سائق التاكسي.. عالِم

سائق التاكسي.. عالِم

[caption id="attachment_55244547" align="aligncenter" width="620"]تاكسي لندن الأسود تاكسي لندن الأسود[/caption]



تشاء الأقدار أن تلتقي خلال مشوار ما، من يحاورك بأمور لا يخطر على البال أن يجري التطرق إليها مع سائق تاكسي. كنت، نهار الجمعة الماضي، في سيارة أجرة تقطع بي الطريق عائدا للبيت بعد مشاركة بحلقة من «سبعة أيام»، أدارتها باقتدار نجلاء أبو مرعي، مقدمة البرامج بمحطة «بي بي سي» العربية، وشارك فيها كل من كارل شرو، خالد الشامي، وحميد غل شريف. كنا ما نزال في أول الرحلة، عندما التفت السائق إلي يسألني: أصحافي أنت؟ نعم، أجبت. عاد يسأل: أكنت في مقابلة معك؟ باختصار، أوضحت له المسألة. كأنه لم يقتنع، أو يقنع، فعاود السؤال إنما غير الدفة، قال: كيف ترى الأوضاع؟ سألت بدوري: أي أوضاع، ماذا تقصد؟ أجاب بلا تردد: أعني المجتمع، الاقتصاد، مثلا. قلت: الوضع صعب، الكل يعاني. عاجلني بنوع من الحسم: على كل حال النهاية قريبة. ساد الصمت بضع دقائق خلت خلالها أنني بصحبة أحدهم، أولئك الذين لا ينفكون يعلموننا أنهم يعلمون موعد نهاية العالم، ولا يكفون عن الناس أزَّ زعيقهم من كل مذياع وتلفزيون، متوعدين البشر بدمار كوكبهم المعمور، خلال سبع ليال، أو ثمانية أيام، ثم تمر مواعيدهم المضروبة في الخيال، فلا يحصل للعالم شيء مما صدع وهمهم من توقع فصدعوا رؤوسنا به.
أيقظني من تلك السرحة صاحبي إذ فاجأني بالقول: العالم بحاجة إلى نظام جديد. وقبل أن أستفهم ما يقصد، واصل: مع وصول علوم التكنولوجيا ما وصلت من تقدم، لم يبق أمام ثورة «الآي تي» (IT) إلا توصل البشر إلى سر الخلق.
لفت انتباهي ما سمعت، لكنني بشيء من الهمهمة اكتفيت، فسارع هو يفاجئني باستفسار: هل تعرف الجزيئات؟
احترت للحظة بم أجيب، ثم قلت: أسمع عنها.
عاد فسأل: ماذا عن الذرة كم تعرف عنها؟
بلا تردد رددت: لا شيء.
ابتسم، مواصلا يستفهم: لكنك تعلم ما هي المادة أليس كذلك.
أحرجني، فقلت: نعم، إنما ليس كثيرا، ثم إنني عاجلته قبل أن يهجم بالمقبل من أسئلته، فقلت: هذه مسائل ليست من اختصاصي، على كل حال، لم تسألني عنها.
لمحت ابتسامته تتسع إذ يرد بما لم أتوقع: سؤال أخير، أتعلم لماذا سموها سوداء؟
قلت: ما هي تلك السوداء؟
قال: المادة السوداء.
أجبت، وقد بدأ صبري ينفد، بالنفي: كلا.
أجاب هو: أتريد أن تعلم؟
قلت، ولا أدري إن أدرك هو أنني بدأت أشعر بالملل: نعم، من فضلك نورني.
وبما يشبه صيحة إسحاق نيوتن عندما سقطت التفاحة فوق رأسه، راح هو يصيح: ها هي.. ها هي، لم يكتشفوا النور في ذلك الثقب فسموه أسود، هذا كل ما في الأمر.
ثم إنه انطلق يشرح لي معنى الجزيئات، الذرة، ضرورة فهم ماهية المادة السوداء، وارتباط ذلك كله بهندسة الكون، وانتظام مجراته، وحركة كواكبه، وانتهى بمحاضرته تلك إلى أن الإنسان نفسه جزء من شمولية الخلق، وبالتالي فهو (الإنسان) من دون نور يتصل به ويتواصل معه، لن يفهم معنى الخلق ولا حتمية وجود الخالق.
كنت أسمع محاولا أن ألحق به، إذ يشرح بسرعة صاروخية. وفيما أحاول أن أفهم، شعرت أنني لم أستطع وقف تساؤل راح يدق جدران دماغي: أكل هذا ينطق به سائق تاكسي؟ وعلى الفور كأنما أدرك ما يدور برأسي، قال مبتسما: أنا ساينتست (عالم) أعمل سائق سيارة أجرة، كما ترى.
هززت رأسي، ومرة أخرى، كأنما عرف أنني لم أقتنع، بادر فقال: هذا اختياري.
قلت: يبدو ذلك، إذ من الواضح أنك كنت تستطيع الحصول على عمل يناسب علمك.
هز هو رأسه مرتين، نحو اليمين ثم إلى الشمال، يقصد النفي، ثم قال: وظيفة السائق هذه تناسبني أيضا، أقابل كثيرين، ومن أشعر أن بإمكاني التحاور معهم أحاورهم، أستفيد منهم، وأفيدهم، إن استطعت.
ثم كأنه لمح أيضا ملامح عدم اقتناع تام من جانبي، فسارع يوضح: شغفت بمواضيع الفيزياء والكيمياء منذ دراستي الثانوية، وأقبلت على التوسع بدراستهما خلال الجامعة، لكنني لست أحمل درجة علمية تؤهلني للعمل بصفة عالم.
أكبرت فيه صدق المصارحة والصدق، وساد الصمت من جديد قبل أن يعود ليسأل: أتمانع إن سألتك من أين هو أصلك؟ قلت: كلا، أنا من فلسطين، وأنت؟
ألقيت تساؤلي، رغم أن الرجل الخمسيني يبدو كما أي إنجليزي، ويتحدث بلا أي لكنة أجنبية، إنما ثمة إحساس ساورني، وبادر هو فتحداني: حاول أن تخمن؟
حاولت مترددا: اليونان؟
ابتسم، قائلا: أنا مولود هنا، لكن أبوي يونانيان.
أجبت: نحن إذن جيران، أعني من حيث الجغرافيا.
قال: نعم، بلدان على ساحل المتوسط.
قلت: أكثر من ذلك، تاريخيا، بعض قدماء الفلسطينيين يتحدرون من جزيرة كريت، وبالتالي ربما هناك جينات مشتركة.
أجاب: ممكن، إنما يجب أن لا تنسى بني البشر أجمعين تجمعهم قواسم جينية مشتركة، المهم أن يجمعهم ذلك النور.. راح يكررها مرات عدة.
وصلنا نهاية المشوار. أمام باب بيتي أخرج الموبايل من جيبه، راح يتصفحه بسرعة، توقف عند صورة عينين مغمضتين وجبين يتعرض لشعاع، قال رفيق رحلتي تلك: من دون أن يطرق شعاع النور هذا باب العقل فيفتح له، لن نتمكن من فهم معنى أي شيء.
دعوته لفنجان شاي داخل البيت. شكر واعتذر. قال: يجب أن ألحق بالعمل. طلبت نسخة من صورة شعاع النور تلك. استجاب على الفور فأبرق بها، وبأسرع من البرق حطت بصندوق إيميلي.
شكرا لقدر جمعني بسائق تاكسي على قدر من العلم لافت للنظر، وقد أمسكت عن ذكر اسمه لأنني لم أستأذنه. هي واقعة جعلتني أتذكر، إن نسيت، كم من مدعي علم عبر العالم كله، ينشر ظلام التجهيل، إما لأنه غافل، أو لهوى ما يتغافل، عن حقيقة أن نور العلم أول الخطى على طريق المعرفة. ثم كي أتذكر أيضا مقاربة محزنة، فكم من علماء عرب، جدوا واجتهدوا طوال العمر ليصلوا مرتبة العلم التي بلغوها، ثم يجدون أنفسهم مهاجرين في المنافي، إما بالاختيار أو بالاضطرار، بعضهم أتيحت له فرصة معيشة كريمة وإسهام متميز في المجتمعات التي رحبت بهم، وبينهم من اضطر للعمل في غير حقل العلم، بل وتحمل معاناة مستويات متدنية لأجل إطعام أفواه جائعة، إن في منزل بغربة المنفى، أو لأهل هم أسرى في غربة وطنهم ذاته.
font change