لحظة الحقيقة.. ورصاص القذافي

لحظة الحقيقة.. ورصاص القذافي

[caption id="attachment_55243498" align="aligncenter" width="620"]الشعب الليبي أطاح بالقذافي وثورته الشعب الليبي أطاح بالقذافي وثورته[/caption]


صيف 2011 لفتني الغلاف الأخير لمجلة "تايم" يحمل آنجِلينا جولي مبحرة في رحلة نهرية، فإذا بي أُبحِر للحظات مع نظرات سابحة في الفضاء اللامحدود للسيدة ذات الحُسن وسفيرة النيّات الحسنة، ثم انتبه لعبارة سأعتبرها، صحافياً، عنوان ذلك الغلاف:
A single journey can change the course of a life
بالتأكيد: رحلة ما قد تغيّر مسار حياة. ها أنذا، أحتل مقعدي بقطار لندني، أتصفح سيدة المجلات الإخبارية الصادرة بالإنجليزية - في رأيي - ولعل ذلك ما كان سيتاح لولا رحلتي من الإسكندرية الى بنغازي، حيث ألتقي الأستاذ رشاد بشير الهوني فألتحق بجريدة "الحقيقة"، ويرحل هو إلى بيروت، ثم لندن حيث يتمكن بالشراكة مع الأستاذ أحمد الصالحين الهوني، من تحقيق حلم إصدار صحيفة "العرب" وفيها التحق به من جديد.

رحلة تلد رحلات، لأن مسار الحياة تغيّر. لماذا هاجر رشاد الهوني، وهو مع شقيقه الأستاذ محمد بشير الهوني، يملكان واحدة من أهم صحف بلدهما، إن لم تكن الأهم على الإطلاق، لكنها بالتأكيد كانت تدار بعقلية مستقبلية سباقة لغيرها، حتى على المستوى العربي، إذ كانت دار "الحقيقة" على مشارف البدء بطبع الصحيفة يومياً في تونس والمغرب، إلى جانب طرابلس وبنغازي، ولو تحقق ذلك، لكانت التجربة الأولى من نوعها في الصحافة العربية.

سؤال: لماذا لم يتحقق؟ جواب: قبل تبيّن الأبيض من الأسود، فجر الإثنين أول سبتمبر 1969، ربما بين الثانية والثالثة، غادرت مقر دار "الحقيقة" واتخذت قدماي طريقها المألوف، إذ أخطو بضع خطوات في شارع عريض ألتف بعدها إلى زقاق يوصلني لدارةٍ كنت أسكنها مع عُزّابٍ آخرين من زملائي في الجريدة.
ابتعدت قليلاً عن المبنى، أمشي مُطرق الرأس وقد اشتد تعب السهر، وزاغ البصر لكثرة مراجعة بروفات صفحات كانت تُطبع على ورق مبلل، ونستعين بأقلام "كوبيا" لتصحيح ما تحمل من أخطاء، إذ تلك حالتي فوجئت بصعقة صوت آمرٍ بغضب: قِفْ. ما كلمة السِر؟ توقفت، ثم تسمّرت بهلع إذ انتبهت أنني أقف أمام جندي أصبعه على زناد رشاش مصوب نحوي، حزام طلقات يطوّق رقبته ليتدلى من كتفيه، وإذ استعيد الآن المشهد يتمثّل لي كما سيلفيستر ستالون في دور رامبو.

مرّت لحظات صمت ثقيل، ثم عاد الجندي يزمجر: كلمة السر؟ تمالكت أعصابي، بل أذكر أنني ابتسمت، قلت متسائلاً بلهجة ليبية: سِر شِنو؟ يبدو انه أدرك انني غير ليبي، وأنني غير مدرك لما يجري، لكنه أصر على الصراخ بغضب: باهي، مَن أنت؟ أجبت: أنا بكر عويضه. ومن فوري أدركت أنني ربما تثاقلت أكثر من اللازم، فاستبقت تزايد غضبه، بتوضيح طبيعة عملي وأشرت إلى مبنى الجريدة، فقاطعني: وين ماشي؟ أجبت، فعاجلني بالأمر: هيا، هيا، فيسع (بسرعة) فيسع.

ذاك الجندي كان من معسكر للجيش في ضاحية الفويهات الهادئة في بنغازي، وأظنه كان يحمل اسمها، أو ربما إسم معسكر البِركة، نسبة الى حي شعبي الضاحية جزء منه.
بعد ظهر ذاك النهار، كنت أقف إلى جانب رشاد الهوني على شرفة في الطابق الأول، حيث مكتبه، فقال مبتسماً، بعدما استمع إلى حكايتي مع الجندي: باهي، ربي ستر.
ثم قطب جبينه: البلاد ضاعت يا بكر.

[caption id="attachment_55243499" align="alignleft" width="260"]عبد الفتاح يونس عبد الفتاح يونس[/caption]

كنت أسرعت الخطى، أنفذ أوامر الجندي، عائدا الى الدارة. أقفلت الباب خلفي أفكر في ما جرى، لم يكن ذلك مألوفاً. الجيش الليبي لم يكن له أي حضور في شوارع المدن الليبية، على نقيض مدن مثل القاهرة، دمشق، أو بغداد، حيث المظهر العسكري جزء من الحياة اليومية. خطر لي أن أوقظ رفاق السكن (السنوسي بشير الهوني، والشاعر الغنائي الليبي المبدع أحمد الحريري - لست متأكداً إن كان معنا تلك الليلة - بالاضافة الى نور الدين الزراري، وهو صحافي فلسطيني كان مُعاراً من جريدة "الجمهورية" القاهرية)، لكنني استبعدت الأمر. لم يمض وقت طويل حتى ايقظتني من شبه النوم أصوات الرفاق فنهضت، وفي الصالون كان ثلاثتهم متحلقين حول جهاز راديو، قالوا بصوت واحد تقريباً: انقلاب عسكري.
لن أنسى كيف أجبتهم ببرود: أعرف.

وكانت تلك مزحة ثقيلة، إنما لعلها من تأثير ما جرى مع الجندي، وسأظل أذكر ملامح الدهشة التي اعتلت وجوههم، فسارعت الى رواية ما حصل لي مع الجندي، ورحنا نتابع مارشات الموسيقى العسكرية وبلاغات مجلس قيادة الثورة، ومنها كان بلاغ بوقف صدور الصحف حتى إشعار آخر.

إجازة إجبارية، لكنها لحسن الحظ لم تطل. بعد ثلاثة أيام، أو أربعة، لست متأكداً استأنفنا العمل. أذكر أول تغطية صحافية ميدانية كانت لأول ظهور علني لمن تعرفنا عليه بالإسم فقط، معمر القذافي. كان ذلك يوم الثلاثاء 16 سبتمبر، وكانت المناسبة إحياء ذكرى استشهاد عمر المختار، فتوجهت مع الصحافي محمد علي الشويهدي، والمصور مصطفى التركي إلى المكان المخصص للحفل، من دون علم مسبق بأن القذافي سيظهر. كانت مفاجأة بالفعل، وبالطبع حصل نوع من الانفعال غير العادي بين الحاضرين، وتخلل الأمر إطلاق زخات من أعيرة نارية في الهواء، زميلنا المصور أصابه شيء من الهلع، رغم الافتراض انه معتاد على هكذا أمر في بلده مصر، لكن زميلنا الشويهدي (سيصبح لاحقاً وزير إعلام وثقافة ثم أميناً للمكتبة الوطنية في بنغازي) راح يخفف عن الزميل المرتعب، فداعبه: متخفش يا استاذ مصطفى، ده رصاص فيشينك.
ذلك "الفيشينك"، أو الخايب، أو الفارغ، سمه ما شئت، صار في ما بعد يضرب بالمليان، كما يقال، من دون تمييز أو محاباة حتى لبعض رفاق قيادة الثورة.

من أولئك الرفاق عبد الفتاح يونس، الذي لم يفارق معمر القذافي حتى انفجار ثورة 17 فبراير 2011 فانحاز إليها قائدا، ثم قُتِل في ظروف ما تزال غامضة. كان الملازم أول عبد الفتاح يونس يحتل مكتب رشاد الهوني ليلاً ليطلع على صفحات الجريدة كمراقب ثم يأذن بالطبع. ذات ليلة ألغى صفحة بأكملها. كنتُ مع أحمد الحريري (وربما محمد أحمد وريّث) وبالتأكيد استاذنا جميعنا، قاسم حماد، نشرف على إنجاز العدد. لم تكن لدينا مواد بديلة جاهزة، ولا حتى صور، وهذه كان إعدادها يستغرق زمن حفر الكليشيهات وقتا طويلا. اقترحنا على الضابط يونس ترك الصفحة بيضاء. رفض. خرج أحمد الحريري من المكتب، وأشار لي من خلف الزجاج فاستأذنت ولحقت به، نزلنا إلى الطابق الأرضي حيث آلات الصف بالرصاص (اللينوتايب) قال أحمد للصفيف أكتب: "هذه الصفحة غُسِلت بمسحوق تايد.. الأكثر نظافة". كتب، خرجت أسطر الرصاص ساخنة، أحكموها داخل إطار الصفحة الحديدي، طبعنا بروفة، حملناها الى الضابط المتقمص شخص رئيس التحرير، قال: شنو هذا؟ أجاب أحمد، بلا تردد: إعلان سيدي، لمسحوق تايد. صمت عبد الفتاح يونس برهة، ثم أصدر القرار: باهي، مشّوها!

صباح اليوم التالي، انفجر رشاد الهوني وبقية الزملاء في ضحك صاخب. إنما، حكم معمر القذافي، فما أضحك بل أبكى وسحق برصاص غير ذاك الذي يخرج من آلات اللينوتايب، بل من رشاشات الموت، حتى أتت لحظة الحقيقة، وقد جاءت بالفعل، وحتى جريدة "الحقيقة" عادت للصدور، ولو من دون محمد ورشاد بشير الهوني، لعل نفس كل منهما تطيب برحمة من ربهما، إذ يرقد منهما الجسد في تراب بنغازي ذاتها.
font change