ العزيز حق رأيه، ولي حق رد يفترض ان التقليل من شأن أساتذة كثيرين في المهنة لم يخطر ببال الزميل الملاحظ. يكفي أن مجلة "المجلة" ذاتها تولى رئاسة تحريرها منذ صدورها وحتى يومنا هذا صحافيون مشهود لهم بخبرة مِهنية، كفاءة حِرفية، مقدرة ثقافية، وبتجربة عملية، تتيح لكل منهم تقديم إجابات عن أسئلة الزميل الملاحظ بما يفوق أجاباتي دقةً وتوثيقاً.
أما الإجابات عن أسئلة الملاحظ بشأن المهنة، فليس مبالغة القول إن كلاً منها بحاجة الى بحث في حد ذاته. مع ذلك، احاول أسلوب الجواب المُختصَر، كأنما والزميل الملاحظ نتبادل الحوار عبر "تويتر".

* س: لماذا هذا التراجع في الصحافة العربية الورقية؟
* ج: الصحافة الانترنتية على طريق التراجع أيضا. الناس سئمت تكرارا صباحياً، لما ضجرت منه ليلاً عبر الفضائيات. تويتر، فيسبوك، وما شابهها، صحافة بلا بوليس، وأسرع من غيرها.
* س: ما تأثير عدم الاهتمام بالمعايير المهنية للعمل الصحافي على واقع العمل الصحافي العربي ومستقبله؟
* ج: فيما سبق أعلاه مؤشرات إجابة، إنما أضيف: عندما لا تجد معظم الصحف العربية طوال أشهر "مانشيت" إلا في الخبر السوري رغم شدة أهميته، فليس ذلك ببشير خير لمستقبل الصحافة.
* س: إلى أي مدى أثر العمل التلفزيوني على جودة الصحافة الورقية؟ بمعنى أن التلفزيون جذب المتابعين بشكل أكبر مما أضعف المهنة؟
* ج: ميردوخ لوّح بملاحقة خبرية للتلفزيون فلا تخسر صحفه قراءها. الفضائيات العربية أغرت صحافيين حِرفيين، شدت الأضواء اهتمامهم، خاطبوا جمهوراً لهم أوسع من خلالها، إنما بقيت للصحف أهميتها، إذ هي المنبر الذي يعطي المبرر لاستضافة فلان أو علان، لذا التراجع في توزيع الصحيفة لا يعني بالضرورة تراجع أهمية الصحافي.
* س: وهذا يحدث ليس في عالمنا العربي، ولكن في كل مكان تقريبا؟ وهل ترى أن الناس سيمّلون من التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي وسيعودون لقراءة الصحافة أم أن ذلك من المستحيل؟
* ج: الأقرب الى المستحيل هو الملل من التلفزيون. هذه مناسبة كي ألحظ أنني قليلاً ما أشاهد صحافيين بريطانيين على شاشة التلفزيون. أما قراءة الصحافة فمستمرة عبر الانترنت بكل فضاءاتها اللامحدودة.
* س: والسؤال الأهم من كل تلك الأسئلة هو: ما مصير الصحافة الورقية في العالم العربي؟
* ج: لا يلغي سؤالٌ أهمية ما سبقه. الجواب: هو مصير كل جامد لا يتطور. الورق يأتي من حطب. إذا تخشبت الصحافة ماتت، في أية صورة كانت.

***
آمل أن تلك الردود المختصرة أدت نصيباً من الإجابة، وإن لم تك كافية. وأرجو أن يتسع الصدر لتحفظاتي على بعض ملاحظات الزميل الملاحظ الصحافي، المُقدَر جهده والمشكور.
font change