"خبطة" صحافية ذهبت لغير "المجلة"!

"خبطة" صحافية ذهبت لغير "المجلة"!

[caption id="attachment_55242478" align="aligncenter" width="620"]صالح القلاب صالح القلاب[/caption]


كان ذلك في عام 1988، فقد انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، وقد تمت الدعوة لتلك الدورة لتكون دورة إجماع وطني تحضرها كل الفصائل الفلسطينية، لأن المطلوب كان الاعتراف بقرار مجلس الأمن الدولي الشهير المعروف رقم 242، وإعلان قيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967، وحقيقة أن الهدف غير المعلن كان الاعتراف بإسرائيل، وإنْ على نحو مُوارب تمهيداً للانتقال بالمفاوضات التي كانت قد بدأت بين الفلسطينيين والأميركيين في تونس، إلى مرحلة جديدة يكون التفاوض الفلسطيني خلالها مع الإسرائيليين مباشرة وبلا وسيط.

كان كل قادة الفصائل الفسطينية قد حضروا ذلك الاجتماع المفصلي والمهم جداً، وكان من بين هؤلاء صبري البنا (أبو نضال) الذي كان انشق عن حركة "فتح" في بدايات سبعينات القرن الماضي، وشكل تنظيماً إرهابياً خاصاً به، أعطاه اسم "حركة فتح -المجلس الثوري"، ما لبث أن تحول إلى "بندقية للإيجار"، وقد انتقل من العمل لمصلحة النظام العراقي إنْ في عهد أحمد حسن البكر، وإنْ في عهد صدام حسين، إلى العمل لمصلحة المخابرات السورية ونظام حافظ الأسد، ثم إلى العمل لمصلحة المخابرات الليبية ومعمر القذافي.. وبالتالي فإن إقامته بعد بغداد ودمشق قد أصبحت في طرابلس الغرب.

لقد عرفت أنَّ (أبو نضال) موجودٌ في الجزائر، وإن هو لم يحضر اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني، من المعارض التونسي الكبير الصديق إبراهيم طوبال، رحمه الله، الذي أبلغني بأن صبري البنا، الذي كان مطلوباً لمعظم مخابرات الكرة الأرضية، يرغب في أنْ أجري معه مقابلة صحافية لمجلة "المجلة"، ونظراً لتقديري بأن مثل هذه المقابلة ستكون "خبطة" صحافية هائلة، فقد وافقت على الفور وجرى اللقاء مع ذلك الرجل، الذي كان يعتبر سراً من أسرار الكون، والذي كنت قد التقيته قبل انشقاقه عن "فتح"، في وقت مبكر من بدايات سبعينات القرن الماضي، في منزل أحد أقاربه في مدينة الجزائر العاصمة، في أجواء بوليسية وسرية، حيث أُعلمت أنَّه حتى الاستخبارات الجزائرية، وكان على رأسها في تلك الفترة الأكحل العياط، الذي تتلمذ على يد عبد الحميد بوصوف أحد قادة الثورة الجزائرية الأوائل، ومؤسس مخابرات هذه الثورة العظيمة، لا تعرف أي شيء عن هذا اللقاء.. وقد قيل لي أنه عليَّ ألاّ أتحدث عن هذا الأمر لأيٍّ كان، إلاَّ بعد عودتي إلى لندن.

عدت إلى لندن وأنا أتأبط مقابلة مع شخصٍ يعتبر أخطر إرهابي في العالم، وكانت هذه المقابلة بما احتوته من أسرار وقضايا ومواقف بمثابة قنبلة صحافية فعلية.. لقد كان الأمر في منتهى السرية، وجرى تدارس مسألة النشر أو عدمه بين رئيس التحرير وبيني فقط، وحقيقة أنه كانت هناك رغبة جامحة للنشر، ولكن كانت هناك محاذير كثيرة فـ"مجلتنا" تصدر من لندن، ولهذا الرجل علاقات معروفة ومتداولة مع الجيش الجمهوري الآيرلندي (I.R.A) وكان هذا التنظيم الإرهابي أيضاً في ذروة صدامه مع الدولة البريطانية، التي كان يعتبرها محتلة للجزء الشمالي من آيرلندا، والذي كان يرفع شعار "تحريرها" وعودتها إلى إيرلندا الجنوبية (الجمهورية الآيرلندية).

كان القرار بعد ثلاثة أيام من التفكير والتشاور والاتصالات الضرورية ألاَّ يتم النشر، وكان هذا بالنسبة لمسيرتي الصحافية الطويلة كفقدان جوهرة ثمينة من عقد سنوات عمري في مهنة المتاعب هذه، وبالنتيجة وحتى لا نُغضب (أبو نضال) فقد تم إهداء "المقابلة" إلى إحدى الصحف العربية، التي كانت تصدر بطبعة دولية من إحدى الدول الأوروبية، ولقد تم نشر هذه المقابلة في اليوم التالي، حيث تناقلت وكالات الأنباء مقاطع مطولة مما جاء فيها من أسرار على لسان رجل كان في ذلك الوقت سراً كبيراً من أسرار الإرهاب في العالم كله.

في اليوم التالي رأيت تعبي ومغامرتي وشقائي وجزءاً من ضوء عينيَّ، على صفحات غريبة غير صفحات "المجلة" التي أحببتها كجزء من قلبي، والتي لم أحب على مدى رحلتي الصحافية الطويلة، أي مطبوعة أخرى كما أحببتها.. لقد كان حزني شديداً وجعلني ألزم الفراش لعدة أيام، لأنني رأيت اسماً غير اسمي يحتل صدارة "خبطة" صحافية هائلة، مع أن صاحب هذا الاسم عندما كنت أتسلل تسللاً لإجراء هذا اللقاء، كان هو يغني على ليلاه في عاصمة إحدى الدول الأوروبية الجميلة
font change