انفرد الإخوان بالحكم وقرروا.. الإقصاء

انفرد الإخوان بالحكم وقرروا.. الإقصاء

[caption id="attachment_55242969" align="aligncenter" width="621"]الرئيس مرسي يجتمع بأحزاب الموالاة في غياب لأبرز معارضيه الرئيس مرسي يجتمع بأحزاب الموالاة في غياب لأبرز معارضيه[/caption]


لماذا تحتاج مصر إلى مؤتمر؟
إن أهم سبب هو سياسة "الإقصاء" التي تصاعدت من مرحلة الى أخرى، وكانت بدأت بفئة واحدة، ثم شملت مختلف الفئات من خارج التيار الديني.

كان بإمكان "الجمعية التأسيسية" ألا تقودنا إلى أوضاع مماثلة لما صارت عليه مصر.. ذلك أن "الجمعية" في حد ذاتها كانت بمثابة مؤتمر وطني، يفترض أن يعقد جلساته، بحضور الأطراف المختلفة، لمناقشة مستقبل البلد وعلاقات أطرافه، ووضع قانونه الأساسي، وتكون نتيجته هي وثيقه الدستور التي يقرها الناخبون في استفتاء نزيه.

قبل الاستفتاء الأخير، الذي أُقر الدستور بموجب نتائجه المعلنة، كرر العديد من زعماء المعارضة الحديث عن أنه كان يجب أن يذهب المصريون إلى صناديق الاقتراع وهم يعرفون النتيجة مسبقا.. لأن الجمعية - أو المؤتمر - توصلت إلى خُلاصَات مَرضي عنها ولا خلاف عليها. للأسف كان الاستفتاء ميدانا للصراع، وحول هذا الحدث، قبله وبعده واثناءه، ترسخت حالة الاستقطاب.. وبدلا من أن يكون محطة للوفاق، فإنه أطلق مزيداً من أسباب الفراق ومسارات الشقاق.

لأن الفُراق بدأ قبل نهاية أعمال "المؤتمر - الجمعية" بفترة طويلة. إذ تأسس عندما قررت القوى التي شاركت في (25/ 28 يناير).. بعد 11 فبراير (شباط) 2011، يوم ترك الرئيس السابق حسني مبارك منصبه.. عندما قررت (الاستبعاد المعنوي- السياسي) لكل المواطنين المصريين، الذين رأت أنهم إما كانوا على علاقة مباشرة بالحزب الوطني أو سلطة الحكم السابقة.. أو تم الاشتباه في أنهم ساعدوه وانتموا لنظامه!



إقصاء




هذا "السحب المعنوي" لحقوق المواطنة، ممن يمثلون فئة مصرية عريضة، دون النظر ما إذا كان المستبعدون قد ارتكبوا جرائم أو تورطوا في فساد.. أرسى قاعدة الإقصاء.. التي تضخمت مرة وراء مرة.. الى أن انفرد الإخوان بالحكم، وقرروا إقصاء الجميع.. وأن يكون كل شيء لهم.

في مرحلة تالية قرر "الاستبعاد المعنوي" أن يتقنن، وأخذ مبدأ "العزل" طريقه الى مجلس الشعب.. قبل أن يصدر قرار دستوري بحله. لكن محاولة "شرعنة العزل" فشلت لأسباب دستورية.. وخلفت وراءها أسبابا جديدة للفرقة. وتراكمت أسبابا جديدة فوقها خلال الانتخابات الرئاسية مرتين. مرة أثناء احتدام المنافسة بين القوى الاجتماعية التي اعتبرت أن (25/ 28 يناير) بمثابة اختبار تاريخي لوجودها في مواجهة من تعتقد انهم ضد التغيير الذي حدث. ومرة بعد إعلان النتائج التي أحاطتها ملابسات كثيرة.. فاتسعت الهوة بين أطراف مختلفة.. بينها جميعا دوائر مشتركة ومساحات تلاق.. اجتماعية وثقافية.. وإن فرقتها لحظات "الخَدر السياسي" المؤقتة في مرحلة ثالثة، جمعت مساحات التلاقي المدني بين القوى الاجتماعية والسياسية المتنافرة، حين كشفت توجهات الدولة الدينية عن نفسها، وتبين أن السعي لـ"التمكين" يستهدف "أخونة" الدولة.. وإقصاء كل شيء دونه.. المعارضة بكل أطيافها.. المؤسسات بغض النظر عن احترافها.. القوانين أيا ما كانت صلاحياتها. واستجمعت حالة "الإقصاء" كل طاقتها.. وأطاحت بالإعلان الدستوري المكمل.

ثم، وفي ذات المرحلة، كان أن أطيح بكل اتجاهات الآخر - سواء كان آخر سياسي أو عقيدي - في الجمعية التأسيسية.. الإطاحة المباشرة أو الإطاحة الدافعة للانسحاب.. وتوجت هذا كله بمادة دستورية تستبعد مئات من المصريين.. لهم عائلاتهم وأسرهم ومن يرتبطون بهم اجتماعيا وسياسيا.. فلم يقتصر هذا "العزل" على أن يضر بعدد كبير من الأشخاص، وإنما يشمل عدداَ أكبر من القوى الاجتماعية وأشجار علاقاتها الممتدة والمرتبطين بها مصلحيا.

واكتمل "بناء الإقصاء" بالإعلان الدستوري الصادر في 22 نوفمبر (تشرين الثاني)، الذي أقصت السلطة التنفيذية به السلطة القضائية.. وقبضت - ممثلة في الرئيس - علي القانون، وضمن ذلك أقصت بقانونها وأقصي غيرها - وتحت رعايتها - بالحصار التهديدي العنيف، المحكمة الدستورية.. كما أقصت أطياف المعارضة ومن يؤيدونها بعدم الاستماع إلى مطالبهم.. والتعامل السياسي على أنهم ومن يمثلون "غير موجودين".

إن "العزل" في صورته الدستورية، لم يعد قاصراً على فئة دون غيرها من بقية فئات المجتمع.. فقد أُضيف اليه عزلاً سياسياً. وقد استشعرت - آخيرا - بذلك "جبهة الانقاذ"، وقال ممثلوها في لقائهم مع السيناتور الجمهوري جون ماكين، إنهم يطلبون من الحكم أن يعترف بوجود المعارضة، ولا يعتبر موقفها تآمرا أو خيانة.

وفي ذات الوقت فإن الجذر السياسي للحكم الذي تتصدره شخصية الدكتور محمد مرسي، أي جماعة الإخوان، كان أن مارست نوعاً مستجداً من الاقصاء تجاه حليف سابق.. وفجرت حزب "النور" من داخله.. وتولد حزب جديد اسمه "الوطن".. ينازع الأول في تقدمه للتيارات السلفية. وكشف الإخوان بذلك عن فهمهم الجوهري للسياسة بأنها "توظيف للأدوات" لا "علاقة بين شركاء".. وأنها "مغالبة" أولاً وآخيراً.. وأن شعار "المشاركة" ليس سوى من أجل الاستهلاك المؤقت.



شقاق




إن كل يوم يمضي يُظهر تصرفاً جديداً أو خطوة إضافية توغر مزيداً من الصدور.. وتهدم جدارات الثقة.. وتزرع حقول الشك.. وتطور حالة "الشقاق" من استقطاب بين "معسكرين".. الى تنافر بين طرف واحد مع حلفاء قليلين.. ومجموعة من القوى والتيارات والأحزاب وما يمثلون من توجهات سياسية وانحيازات اجتماعية.

لم يعد إذن الصراع بين أنصار الدولة المدنية والداعين إلى الدولة الدينية.. أو بين الليبراليين والتيارات الدينية.. أو بين الثائرين والمنتمين للقوى التقليدية والمحافظة.. بل بين الإخوان وفيالق من الخصوم السياسين.

يكون الإخوان واهمين إذا اعتقدوا أن هذا سوف يؤدي الى فرض قواعد على اللعبة لا تقبل التفاوض، لسبب جوهري.. وهو أن القوى الاجتماعية التي تعبر عنها التيارات السياسية المعلنة لن تسمح لها بذلك.. وإذا ما رضخ السياسيون لن يقبل بهذا الناخبون. بل إن التشخيص يكون خاطئا تماما اذا ساد اعتقاد بأنه يمكن أن يقبل المواطن الخلل العام في قواعد الديمقراطية.. لأن هذا سوف يدفعه الى أن يهجر الديمقراطية ويبحث عن سبل أخرى للتعبير عن احتياجاته.


[caption id="attachment_55242971" align="alignleft" width="300"]أبرز قادة جبهة الإنقاذ عمرو موسى ومحمد البرادعي وحمدين صباحي يرفضون الجلوس مع الرئيس مرسي أبرز قادة جبهة الإنقاذ عمرو موسى ومحمد البرادعي وحمدين صباحي يرفضون الجلوس مع الرئيس مرسي [/caption]

لقد أظهر استطلاع للرأي كشف عن نتائجه معهد غالوب يوم 24 يناير، أن الأولويات الأساسية للمصريين هي كما يلي: (قضاء عادل 81 في المائة) ، (اقتصاد مستقر 81في المائة)، (إعلام حر 62 في المائة)، (فرض النظام والقانون 60 في المائة)، (حرية التعبير 58 في المائة)، (مشاركة الأحزاب الإسلامية في الحكم 50 في المائة)، (المساواة بين الرجل والمرأة 41 في المائة)، (حرية الدين والعقيدة 38 في المائة)، (الوصول الحر للانترنت 35 في المائة)، (جيش يخضع للرقابة المدنية 24 في المائة).

ويعني هذا أنه من بين عشر أولويات هناك أولوية (اجتماعية - إقتصادية) واحدة احتلت مكان الصدارة بالمساواة مع القضاء العادل، بينما كانت بقية الأولويات ذات طابع سياسي وديمقراطي.. ما يؤكد الاستخلاص بأن المواطن في مصر بعد 2011 لن يقبل خللا في قواعد الديمقراطية. وقد خالف الحكم الاخواني كل ما يُفترض في أسس الديمقراطية.. من حيث إقرارها المساواة والشفافية والقبول بتداول السلطة ومبدأ المواطنة، والتصويت الحر وحرية التعبير والنسق الدستوري المرضي عنه من الجميع.

سأنحي جانبا، كل ما يقال عن شروط الحوار والضمانات مسبقة، لقبول مبدأ النقاش السياسي من جديد بين الحكم ومعارضيه. ذلك أن المسألة أعقد من هذا بكثير . فالحكم ذو الجذر الإخواني يخشي أن يخسر معركته تلك ويترك السلطة التي قبض عليها.. ويعود من جديد إلى صفوف المعارضة.. مذكرة إياه بأيام الحظر والعمل تحت الأرض.. لأنه لا يثق في تحولات الأيام. والمعارضة رأت بعينيها ولمست باكورة تصرفات الإخوان بينما هم لم يصلوا الى مرحلة التمكين الكامل .. فما بالنا لو انها اكتملت.

صراعات
وفي جوهر الأمر كذلك صراعات لم تحسم حول هوية الدولة، والعلاقات بين سلطاتها، وضمانات ديمقراطيتها التي يحلم بها الجميع، وطبيعة مشاركة التيارات الدينية في لعبة السياسة وعملية الحكم.. تلك التيارات التي احترقت أصابعها من تصرفات حليفها السابق.. أي الإخوان.. ولكنها لا تضمن أن يصل إلى الحكم تيارات ليبرالية.. قد تتجه الى الانتقام وتمارس بدورها سياسة الاقصاء.. وندخل في دوائر تاريخية مفرغة من الإقصاء والإقصاء المتبادل. ولذا فإنها تقف حائرة بين هذا وذاك.. وقد تصبح قنابل متفجرة في وجه الجميع.. حكاماً ومحكومين.



مخاوف




إن المصريين كما تظهر نتيجة الاستطلاع، يجعلون من بين أولوياتهم مشاركة الأحزاب الإسلامية في الحكم - الأولوية السادسة بنسبة 50% - ولكن المظاهرات والأحداث الاخيرة يمكن ان تضيف سبباً جديداً لتخوف التيارات الدينية على مستقبلها، من جهة أن أغلب الشعارات طلبت سقوط ما سمته "حكم المرشد".. وباعتبار أن غالبية التيارات الليبرالية تعتقد أن الأحزاب الدينية تأتمر بتوجيه من الإخوان.. أو على الأقل التنسيق معها. إن هذا ما يجعل لمخاوف التيارات الدينية بشأن المستقبل مبررا قويا.. هي في الأصل مسؤولة عن بعض "كبير" من أسباب نشوئه.

لقد نتج هذا كله عن مناخ متخبط في الفترة الانتقالية، ووضع عليه "تاج العار" دستورا مشوها غير مقبول، أقر الرئيس نفسه بالحاجة إلى تعديله قبل ان تبدأ عملية التصويت عليه، وأقرت اللجنة العليا للاستفتاء بأن 36% من الناخبين يرفضونه.. والاستفتاء على الدساتير ليس مثل الاقتراع في الانتخابات.. إذ لا بد أن تتوافر له أغلبية كثيفة.. تؤكد التوافق العام حوله. ولن أتطرق هنا إلى الدلالات المؤكدة حول عدم نزاهة عمليه الاستفتاء علي الدستور، التي تشكك يقينا في دقة رقم الـ64% من المؤيدين للدستور. أبسط دليل على هذا أن الأرقام الرسمية تقول إن محافظات القناة قد أعطت تصويتا إيجابيا لصالح وثيقه الدستور، ولكنها هي التي شهدت أشد الأحداث سخونة.. ففي السويس سقط تسعة من الضحايا، وفي الاسماعيلية تم حرق مقر حزب الحرية والعدالة في منتصف نهار الأحداث، وفي يوم السبت التالي، شهدت بورسعيد غضبا كان قائما وانفجر بعد صدور الأحكام الأولية في قضية مذبحة الاستاد.

إن الحكم في مأزق.. هذه حقيقة لا جدال فيها، وإن حاول الهروب منها الى الأمام بمزيد من التعقيد. وليس دورنا هو أن نبحث للحكم عن (مخرج) من مأزقه.. لأنه اصلا قد لا يكون يريد أو لا يراه كذلك. لكن الأهم والأعم أن البلد كله في مأزق أشمل وأخطر. هذه حقيقة دعمها دستور لم يحسم كل مسائل التباعد بين فئات المجتمع. وبعيداً عن الجدل حول شرعية الجمعية التأسيسية التي أنتجته فإن "مؤتمر مصر" سيكون خياراً حتمياً يجب ان تذهب اليه كل الأطراف.. وبحيث يكون مؤتمراً لـ"الرؤوس المتساوية".. لكي تضع داخل إطار سياسي - علمي حلولا للتعقيدات المتشابكة، وتفك خيوط الغزل المجتمعي الممسك بخناق الجميع.

مؤتمر يُعاد فيه بناء الثقة.. لا يكون هدفه الأول بلوغ دستور جديد وعصري ومتوافق عليه.. بل ان نتناقش في ما لم نتكلم فيه بدقة وعمق.. أن تُطرح عليه كافة المسائل غير المحسومة، إستنادا لأوراق مكتوبة وموثقة ومدروسة.. وبحيث تقوم فيه النخبة بما فاتها، بينما كانت مستغرقة في الإلهاء السياسي خلال العامين الماضيين.

مؤتمر يقرر ما هي مصر، وما هي هويتها، وكيف تحافظ على تنوعها، وكيف تكون بوتقة للصهر لا القهر، ويُعرف بفئاتها، ويَعترف بمكوناتها، مهما كانت انتماءاتها أو عقيدتها أو اتجاهاتها.

مؤتمر يضع تعريفاً لدور مصر، وطموح شعبها الداخلي والخارجي، الآني والمستقبلي، ويوصف أبعاد الأمن القومي، ويحدد دوائره وتحدياته، ويقرر ما هي الأساليب التي تحقق المصلحة في التعامل مع تلك التحديات.
ومن ثم يُعرف المؤتمر ماهية الدولة التي يريدها هذا الشعب لمصره، وما هو دورها، وكيف تكون سلطاتها، وما هو دور مؤسساتها، ويفرق بين الدولة وبين إدارتها.. فللدولة ثوابت لا تغيرها الإدارات، ويحدد ماذا سيكون على الإدارات أن تقوم به، وماذا عليها ألا تقترب منه.. أيا ما كان حجم شرعيتها الانتخابية.. وبذا يكون قد حدد طبيعة النظام وقواعده.. وفرق بين الدولة والإدارة.. فلا تأتينا إدارة يكون من غيها أن تغير طبيعة الدولة.

مؤتمر يضع تعريفاً للعلاقة بين الفئات المجتمعية، ويتوافق على معنى للعدالة الاجتماعية، وبالتالي يحسم التوتر الاجتماعي العريق بين عموم الطبقات والرأسمالية، لا يضع برنامجا اقتصاديا، وإنما يقرر المبادئ العامة التي لا تحيد عنها إدارة، يمينية كانت أو يسارية.
مؤتمر يحضره الجميع من دون تمييز، لا إبعاد ولا إقصاء، يترك السياسيون على بابه ايديولوجياتهم، ويعكفون على نقاش مستفيض أيا ما كان وقته.. فمثل تلك الأمور لن تحسم في ثلاثة أيام أو أسبوع.. وإنما قد يمتد التحضير له أشهرا.. يدخله الحاضرون وقد اجتهدوا في أن يعبروا عن أفكار محددة لا مبادئ جامدة.

من هذا المؤتمر المؤسس، يمكن أن يتم وضع معايير اختيار جمعية تأسيسية منتخبة جديدة، لن تستغرق وقتا في ان تضع دستوراً، سيكون التوافق عليه مؤكداً.. مادامت الأسس الجوهرية قد وضع إطارها هذا المؤتمر القومي.

إن حاجتنا إلي هذا المؤتمر تاريخية وحتمية، وأعتقد أنه اذا لم نذهب اليه بأنفسنا واختيارنا.. فإن التطورات سوف تقودنا إلى أن نذهب اليه مجبرين منهكين.. نستمع لمن يديره من خارجنا.. ويفرض علينا صفقته.. فنقبل بها.. ونواجه جميعا التاريخ بكل الخزي والعار لمسؤوليتنا عن وطن نذهب به الآن غياهب غير معلومة. سوف تُعلق في رقابنا جميعاً، وليس الحكم وحده، أيا ما كان عنته.
font change