عندما تتجاذب الدولة و العشيرة الوطن

عندما تتجاذب الدولة و العشيرة الوطن

[caption id="attachment_55243308" align="aligncenter" width="620"]ليبيون يتظاهرون ضد القبلية ودعوات الفيدرالية ليبيون يتظاهرون ضد القبلية ودعوات الفيدرالية[/caption]



منذ أن كنت صغيرة وأنا أسمع اسم "القبيلة"، فهي الثقافة الأكثر خصوصية وتميزا في الخليج العربي، وأكاد أقول أكثر الدول العربية. في بلادي تبدو "القبيلة" حميمية، دافئة، صديقة، شهمة، عربية، وأحبها، شريطة ألا تطغى على الوطن والهوية العامة، وألا تذكي التعصب والنعرات.


أصول القبائل العربية تتناثر وتتجذر في تربة خريطة العرب، واليوم الذي نعيش فيه مع تطورات التقنية، تفتح الصفحات على مواقع الشبكة العنكبوتية فترى قبائل إلكترونية مجتمعة: تجمعات قبيلة شمر، مجموعة عتيبة، شجرة حرب، قبيلة قحطان وغامد وبني خالد وبني هاجر ويام وو.. وغيرها من القبائل. في موقع "فيس بوك"، وجدت نفسي في مجموعة عالمية ضخمة لعائلتي، مجموعة من مئات الأشخاص الذين يبحثون عنها في العالم، يتصافحون ويتباحثون الأصل القبلي. بين هوس البحث عن هوية لهؤلاء الذين يحاولون التكتل تحت راية القبيلة، ثمة أسئلة عريضة نبتت مثل شجرة الصفصاف، وتسلقت على الكرة الأرضية، تماما مثل القبائل التي تبحث عن عروقها في الأرض فتسقيها وتتكئ عليها.

لكنه عالم ما بعد الحداثة، حيث يعيد العالم روح الهوية والانتماء، سواء تلك التقليدية أو المستحدثة. إلا أن بث الروح في الهويات التقليدية، والذي يعتبر نوعا من الانتكاسة إلى الماضي، حيث القبيلة هي الأصل وهي المفر والقاعدة البديل، يعد بمثابة ردّة فعل على غياب البديل العميق، الذي يمكن أن يحل مكان الهوية التقليدية، كتعويض، وهو "الوطن" بمكوناته الحديثة. قد نرى من متلازمات ذلك أن يكون تأسيس الدولة الحديثة في بعض دول العالم العربي، لا سيما بلدان ما سمي "الربيع" يتراجع تحت غطاء القبيلة والعشيرة، في عملية البحث الإنساني عن مأمن أكثر ثباتا يعوض عن غياب الدولة، إذا ما حدثت أي قلاقل واضطرابات. وهذه ربما الأداة نفسها التي عادة ما تستخدمها النخب السياسية لإرضاخ الشعوب، ولترسيخ مكانتها وسيادتها بين القبائل حين تشعل فتيل التناحر والتفرقة بينها، تماما كما كان يفعله القذافي، وصدام حسين، وما يفعله الأسد الآن.

ليس جديدا إذا قلنا إن ثمة هويتين ثقافيتين تنازعتا على هوية القبيلة لدى شعب الجزيرة العربية، وما جاورها هما هويتا الإسلام والعروبة. كانت هوية القبيلة هي الحاضنة الاجتماعية الأهم، تتبارى في أهميتها مع كل الهويات الأخرى، بما في ذلك الهوية الشخصية للفرد. وربما يظهر هذا جليا في قول دريد بن الصمة:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشدِ

ومن ذلك أيضا التفاخر بالقبيلة، ونستشهد بشعر جرير:

فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلــــــغت ولا كلابا

استمر العرب في تمجيد القبيلة ودورها في الكيان الاجتماعي. وحين جاء الاسلام، كان من المتوقع أن ينتزع جزء من عروق تلك الهوية لصالح الدين. لكن ذلك لم يزعزع قاعدتها المتجذرة. وعلى الرغم من انفتاح العالم حتى يومنا هذا على الثقافات العالمية، لا سيما التقنية والرقمية، والقدرة على التنقل في شتى قارات العالم افتراضيا وجسديا، تبقى القبيلة لدى القبليين في العقل والقلب عصية على التنحي.



القبلية في حفلة تنكرية





تبدو "الخلافة الإسلامية" كفكرة تحاول استعادة دور القبيلة في مقابل الدولة الحديثة. فالمسلمون هم في نظر جماعة الإسلام السياسي، عبارة عن قبيلة ضخمة تتخطى حدود الدولة وجغرافيتها في العالم. وعلى إثر ذلك، تساوى مفهوم الحزب السياسي في البلدان العربية مع مفهوم القبيلة من حيث الفكرة والمبدأ والتنسيق. فالمقياس لدى الإسلاميين هو القبيلة وليس الفرد.
وهذا الفرد يقرب أفراده الإسلاميين على أبناء جلدته من أبناء الوطن الذين ينتمون إلى طوائف أو تيارات أخرى، فترجح كفة مفهوم ثقافة القبيلة على ثقافة الدولة.
المجتمعات العربية، بحسب مفاهيم علم الاجتماع، لم تسلك في تطورها مسالك المجتمعات الأخرى. إن أهم العوامل التي أسهمت في التغيرات الاجتماعية العربية كانت غالبا عوامل خارجية. فالاستعمار حين غادر البلدان العربية، أبقى البنية الاجتماعية كما هي تحت حكم القبلية.

وقد سعت هذه الأسر إلى استمرار ثقافة القبيلة في الدولة الحديثة لأسبابها السياسية، التي قد يكون منها ضمان ولاء القبائل لضمان الحكم. وإذا نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى، فقد تكون بداية إخضاع القبائل لنسق الدولة الحديثة مبدئيا، وانضوائها جميعا تحت راية الدولة الواحدة. وهذا الأمر يتطلب حنكة سياسية من السياسي. إلا أن هذه البلدان كان من المهم لها أن تتماشى مع الديمقراطية العالمية الكلاسيكية، إذن فلا بد من تأسيس مجالس الشورى والبرلمانات وما سواها. وهذا ما حدث. ولم يزد ذلك الثقافة القبلية إلا تعمقا. ونستطيع أن نلمس ذلك في الانتفاضات الشعبية العربية، حين يستنفر الحاكم عشيرته في مواجهة الشعب الثائر، وهذا ما يجعل الثورات مهددة بالتحول إلى حروب أهلية.

دور القبيلة سياسيا في البلدان القبلية دور حيوي وأساسي، فهو إما يؤدي إلى استقرار أو إلى اضطراب سياسي، بين انحياز وتأييد لجانب سياسي ما أو محاربته. وهذا كله يصب في الدور والتأثير السياسي للقبيلة. هل بإمكان القبيلة أن تصبح حزبا سياسيا فعلا؟. يُبنى المجتمع المدني على الفرد الذي يشكل المجتمع الكلي الذي يقوم على الحرية الفردية، بينما يُبنى الفرد في النظام القبلي على القبيلة نفسها من خلال التفكير الجمعي والحرية الجمعية لا الفردية. الفرد في القبيلة ليس حر نفسه بل ملك للقبيلة.

يقول خلدون النقيب، في كتابه "في البدء كان الصراع" "عندما يتعرض المجتمع لأزمةٍ طاحنة، أو خطرٍ داهم، نعود إلى هذه الانتماءات - الولاءات الوشائجيّة، التي نجد فيها الأمان والطّمأنينة، أو نستعملها كأدوات لتحقيق المصالح وكسب المنافع"، ويعتقد النقيب أن المجاميع "القبلية" و"الطائفية" هي من أخطر المجاميع تأثيرا في المجتمع العربي، لأنها تتمتع بالولاءات القوية القادرة على توجيه الجموع، وربما يتمكن البعض من توجيهها في مسارات خارجة على الواقع أو القاع السوسيولوجي الطبيعي الذي ينتمي إليه المجتمع.
ويكشف خلدون النقيب عن مفهوم "القبيلة السياسية"، في كتابه صراع القبيلة والديمقراطية: حالة الكويت"، بوصفها شكلاً حديثًا من أشكال التنظيم الاجتماعي يتمايز عن المفهوم التقليدي للقبيلة الذي يعتمد وحدة النّسب. وهي حالة "عقليّة عامة" تخصب الذاكرة الجماعية للمجموعة، وهي مفهوم تطوري أيضاً يتناغم مع الأوضاع الجديدة، ويفيد ترابط التجمّعات كما ترابطت القبائل من أجل سياسة أو غرض؛ فهي عصبيّة تتلون بألوان الطّبقات والطوائف، في المدينة أو الريف، لأن هياكل النظم التقليدية ما زالت تعيد إنتاج نفسها عبر ما يستجدّ من دوراتها التاريخية. ويرى النقيب أنّ القبيلة حافظت، تاريخياً، على الوحدة والتجانس الثقافي للمجتمع العربي، وعملت كوسيلة ضبط اجتماعي فيه".

أما محمد جابر الأنصاري مؤلف كتاب "العرب والسياسة: أين الخلل؟" فيقول "لم تنجح الدولة العربية الحديثة، بشكلٍ عام، في إيجاد جو من الطمأنينة لدى أفرادها مبنيٍّ على تحقيق العدالة الاجتماعيّة، ورعاية المواطن، وحفْظ الحقوق والأمن، وتحقيق سبل المشاركة الشّعبية للناس، كما أنها لم تفلح، على مدى أكثر من نصف قرن، في تقديم نفسها بوصفها تجربة وحدوية وطنية ناضجة، يعتمد عليها الأفراد ويركنون إليها". ويقول أيضا "تتطلب قوّة الحضور المتجدّدة لثقافة القبيلة، تجدّد الاهتمام والتركيز البحثي في مسألة القبيلة. فمشكلاتنا، نحن العرب، في معظمها هي مشكلات "علاقات وأربطة"، وتشكّل جمعي أكثر مما هي مشكلات "ذوات".


[caption id="attachment_55243309" align="alignleft" width="300"]عشائر العراق.. دولة داخل الدولة عشائر العراق.. دولة داخل الدولة[/caption]

فيما ينحو هشام شرابي في كتابه "النظام الأبوي، وإشكالية تخلف المجتمع العربي"، إلى أن القبيلة قد تصبح كياناً اجتماعياً بالغ الخطورة حين تتقاطع مع العالم السياسي الحديث، لأنها تتداخل بهذا العالم بشكل "عصبي وتحشيدي" وغير منضبط فكريا ما يولد نتائج فادحة على المستوى السياسي والاجتماعي. والقبيلة ككتلة اجتماعية مؤثّرة لا تكون سلبية دائماً. فقد يكون لها مواقف إيجابية في التأثير السّياسي والاجتماعي، مثل دعمها القيم والأخلاق السّامية، أو تعزيزها حصانة المجتمع. ومثال ذلك وقوف القبائل العراقيّة في ثورة العشرين ضدّ المحتلّ البريطاني.
ويرى عزمي بشارة أنّ القبيلة تمثّل عامل اعتدال قادر على خلق نوع من الاتّزان الاجتماعي في مواجهة "الأيديولوجيات المطلقة".



الحارس الأمين؟





إذا ما تأملنا القبيلة كتنظيم سياسي، فإن القبائل في مجتمعاتنا العربية هي الأكثر قابلية لأن تكون مؤهلة للعب دور الأحزاب السياسية حين تتحول الدولة إلى حديثة.
اعتبر البعض أن القومية العربية هي صيغة أخرى لـ"القبيلة"، وأنها أطروحة شوفينية برداء عصري، حين تعتمد على المشتركات العرقية. في حين أن الدولة الحديثة تؤسس على التعددية. أن نأخذ هذه الفكرة جديا، يعني أننا نسقط كافة الفرضيات الأخرى في السلة نفسها، وليس بعيدا منها الفرنكوفونية والأنغلوسكسونية كفكر تصنيفي، بل نكاد نقترب أكثر ونشمل الأحزاب والنقابات التي يندرج تحتها العملية الديمقراطية المزروعة ولو شكليا في العالم العربي.

وإذا ما أخذنا أوروبا كمثال، فإن الأمم الأوروبية إلى ما قبل ثلاثمائة عام فقط، كانت تقوم على النظام الإقطاعي وهو نظام بشع تبدو القبيلة أمامه ملاكا طيبا. فألمانيا على سبيل المثال كانت تحت سيطرة قبائل "الجرمان"، وبريطانيا يسيطر عليها تحالف القبائل الأنغلوسكسونية، والسويد وسويسرا تحت حكم قبائل "الفايكنغ"، ومازال الإنجليز يتندرون بذكر قبائل الآيرلنديين المتحاربة. لكن ذلك لم يستمر. وها هي أوروبا اليوم دول حديثة متناغمة تجري إلى الحضارة جريا ماراثونيا، فلا تذكر تاريخها هذا سوى في الفن والتاريخ.

لكن السؤال، هل تنتج القبيلة دولا متخلفة دائما؟. ليس ذلك حتما. فالنازيون في ألمانيا كان أبرز من طوروا ألمانيا الحديثة، ومثلهم الفاشيون في أيطاليا والقوميون الأتراك في تركيا. وعلى النقيض توجد أطروحات قبلية تخريبية تحارب الحداثة كما يحدث لأفغانستان والسودان، والنازية والفاشية في مراحلها الأخيرة.



القذافي والقبيلة





استغل السياسي القبيلة في تشكيل وتوحيد الدول من خلال استمالتها لأغراض سياسية، أو إثارتها، أو من خلال التحشيد أو ترجيح جناح على آخر وغير ذلك.
هذا بالفعل ما حدث في بعض البلدان. فالمجتمع الليبي عامة، على سبيل المثال، مجتمع قبلي بطبيعته، هو الذي يتكون من عدد من القبائل المتصاهرة والمتقاربة في العادات والتقاليد. والثقافة القبلية مازالت تتسيد كل من القرى والمدن الكبرى الرئيسة على حد سواء. وقد بثت لنا وسائل الإعلام أخبار تناحر دموي بين مختلف القبائل الليبية إبان الثورة. إلا أن بعض الليبيين يعتقدون أنها ليست سوى لعبة سياسة "قذافية" لخلق الفتنة وتأجيج الصراع بين تلك القبائل المتناحرة، والهدف ضمان استمرار القتال بينها البقاء في الكرسي لأطول فترة ممكنة.
وإذا ما نظرنا إلى دول ما سمي "الربيع العربي"، نجد أن بعض الدول هرعت لصالح الأصولية البدوية والعشائرية خوفا من هدير الثورات. فهل تكون الثورات العربية تهديدا للفرد الذي يلجأ إلى العشيرة للاستقواء في وجه الحروب الأهلية؟

على الرغم من موقف القذافي السلبي الواضح من القبيلة، حيث يراها من مخلفات العهد الملكي الرجعي، لكنه لم يستطع ترويضها لصالح الدولة على الدوام. كان الأمر أشبه بالكر والفر، تارة يلجأ إلى القبيلة حين يمر نظامه بأزمة ثقة، وتارة يلجأ إلى سياسة إثارة العداوات بين القبائل التي لا تظهر ولاء كافيا لنظامه، وهذا ما حدث حين سعى القذافي إلى تحويل مسار الثورة الليبية إلى حرب أهلية.

وهنا تظهر صورة جديدة أصولية لعلاقة القبيلة بالثورة، هل تساعد في تكوين أساس متين لقيام دولة ديمقراطية حديثة تقوم على التعددية، أم تنتظر مصالحها من جديد لتعيد تاريخ سياسي سابق، حكم عليه بالفشل؟. لم تظهر الأيام بعد نتائج مطلقة، لا سيما مع تطور الفكر القبلي والعشائري في العصر الحالي من خلال أفرادهم المثقفين. يذكر الباحث محمد بو طالب في أطروحته عن "سوسيولوجيا القبيلة في المغرب العربي" أن تحطيم القبيلة الذي مارسه الاحتلال الفرنسي في الجزائر كان أحد أسباب تفشّي العنف والراديكالية اللذين ظهرا لاحقاً في المجتمع. فالبنى الاجتماعية التقليدية كالقبيلة كان من الممكن أن يكون لها شأن في حفظ التوازن الاجتماعي بعد صدمة الاحتلال، وهو الأمر الذي حدث لدى المجتمع الليبي المجاور".
هذه الفتن القبائلية تشير إلى أهمية دور القبيلة في استقرار وتماسك الدول التي تقوم على القبلية، وذلك حين تقوم القبيلة بدورها الحيوي. فثقافة القبيلة ودورها عادة ما يبرزان بقوة، في غياب الدولة وضعف مؤسساتها، الدولة بصفتها القاعدة الثابتة الصلبة التي تضمن تطبيق القانون وتقيم العدل والمساواة.

ليس بعيدا عن ليبيا، ينام اليمن على قاعدة من الجمر الملتهب في غياب الدولة ومؤسساتها المدنية. تزاوج الدولة والقبيلة في اليمن أدى إلى فشل سياسي ظاهر. وقد اعتبر تقرير دولي، أن اليمن يواجه العديد من المشكلات الاجتماعية العامة التي تعيق التطور الديمقراطي في اليمن وفي مقدمتها "الثقافة القبلية والنظام الانتخابي الحالي"، وقال: إنها ترفع بضعة رجال أثرياء إلى مواقع السلطة المطلقة علي جميع النساء وأغلبية الرجال". إن حزب المؤتمر الشعبي الحاكم طوّر سياسة إدماج شيوخ القبائل بالسلطات السياسية حتى باتت هذه القوى التقليدية تسيطر على البرلمان من خلاله كحزب حاكم يستمر في تعزيز الوشائج القبلية بسبب ثغرات قانون الانتخابات لينتقل من انتخابات إلى أخرى إلي نظام الحزب الواحد، الذي يصبح التنافس محصوراً بين أعضائه فقط. وانتقد النظام الانتخابي المعمول به في اليمن، وذكر أن فيه الكثير من الثغرات التي لا تنجم عنها نتائج شرعية قانونية مما يعيق التحول الديمقراطي وإنجاز أولويات المجتمع.

القبيلة أساس اجتماعي في كل أرجاء اليمن، فيتباين نفوذ القبيلة السياسي من خلال المشائخ من منطقة لأخرى. للقبائل في اليمن، تقاليدها وأعرافها ومسلحوها، وهو ما ألقى بظلاله على الواقع السياسي ومفهوم الدولة المعاصرة في اليمن، بل إن بعض المناصب الحكومية يتولاها أصحابها حسب ثقلهم العشائري. وحسب كتاب "حرب اليمن 1994.. الأسباب والنتائج"، فإن القبائل الأكبر في اليمن هي قبيلة "مذحج" تليها قبيلة " بكيل" ومن ثم قبيلة "حاشد" وجميعها تتركز في الشمال، فيما تلتحق باقي القبائل في الجنوب بالتجمع الأخير والتي شكلت حتى الأمس القريب أداة حماية النظام.


[caption id="attachment_55243313" align="alignleft" width="300"]قبائل اليمن في مؤتمر بصنعاء قبائل اليمن في مؤتمر بصنعاء[/caption]

وتفيد دراسة للباحث اليمني نزار العبادي أن الإحصائيات تقدر عدد القبائل اليمنية بمائتي قبيلة، وتتمتع القبائل اليمنية بإمكانيات مادية وبشرية، أدت إلى تعاظم تأثيرها على اتجاهات القرار السياسي للدولة، ولا سيما مع واقع انتشار ظاهرة امتلاك السلاح بشكل واسع النطاق في اليمن بين رجال القبائل بوجه خاص، حتى إن بعض قبائل "حاشد" تمتلك وحدها مئات الآلاف من الرجال المسلحين.
أجرى عبد العزيز الحيص الباحث السعودي في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، دراسة بعنوان "القبيلة والديمقراطية: حالة العراق الملكي (1921ـ 1958)". ذكر في خلاصته أن القبيلة، في مرحلة ما "قوّة معارضة للنّظام السّياسي، وربّما، في مرحلة أخرى، تدخل في صراع حادّ بعضها مع بعض من ناحية، أو ضدّ الحكومة من ناحية أخرى، أو يتولّد نوع من التوافق والانسجام بين القبائل والنّخب الحاكمة. وهي حالات أعاقت، في مجملها، استكمال الممارسة الديمقراطية والمدنيّة في العراق.

الدولة الحديثة في العراق ولدت في وقت مبكر من القرن العشرين لتجد أمامها ثقلاً ووجوداً كبيرا للقبائل، سواء بين العرب أو الأكراد. وقد عملت الدولة العثمانية على استخدام القبائل في الحروب والإغارة على جيرانها لتوجيه قوّتها وطاقتها نحو الأعداء الخارجيّين وتحطيم القبيلة. أما البريطانيّون فعملوا على إحياء القبيلة واحتوائها عبر استمالة زعمائها، وتقديم الامتيازات لهم. وفي فترة حكم الملك فيصل، وهو أوّل ملك على العراق الحديث، ركز في سياسته على احتواء القبائل، وجعلها خاضعة للدولة تحت راية وطنية واحدة. وكان المثال الأبرز نجاح التمرّد القبلي في إسقاط وزارات أيّام العراق الملكي.
وأشارت دراسة الحيص إلى أن فشل الممارسة الديمقراطيّة في العراق في تلك الفترة يعود في المقام الأول إلى استبداد النخبة الحاكمة، كما لعب التدخّل والدعم البريطاني دورًا في إخفاق المسار الديمقراطي، لكن القبيلة لعبت أيضاً دوراً مساعداً في ذلك. وتؤكد هذه الدراسة أنّ الدولة العراقيّة الحديثة لم تنجح في نسخ الولاء للقبيلة بالولاء للوطن، ويعود ذلك إلى قوة تجذّر القيم القبليّة إلى جانب تشكّك الناس في سلوك أفراد النخبة الحاكمة، وهو الأمر الذي ينطبق على دول عربيّة أخرى.

يبدو الحديث عن القبلية في بعض الدول، كما أسلفنا، حديثا ذا شجون. إلا أن الحديث عن القبلية في مصر يأخذ منحى آخر ويثير علامات استفهام جمة وعجيبة. أخرجت لنا الثورة المصرية عناوين صحف غير مألوفة نوعا ما، إلا أنها تثير تساؤلات جمة حول مستقبل مفهوم الدولة المدنية الحديثة في مصر، هي المحكومة الآن بقبضة الإخوان المسلمين الذين يسعون إلى سن مفهوم الخلافة "الإسلامية" في مصر والمنطقة. يقول أحد العناوين: (حكم "عرفي" بتهجير ثماني أسر مسيحية وبيع منازلهم)، وذلك بسبب حادث "فردي" أو علاقة ما بين مسيحي ومسلمة. والمقلق أن هذا الحكم اشتركت فيه السلطات التنفيذية ممثلة في المحافظ والسلطة التشريعية المتمثلة في نائب الدائرة المنتمي إلى حزب النور السلفي. أما الآخر هو معركة بالأسلحة الآلية بين قبيلتي الأشراف والحميدات بـ(قنا) سقط فيها أكثر من عشرة قتلى والحادث لم يكن سوى عمل فردي وهو عبارة عن "شجار بين سائقين".



من التمثيلية إلى الرمزية





حين تحولت المجتمعات من القبلية إلى المدنية، تحولت الثقافة القبلية تدريجيا من الانتماء التمثيلي إلى الانتماء الرمزي. وفي الخليج حيث البنى الاجتماعية والظروف تتشابه، فإن الهوية الوطنية الحديثة جاءت لتكمل الهوية القبلية التي احتفظ بها أصحابها، ولكن عن طريق توحيد للمجتمع بثقافة جديدة متكاملة، تتكيف مع التحديث الجديد، وهو الانتقال من مفهوم القبيلة إلى مفهوم الوطن في ظل مشتركات راسخة. وقد كان للقبيلة دور إيجابي في منطقة الخليج، ولعبت أدوارا تاريخية ساعدت على تأسيس وقيام الدول. وكذلك في العالم العربي، إلا أن دخولها كحزب سياسي كان له بعض التبعات.

في عالمنا العربي اليوم، السؤال الأول الذي يبدأ فيه المتحدث للتعرف على الآخرين يتراوح بين الأصل والقبيلة والعرق والدين والمذهب. والأجوبة فقط هي ما ستحدد نوع العلاقة، ونوع الحديث، ونوع الاحترام، ونوع السلوك الوجداني. وقد لمّح الدكتور الناقد عبد الله الغذامي إلى محاولة إحياء الثقافة القبلية من قبل جيل جديد، وذلك في كتابه حكاية الحداثة. وفي مقالة سابقة له بعنوان "إعادة اكتشاف القبيلة" في "عكاظ" الثامن من مايو (أيار) 2008 يعتقد "أن مرحلة ما بعد الحداثة أيقظت المخاوف وفتحت الأبواب لعودة الهويات الأصولية، وأعادت اكتشاف القبيلة من جديد، حتى جعلت الحكومات تعتبرها نزعة تتعارض مع أنظمتها ومناهجها أو سببا من أسباب خلق الفوضى وتفشي الجهل في المجتمع ومؤسسات الدولة، فضلا عن المحسوبية والوساطات والفساد الإداري والاستهانة بالأنظمة والقوانين".

كما ظهرت في العقد الأخير من القرن المنصرم أفكار "الإرهاب" تحت قناع الجهاد الإسلامي، وسعى قادة "القاعدة" إلى تجميل هذا المسعى تحت وحدة الهدف الدينية شكليا، من خلال تحويل هوية هؤلاء الشباب وانتمائهم وولائهم إلى الوطني إلى طارئ جديد. كانت هذه الثقافة الطارئة والمضللة قد ترافقت وظهور العولمة، فلم يجد بعض الشباب سوى اللجوء إلى متكأ أكثر أمانا وصلابة وهو إعادة روح القبلية. وعلى الرغم من كل ذلك، إلا أنه عادة ما يتفق غالب المثقفين السعوديين على إيجابية دور القبيلة في السعودية. فلو حدث أن سألت مثقفا ما عن سلبية أو إيجابية القبيلة، سينبري عاجلا بالرد "من المؤكد أن دور القبيلة في الخليج أيضا إيجابي من الناحية السياسية"، وسيعدد مناقب القبيلة المتفق عليها. هذا بالضبط ما قاله لي الأستاذ المؤرخ محمد السيف.

وفي حلقة من برنامج "حراك" الذي يبث عبر قناة "فور شباب"، ناقش فيها الإعلامي عبد العزيز قاسم مع ضيوفه دور القبلية في "الربيع العربي"، وكان السؤال: هل انتهى بالفعل دور القبيلة في خضم هذه الثورات والاضطرابات؟. وقد انتقد الدكتور محمد بن صنيتان الحربي - رئيس مركز ساس الوطني للبحوث واستطلاع الرأي- في البرنامج تخويف البعض من القبلية، واستخدامها كفزاعة لتخويف المجتمع، بقوله: "القبيلة موجودة ولا يمكن أن تموت، وهي متجذرة في مجتمعنا، وللأسف حصل تخويف من القبيلة، وتشويه لكثير من تاريخها".
أما الدكتور عبد الرحمن حبيب، - الكاتب الصحافي - فقال إن "الربيع العربي" لم يقض على القبيلة بالمعنى الحرفي، ولكنه أنهى دورها الرئيس في توجيه الأحداث، ولم يعد لها دور سياسي مؤثر في المجتمع، وأكد أن القبيلة ليست ضد المدنية، بل يمكن اعتبارها من مؤسسات المجتمع المدني. وذكر بأن الصحوة حاولت أن "تستغل القبيلة وتدخل من خلالها، مثلها في ذلك مثل التيارات الأخرى كالتيار الناصري واليساري.. وغيرهما".
font change