200 عام على الاكتشاف الغربي للبتراء

200 عام على الاكتشاف الغربي للبتراء

[caption id="attachment_55238204" align="aligncenter" width="650"]الدير.. البتراء الدير.. البتراء[/caption]




كان الفيكتوريون مولعين بمشاهد الأراضي البعيدة، خاصة ما كانوا يعتبرونه «شبه الجزيرة العربية الغريبة»، وهو الولع الذي يضاهيه اهتمام العرب الحالي بصور أراضيهم، وتخليد إرثهم. فإثر ظهور الثروات البترولية، أثر النشاط البالغ الذي طرأ على شراء الأعمال الفنية من قبل هواة جمع المقتنيات الخاصة، والمتاحف، والمؤسسات في الشرق الأوسط خلال العقود الثلاثة الماضية، على أسعار سوق الفن العالمية، ومن ثم حفز الاهتمام المستحق بالعصر الفيكتوري أو فنون القرن التاسع عشر في موطنه، وهي الأعمال التي أصبحت إلى حد كبير عتيقة الطراز.

وفي أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وفي أعقاب انتصار نابليون على أوروبا وفتح الطرق التجارية البرية إلى الهند أمام الأجانب (وهي البلدان التي لم يكن الغربيون قد زاروها حتى ذلك الوقت)، كان الفنانون وعلماء الآثار من بريطانيا وفرنسا على وجه الخصوص منجذبين للمنطقة. وعلى غرار العديد من الفنانين البريطانيين من قبله، سافر الفنان ديفيد روبرتس (1796 - 1846) بانتظام داخل أوروبا بحثا عن موضوعات جديدة. ولكن بخلاف معظم معاصريه، سافر روبرتس كثيرا إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ظل ظروف كانت في ذلك الوقت شاقة، وخطرة، ويمكنها الإضرار بصحة مواطني شمال أوروبا.

وفي عام 1838، وصل ديفيد روبرتس، الذي ينحدر من اسكتلندا، إلى مصر وبحلول عام 1839 كان قد زار سوريا، وفلسطين، والأردن، ولبنان. وقد لاقى نشر الأجزاء الستة من مطبوعات روبرتس الحجرية بما في ذلك سوريا وأدوم وشبه الجزيرة العربية في الفترة بين 1842 و1849 نجاحا هائلا وحظي باحتفاء واسع. وربما يتساءل المرء كيف تثنى لرجل من اسكتلندا أن يتجول في الشرق حاملا أوراق رسمه.

[caption id="attachment_55238205" align="alignright" width="222"]ديفيد روبرتس في 1844 ديفيد روبرتس في 1844[/caption]


ولد روبرتس في ستوكبريدج في عام 1796 ونشأ في ظروف متواضعة؛ فكان أبوه يعمل كصانع أحذية وكانت والدته مولعة بأطلال الكاتدرائيات، والصوامع في موطنها «سانت أندرو»، وهو الحماس الذي نقلته إلى ابنها. فقد أظهر روبرتس ولعا مبكرا بالرسم، ولم تكن هناك قلاع قديمة أو أطلال لكنائس في منطقته يستطيع رسمها خلال طفولته. وقد تم عرض تلك الرسوم التي تفصح عن موهبة على معلم الفنون بـ«أكاديمية الأمناء» بأدنبره والذي نصحه: «نظرا لأن الأبوين فقيران، يفضل أن يلتحق الولد للعمل ببيت مصمم طلاء ومشاهد، حتى يستطيع الاستمرار في ممارسة الرسم وتعلم فن يستطيع من خلاله أن يكسب عيشه».

وبالتالي، عمل روبرتس لفترة طويلة كصبي لدى رئيسه المتعالي غافين بوغو. وقد حفزت تلك السنوات السبع الصعبة ولع روبرتس الأساسي بالفن المعماري، حيث كان يغور أعمق من الديكورات السطحية التي كان يتعامل معها من خلال عمله كمصمم ديكور وفني طلاء.
وبحلول عام 1818، أصبح روبرتس مساعدا لمصمم طلاء للمشاهد المسرحية بمسرح صغير بأدنبره، ثم سرعان ما أصبح مصمم الطلاء الرئيسي في عدد من المسارح الاسكتلندية المرموقة. وبإيحاء من المرتفعات الشاهقة لشارع دروري وحديقة كوفينت في لندن، وباعتباره الرسام الرئيسي للمسارح، تبنى رؤى جنوبية. ولاحقا، اتضح أن خبراته في التعامل مع الموضوعات المعمارية على ذلك النطاق الواسع في تنفيذ المشاهد المسرحية بلا قيمة. فعن ذلك يقول روبرتس في مذكراته الخاصة إن مهمة نقل روعة وحدود بعض الآثار التي كان يصورها كانت مهمة «مستحيلة». فقد كتب حول الصخور «المذهلة» للبتراء، وحول عملية تصويره لأبعاد الأعمدة الضخمة في الكرنك في مصر. وكتب أيضا في مذكراته: «يجب أن تكون أسفلهم (الأعمدة)، وأن تنظر لأعلى وتلف (حولهم) لكي تستشعر الإحساس الحقيقي لتلك الروعة».

وخلال تلك الفترة من حياته كرسام مناظر، بدأ روبرتس التعامل مع الرسم بجدية، حيث كان يقيم المعارض، وكان يحظى بقدر كبير من الاحتفاء. ثم تم انتخابه كزميل للأكاديمية الملكية في 1838، ثم حصل على العضوية الكاملة في 1841. بعد السفر إلى فرنسا وإسبانيا، ومراكز أوروبية أخرى لديها بنية معمارية عتيقة ورائعة - ورسم تلك المعالم ببراعة - بدأ روبرتس الاستعداد لأكثر الأحداث أهمية في حياته: رحلته إلى الشرق.
وكما قال كاتب السير الذاتية المعاصر له، بالانتين، فإن ذلك كان «الحلقة الأكثر أهمية في تاريخه الفني»، تحقيق «حلم حياته منذ طفولته».. «وأكثر تطلعاته بريقا كفنان». وقد غادر روبرتس إنجلترا عام 1838 مزودا بخطاب توصية من مكتب الخارجية إلى الكولونيل كامبيل، القنصل العام لمصر، ووصل إلى الإسكندرية بعد ذلك بشهر. وقد تم منحه حارسا لكي يحميه من «المقاطعة أو التعرض للإهانة أثناء الرسم»، وكما يقول في مذكراته، فإنه حصل أيضا على تصريح للرسم داخل المساجد شريطة أن لا تكون فرشاته مصنوعة من شعر الخنزير.

وبعدما صور تقريبا كل بناء مر به من النوبة إلى البحر المتوسط، استعد لعبور الصحراء عبر طريق للرحلات القديمة كان يمر به بنو إسرائيل من مصر إلى جبل سيناء عبر جنوب الأردن مرورا بالعقبة والبتراء، ليستأنف بعد ذلك رحلته إلى فلسطين. وقد ارتدى روبرتس ورفيقه ملابس العرب وغادرا القاهرة «مسلحين باثني عشر جملا، ونفس العدد تقريبا من العرب البدو». وقد كتب روبرتس في مذكراته: «لقد تغير شكلي تماما حتى إن أمي العزيزة لم تكن لتتعرف علي. فقبل أن أحصل على تصريح بالدخول إلى المساجد، كان علي تغيير هيئتي وارتداء الملابس العربية.. لدي خيمة (خيمة جميلة، أؤكد لك)، وجلود لحمل المياه، وأطباق من القصدير، ومؤن من كافة الأنواع، ناهيك عن مجموعة من المسدسات التركية، وغطاء دافئ لليل. تخيلني وأنا أعتلي الجمل، وسوف تتخيل كيف كنت ملكا شرقيا». وهو ما يعطينا لمحة حول مدى جدة وجمال التجربة الشرقية بالنسبة للفيكتوريين.

فقد كانت إحدى مهارات روبرتس أن يجعل الجمهور الجديد والمتحمس يألف إحساس ومظهر الأماكن الأجنبية، وهي النافذة التي فتحها شعراء الرومانسية مثل بيرون وسكوت. فقد كانت دواوين أشعار هؤلاء الشعراء تحتوي على رسوم للمواقع التاريخية وكانت ناجحة جدا حتى إن الناشرين كانوا يرسلون الفنانين للخارج بأعداد كبيرة. وكان لروبرتس أيضا مساهمات في مثل تلك الكتب.

وكان روبرتس واعيا تماما بالقيمة التجارية المحتملة لصور المعابد المصرية والمساجد الإسلامية والأطلال ومشهد الأرض المقدسة. وكانت رسومه لتلك المشاهد تمثل «واحدة من أكثر الأوراق التي غادرت الشرق ثراء». وعلى الرغم من ردة فعله الرومانسية تجاه المشاهد الباهرة للشرق، فإن رسومه كانت تعتمد على خبراته العملية المتعلقة بأن رحلته سوف تجلب له الثروة والشهرة، حيث إنه لا يوجد فنان قد حاول من قبل أن ينفذ مثل ذلك المشروع الطوبوغرافي الطموح.


[caption id="attachment_55238206" align="alignleft" width="205"]الخزنة الخزنة[/caption]


فقد كتب روبرتس نفسه في مذكراته حول البتراء:
«أزداد حيرة تجاه مناحي تلك المدينة الاستثنائية. ليس فقط المدينة، والتي يبلغ طولها وعرضها كذلك نحو الميلين، ولكنني منبهر بأن كل وادٍ بها كان مسكونا حتى قمم الجبال. كما كان الوادي يعج بالأبنية العامة، والمعابد، وأقواس النصر، والجسور. وجميعها، باستثناء قوس نصر واحد ومعبد واحد، كانت مسطحة.. وعلى الرغم من أن أطلال ذلك المكان الاستثنائي تتميز بالروعة، فإنها غارقة في الإهمال عندما تقارن بتلك الصخور المذهلة. عادة ما كنت ألقى بقلمي جانبا يائسا من قدرتي على توصيل فكرة ذلك المشهد».

ولكنه تمكن، بلا شك، من توصيل الفكرة. فلا توجد مطبوعات قبل «الأرض المقدسة ومصر» قدمت تلك السلسلة الشاملة لمناظر الآثار والمشاهد وأناس الشرق الأدنى. وكان حزنه بشأن روعة الماضي وسوء حاضر تلك الآثار العظيمة للشرق حزنا نمطيا لعصره، ينبعث من النزعة الرومانسية للأطلال (وليس فقط تجاه تلك الأطلال من الشرق الأدنى). إلا أنه على الرغم من رسومه الباهرة وتكويناته الكاملة، فإن روبرتس الموهوب لم يكن فنانا مبدعا. حيث إن نقوشه الحجرية ورسومه بالزيت وألوان المياه لم تكن أعمالا مستوحاة على غرار ما كان يمكن لترنر أن يقدمه. فقد كان أساسا مهنيا فيكتوريا عاديا، يعمل وفق أصول زمنه. فكان نجاحه الهائل يرجع إلى إقراره بقدراته والإفادة منها. وقد راقت تلك المهنية المحتفى بها إنجلترا الفيكتورية من خلال فكرة العمل الصناعي المباشر.

وكان لدى روبرتس من يقللون من شأنه أيضا، فقد كان أحد الاتهامات الموجهة ضده من قبل نقاد الفن أنه كان يستخدم الناس كعناصر في اللوحة وكمجرد إضافة لولعه الرئيسي بالمباني المنهارة. فقد أعرب جون روسكين، من نقاد الفن الفيكتوري الحادين، عن كراهيته لما كان يمثل في الحقيقة عملا رمزيا من أعمال روبرتس - استخدام الناس كلون وجزء من المشهد في اللوحة - «كان العمل يعج بالصدريات، والغليون، والسيوف المعقوفة، فيما كان كل ما نحتاج إليه هو سحلية أو أبو منجل».
ولكن رد فعل روبرتس على تلك الانتقادات كان أن رسوم الأجسام البشرية تضيف ثراء ورؤية للوحاته وتمنح بعدا إضافيا لمشهد جاد أو مجرد أطلال. وكان يقر بصراحة بأن رسم الأشخاص ليس من ضمن مهاراته.

فقد كان لديه تصريح فني لتحقيق تأثير درامي أعمق وإعادة تكوين الحالة التي يثيرها الموضوع نفسه.. هذه لم تكن مجرد سجلات طوبوغرافية. ويمكنك أن تشهد مبالغته في ارتفاع واتساع المباني من خلال زيادة النسب وتقليل حجم الأشخاص. كما أنه كان يستخدم ظروفا مناخية ملونة لخلق تأثيرات باهرة. وكانت أعظم تكويناته تلك التي تجمع إحساسه بالدراما الذي يرجع إلى تجربته كرسام مشاهد مسرحية، مع قوة ملاحظته الهائلة والتي تتجلى في تصويره للزخارف المعقدة للفن المعماري القوطي وفنون شمال أفريقيا.

وفي النهاية، وبعد «تلك المرحلة الرئيسية العظيمة في تاريخه الفني»، عاد روبرتس إلى إنجلترا. وقد عمل مع لويس هاغ، الذي ينفذ الطباعة الحجرية، لنحو ثمانية أعوام، لطباعة تلك الرسوم على الحجر، والتي تحقق الآن مبيعات مرتفعة في المزادات، ربما كانت تبدو أمرا مستحيلا بالنسبة لعصر روبرتس، حتى بالنسبة لاسكتلندي بارع.
font change