هل انطفأت شعلة "الربيع"؟

هل انطفأت شعلة "الربيع"؟

[caption id="attachment_55244311" align="aligncenter" width="620"]ثوار الأمس عادوا للميادين للاحتجاج على سياسات الحكام الجدد ثوار الأمس عادوا للميادين للاحتجاج على سياسات الحكام الجدد[/caption]




محظوظ ربما من شهد هذا العصر، فأحداثه تجعلك تحيا مع التاريخ جنبا إلى جنب، تتأمل حركته الحية، لا الميتة في كتب زيفها أكثر من صدقها، وربما منكوب من شهده أيضا لأن ما توقع بالعقل، نتج عنه ما لا يعقل، حتى الآن على الأقل.
يرى البعض أنه في غضون السنتين تغيير كل شيء، ويرى آخرون أن شيئا لم يتغير في الوقت نفسه، حدث التغيير عندما نتحدث عن الإمساك بالسلطة، ولم يتغير شيء عند الحديث عن استخدام السلطة، وما زلنا نشهد تداعيات ما حدث حولنا وتفاعلاته التي تتشكل، دون أن نستطيع قياسها على ما مر من أحداث التاريخ، ليس في منطقنا، ولكن في العالم.

أي محاولة للقياس – في نظري – قاصرة، فعوامل التحريك والتفكيك مختلفة كل الاختلاف عما سبق، وهذا أول تحد يواجه نقاشنا في هذه المقالة، يرى البعض أن اللاعبين تغيروا، ولكن قواعد اللعبة تحتاج ربما إلى وقت حتى تتغير، ويرى آخرون أن قواعد اللعبة لن تتغير، فهي مسندة إلى وعي ثقافي لم تتغير بعد معطياته!

فالثقافة العربية – حتى الآن – لم تهضم فكرة تداول السلطة سلميا، أو مشاركة الجميع في تسيير سفينة الوطن، خاصة إذا عدّ أحد أنه مفوض ليس من الشعب فقط، ولكن من الله أيضا.
تفاعلات عميقة حولنا في بلاد "الربيع العربي"، خلفت في شكلها الآني: ضعفا في التساند العربي، وتفكيكا في آلياته، ووضعا اقتصاديا في وطن الربيع، يسير إلى التدهور، قتال الإخوة الأعداء على الساحة الوطنية، نذرا طائفية شرسة، فوضى ومذابح وتدمير مدن، وصل تعداد ضحاياها في المجمل إلى أكثر من مائة وخمسين ألف ضحية، بين سوريا ومصر وليبيا واليمين، وملايين المشردين.



وضع لا يسرّ





باختصار ما من دليل مقنع – حتى الآن – على أن دول الربيع قد طالها السلم الاجتماعي، أو المصالحة الوطنية، أو الحوكمة الرشيدة، ولا حتى تحسن في المعيشة، ناهيك عن الديمقراطية الحقيقية المرتجاة.

المتفائلون يتحدثون عن مرحلة انتقالية مؤقتة، وتفاعلات صعبة، ولكنها قد تنتج في نهاية المطاف، فضاء أرحب للعرب في المستقبل، وهو تفاؤل أرى أن كل المعطيات – حتى الآن – تبقيه في جانب التوقع الإيجابي، ولكن ليس دليلا ماديا على الأرض يقنع العاقل بوجوبه. المتشائمون يرون أن هناك (ثقافة) استبداد راسخة في عقل العربي، وهي التي تهمش الآخر في الوطن، وتسعى إلى الاستحواذ الكامل على السلطة، وإن هذا سوف يقود إلى صراع ظهرت نذره في أكثر من عاصمة، فلا مصر ولا تونس ولا ليبيا ولا اليمن ولا حتى سوريا، قريبة من الاستقرار.
وجهات النظر لا تستقر على حال، بل الأكثر غرابة أن هناك من القوى الإقليمية (مثل ايران) ما تؤيد التغيير في مكان، وتعارضه في مكان آخر، وهناك من يرى الموضوع برمته وكانه (مؤامرة) أو حلم مزعج سرعان ما نفيق منه جميعا.

النظام العربي ككل في حال صيرورة، البعض يرى أن من لم يطلها "الربيع العربي" من الدول، أصبحت في منئ منه، بسب النتائج الأولية التي ظهرت في بلدان الربيع، إلى درجة أن بعض القطعات الشعبية في تلك البلدان تعض على بنان الندم، انها أصلا أيدت التغيير الذي لم تكن تتوقع أن يصل إلى هذا المصير، وهناك بعض المحللين العرب وغيرهم الذين يعتقدون أن "الموجة الربيعية" قادمة لا محالة، وأن لا أحد في المحيط العربي أو حتى في جواره سوف يسلم من هذه الموجه العاتية.

لا نستطيع أن نأخذ مسطرة ونضبط بها أسباب ما حدث ويحدث، ولكن نستطيع أن نقول بشيء من الثقة، إن الـDNA أو الجينات المشتركة للأحداث التي قادت إلى كل هذه التداعيات متشابهة في كل تلك البلدان، ولكني أرى أن أهم الأسباب اتساع "الحُقرة" معاملة واستبدال المواطنة بالرعية، وتطبيق ما سمي ديمقراطية على طريقة "قل ما تشاء، سوف أفعل ما أريد" وسرعان ما تبنت الأنظمة التي ورثت الأنظمة السابقة الفكرة نفسها في التجربة المصرية والتونسية، هذا الأمر واضح المعالم في السنتين الأخيرتين.



تعسف متوارث





القصة نعرفها جميعا، ففي 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010، وقف شخص تونسي دون الثلاثين عاما، في منطقة فقيرة يسكب على نفسه لترا من الكيروسين، ويشعل النار في نفسه، احتجاجا على ما عاناه من تعسف قاهر من شرطية استمدت تعسفها من الوالي، الذي هو بدوره استمد تعسفه من الحاكم في قرطاج. وفي حادثة مشابهة، شخص آخر هو خالد محمد سعيد صبحي قاسم، الذي اشتهر باسم خالد سعيد من مدينة الإسكندرية، ذو الثماني والعشرين ربيعا، يُقتل صبرا، بعد تعذيب من قبل شرطيين من المباحث، استمدا سلطتهما المتعسفة من مرجعية اعتمدت على قانون مستبد، كان يُدعى قانون الطوارئ، استحسنه نظام مستبد قرره على الشعب المصري لثلاثين عاما، نستطيع أن نظيف إلى ذلك أطفال درعا الذين طالهم القهر المستبد من قصر المهاجرين، في صورة ضابط تصرف بصلافة.

الكل محمد وخالد وأطفال درعا، لم يبلغ أي منهم الثلاثين من العمر، وهم جميعا يمثلون جيلا كاملا خضع للقهر الأسود فقهروه بطريقتهم. ولكن الأسئلة ما زالت قائمة، هل ما حدث هو الشرارة، وأن هناك أسبابا اكثر عمقا من الظاهر؟ هل وصلنا إلى النتيجة المرادة – رفع القهر – أم هو يتشكل في الأنظمة الجديدة على صور أخرى؟
إذا لم ينتج من كل تلك التداعيات رفع القهر واستبدال "الحُقرة" بالمواطنة، والاستبداد بالديمقراطية، وترميم التشوهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الظاهرة، واستدعاء الغائب في مجتمعاتنا للمشاركة في رسم مستقبله، فإننا سوف نظل في بؤرة الإحباط، التي تفاقمها اليوم ثورة الاتصال والمواصلات غير المسبوقة في التاريخ الانساني من جهة، وتردي الوضع الاقتصادي من جهة أخرى.
حتى الآن لم يتدارس أحد بوعي طرق ووسائل معرفة عوامل الإحباط، التي سادت في السنوات الأخيرة، وتمكنت من المواطن العربي، ولم تدرس طرق ووسائل تفاديها قبل أن يقع المحذور، ونعود إلى المربع الأول. نتطلع إلى ضوء الأمل من دون أن ننسى أن العتمة ممكنة الحدوث.
نعم العتمة.. فما يجري اليوم في بلاد الربيع أو على الأقل تلك التي تم التغيير فيها، لا يبشر بخير، لقد سمعت على محطات الإعلام المصري من ينادي "بتدخل العسكر" من جديد، ولا أرى أن ذلك هو الحل، كما استمعنا حتى إلى أصوات تنادي بعودة "رجال الأمس" لأنهم على الأقل حققوا شيئا من الأمن!

[caption id="attachment_55244313" align="alignleft" width="300"]دول الربيع.. غياب للأمن وشكوك حول المستقبل دول الربيع.. غياب للأمن وشكوك حول المستقبل[/caption]


حقيقة الأمر أن من قام بالحراك الكبير، هم أولئك المجاميع الشبابية التي أحست لفترة طويلة بالتهميش، وكان الرابط الأساسي فيما بينهم هو "الفضاء الإلكتروني"، وبالتالي خرجوا إلى الساحات والشوارع والميادين مطالبين بالتغيير، على قاعدة انه تغيير يأتي بالحرية، وشيء من حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، لقد تم ذلك بالفعل، ولكن لأن أولئك المجاميع غير منظمين، ما ان تراجعت قوة وسلطة "النظام القديم" حتى قفز إلى الساحة، الجماعات المنظمة – رغم أقليتها العددية - (جماعة الإخوان المسلمين في مصر- والنهضة في تونس) وكلتاهما تشرب من نفس إناء ثقافي تنظيمي تراثي مشترك.
في ليبيبا ربما تنتهي الأمور أيضا بأن يحوز فريق منظم مثيل لما في مصر وتونس، أما في اليمين فمازال الأمر معلقا بين نظام سابق لم يلفظ أنفاسه – بسبب ركونه إلى القبيلة – ونواة حديثة أيضا غير منظمة.



بيت القصيد





بيت القصيد أن "الأقلية المنظمة" قفزت على السلطة أو تستعد للقفز عليها، واستولت على مقدرات الدولة، وهي الآن تناور من أجل أولا الاحتفاظ بالسلطة حتى تستقر لها، ومن ثم اخضاع المجتمع إلى مشروعها، وهو مشروع ينظر معظم الوقت إلى المرآة العاكسة في السيارة، ولا ينظر إلى مخاطر الطريق أمامه، يرفع شعار له نكهة دينية – وهي ايديولوجية الجماهير – من دون وضوح رؤية لحوكمة رشيدة وحديثة.

هذا ما يجرى حولنا من صراع سمته الآنية "كر وفر"، ولكن مظهره هو من جديد استخدام الأدوات القديمة في تكميم الأفواه، وعدم ترك مساحة للآخر للمشاركة.
الآن هل هذه مرحلة مؤقتة أم دائمة؟ هناك رهان نظري على ذلك، ولكني أتعقد أن الأمور سوف تزداد سوءا قبل أي ابلاج لفجر.
من هنا أعود مع القارئ الكريم إلى مقال نشرته في صحيفة "الشرق الأوسط" في 17 يناير عام 2012 بعنوان "إني متشائم"، أعلق فيه على نتائج الأحداث في ذلك الوقت المبكر، ومما جاء في المقال:

(أمام تلك الخيارات الصعبة، التي تقف أمام الحكام الجدد)، يقف القادمون الجدد إلى الحكم في البلاد العربية، الذين وصلوا بالفعل – جراء «الربيع العربي» – أو المقدر لهم الوصول، يقفون أمام المعضلة الاقتصادية - السياسية التي أفلسها العسكر مشدوهين أمام العجز الاقتصادي الهائل في بلدانهم، والفقر السياسي في الممارسة.. فنرى على سبيل المثال لا الحصر، المجموعة التي وصلت إلى الحكم في تونس تقف أمام الاستحقاق الاقتصادي من دون أن تعرف أي الطرق تسلك.. أهو طريق الآيديولوجيا القادمة من التاريخ المشوشة المنطق، وتحاول إسقاطها على الحاضر، من أجل أن تستنبط منها ما يلائم القيام بالمهمات الاقتصادية العاجلة، وهي تشغيل العاطلين وتعميق برامج التعليم من أجل مواجهة التحديات وتوزيع ثمار التنمية؟ كل ذلك يتطلب البعد عن الرومانسية التاريخية التي كانت تقول بها المعارضة، سواء كانت في اليمين أو اليسار العربيين. فالسياحة ركن مهم من أركان الموارد في تونس ومصر، ولها شروط اقتصادية واجتماعية واجب الخضوع لها، كما أن تدفق رأس المال الخارجي المطلوب بإلحاح للمساعدة له شروط قانونية وسياسية واجتماعية وأمنية واجبة لا فكاك منها.. بالخضوع لها يعني تفكك الآيديولوجيا من هيكلها الجامد، ولعل المثال التونسي يشابه إلى حد كبير المثال المصري، وأيضا المثال الليبي واليمني، وإن اختلفت بعض العوامل المحلية، كما يمكن أن ينطبق على المثال السوري في المستقبل، أي ان ضرورات الاقتصاد سوف تقلل مرتكزات الآيديولوجيا، أو أن الآيديولوجيا سوف تمحق الاقتصاد والمجتمع المدني معا.



أحزمة البؤس





هنا نجد أن التصور الآيديولوجي للحكم الجديد، يتصادم مع المتطلبات الأولى لفك أحزمة البؤس العربية حول المدن التي تكاثرت في العقود الثلاثة الأخيرة تكاثر الفطر في أرض رطبة في بلاد «الربيع».
والحق يقال إن ذلك التكاثر ليس حكرا عليها. والمعسول من التمنيات لا يغني عن الخبز في نهاية اليوم الشاق لـ«الربيع العربي»، وهناك اليوم أصوات تقول لقد انتهى «الجهاد الأصغر» فحي على «الجهاد الأكبر»، إلا أن الجهاد الأكبر المطلوب لا يشتمل على تصور حقيقي وواقعي لحل المشكلات الإنسانية المتراكمة في المجالين الاقتصادي والسياسي، وما هو ممكن أن يسير باتجاه عكسي لما كان متخيلا، وقد قبل شعبيا من قوى حملتها المعارضة المناهضة لأنظمة العسكر السابقة.
من هنا فإن الضحية الأولى لهذا التعارض بين ما قد قيل على الورق، وأطعم الجماهير الشعارات، لما كانت هذه القوى في المعارضة، وبين الواقع المعيش.
الضحية الأولى في تصوري هي الحريات بمعناها الواسع، فليس أمام القوى الحاكمة الجديدة إلا إطعام الجماهير مؤقتا، المزيد من الشعارات التي تغلب شعارات حق المحرومين في ما استحوذ عليه الطغاة السابقون، ولكن هذه الشعارات قصيرة الأمد، وقد يلجأ الحكام الجدد من أجل البقاء في أماكن السلطة العالية إلى سلب الحريات شيئا فشيئا، وتغيير التوجهات عن طريق إثارة الغرائز الفاشية ضد الشريك في الوطن أو الآخر خارج الحدود.

في المدى القصير قد تنجح تلك الاستراتيجية في إلهاء الناس، حيث يكون هناك بقية من سخط على أنظمة العسكر المتهاوية، ولكنها في المدى المتوسط والطويل النسبي سوف تجد نفسها في نفس موقع العسكر السابقين، الخبز مقابل الحرية الأقل.
أكتب هذا لأقول إننا أحوج ما نكون اليوم – كعرب – إلى فتح باب النقاش على مصراعيه، نقاش يرتكز على محاولة البحث عن إجابات عن أسئلة مركزية يتقدمها السؤال الأهم، وهو: كيف توازن الأنظمة الجديدة بين توفير الخبز، وتوفير الكرامة في آن واحد؟ يبدو السؤال للبعض جانبيا، ولكنه هو سؤال القرن الحادي والعشرين العربي.. فهل من مجيب؟ (تم النقل وهذا ما كتبت قبل سنة وشهرين وما زال الموقف كما هو، وقد سار كما توقعت).

طالبت بإطلاق الحريات وقتها، فهو الطريق الأسلم للمفاصلة مع الماضي، ولكن لم يستجب أحد، ولا أعتقد أن أحدا سوف يستجيب، بل إن مشاريع القوانين التي تظهر الآن هي باتجاه الضغط على الحريات في دول "الربيع العربي" المفترض.
font change