ظاهرة سعودية.. "أحب الصالحين ولست منهم"!

ظاهرة سعودية.. "أحب الصالحين ولست منهم"!

[caption id="attachment_55244554" align="aligncenter" width="620"]هناك حالة فصام بين الواقع المعاش والشعارات المرفوعة هناك حالة فصام بين الواقع المعاش والشعارات المرفوعة[/caption]

"أحب الصالحين ولست منهم.. لعلي أنال بهم شفاعة"، هذا البيت الشهير والجميل للإمام الشافعي، أحد أهم أئمة المذهب السني الإسلامي، لم يعد مجرد بيتٍ من الشعر، بل أصبح شعارًا يتمثله كثير من الشباب السعودي، يعبر عن أنه كشاب غير راضٍ عن نفسه؛ بسبب ضعف التزامه بالأوامر الدينية، لكنه يتمنى لو استطاع الالتزام بها.
هذا الشعار لا يقوله الشباب في تعبير عن أسفهم على عمر مضى دون تحقيق كثير من الطاعات، بل يقوله في توصيف لحالته الراهنة التي يتأمل أن تتغير دون أن يسعى فعلاً لذلك، لكن إيمانه بهذا النموذج الصالح أيضًا سيظل ثابتًا على مدى حياته مهما عجز هو عن تحقيقه.

والرغبة في التغيير نحو نموذج صالح هو مطلب إنساني جميل، وحب الصالحين حسنة إسلامية وسنة نبوية، لكن المشكلة تكمن عندما يتحول هذا الحب إلى ذريعة ومبرر لعدم الصلاح، فالشافعي الذي أنشد البيت هو إمام العراق ومصر في حينه، وأحد أهم أئمة المسلمين عبر التاريخ، أي أنه ليس نموذجًا غير صالح يعتبر "حب الصالحين" وسيلة للتبرير، بل هو نموذج صالح في ذاته لكنه متواضع أمام ربه، ومتعفِّف عن تزكية نفسه بالصلاح.

الإشكالية في تداول هذا البيت في مجتمعنا، هي تحوله إلى شعار يبرِّر فيه الشباب قلقهم النفسي، انفصال سلوكياتهم عن مثالياتهم، وصراع الإنسان النفسي بين المثل العليا وبين الغرائز الفطرية هو صراع مفهوم طالما الفاصل بين الاثنين ليس عميقًا وشارخًا، وهو صراع مقبول طالما الإنسان مستمر في محاولاته لتحقيق هذه المثل العليا التي يؤمن بها؛ لأن سعي الإنسان لتحقيق هذا النموذج المثالي بنفسه هو الشرط لحل الصراع النفسي، وعدم تفاقمه نحو حالة مرضية فصامية.
الجميع يعرف أشخاصًا ازدواجيين، يقولون ما لا يفعلون، والعكس صحيح، لكن ليس مقبولاً لأي شخص أن يطالب ويحامي ويستميت في الدفاع عن أفكار ومُثل مالم يتمثلها شخصيًّا، أي لا يطبقها هو، ربما لا يكون تمثلاً كاملاً لها، لكنه تمثيل نسبي لا يجعل منهُ حالة مرضية فصامية، فتبدو قناعاته وأفكاره مجرد هلاوس وضلالات لا يملك تحقيقها.

والنموذج الصالح هو نموذج واقعي وليس ضلالة، فعلى من يحبه أحد خيارين: فإما أن يحقق هذا النموذج بنفسه، أو أن يدرك أنه شخصية مسلوبة تؤمن بضلالة حب الصلاح المستحيلة، وتعتبر من هذه الضلالة ذريعة للعصيان.


[blockquote]المشكلة ليست في حب الصالحين، المشكلة في تصور هؤلاء الشباب عن الصلاح، وفي حالة العناد النفسية التي يعيشونها أمام التصورات الجديدة للصلاح[/blockquote]


لقد تحول هذا البيت إلى "شعار" يردده شباب كسول لا يتحرج من كونه عاصيًا؛ لأنه يعتقد أن حبَّه للصالحين يكفيه عن أن يصير منهم، وهذا يكشف أن هؤلاء الشباب لا يؤمنون فعليًّا بهذا النموذج من الصلاح، ولا يؤمنون بقدرتهم على تحقيقه، لكنهم يستميتون في الدفاع عنه، وشتم كل محاولة للتعديل منه بحيث يصبح قابلاً للتحقيق.
فالشاب السعودي المسلم -الذي يحب الصالحين وليس منهم- لا يؤمن فقط بحرمة الاختلاط بكل أشكاله، وحرمة السينما والموسيقى والتدخين، وحرمة عمل المرأة، وقيادتها السيارة وغيرها، بينما هو يمارس مختلف هذه المحرمات، ويذهب إلى ما هو أبين حرمة في العرف الاجتماعي، عاجزًا تمامًا عن التوبة منها، بل فوق كل ذلك هو يشتم دون هوادة كل من يجتهد برأي فقهي لا يحرمها، كأنما يشتم نفسه التي تحاول أن تتصالح مع نفسه.

يشتم الشاب ذاته؛ لأنها تريد أن تتقبل ذاته كما هي، لا كما يجب أن تكون حسب تصوره الذي ورثه ولم يقتنع به، إنه يفضل أن يعيش حالة فصامية على أن يجتهد فكريًّا بقبول نموذج صالح آخر، يختلف عن ما ورثه من صور للصلاح، إنه يفضل أن يبقى إنسان مختل بالتناقضات، وينغمس في الرذيلة حسب ما يظنه، على أن يكون إنسانًا مجتهدًا لا يخشى مخالفة صور الصلاح في تراثه، أو مخالفة أحكام يحفظها دون أن يقتنع بها.

المشكلة ليست في حب الصالحين، المشكلة في تصور هؤلاء الشباب عن الصلاح، وفي حالة العناد النفسية التي يعيشونها أمام التصورات الجديدة للصلاح، وهي حالة نفسية لا فكريَّة؛ لأن التفكير لا يقود إلى الرفض الأعمى دون أي محاولة للفهم، وحده الخوف كشعور نفسي يعشعش في هذه الشخصيات المسلوبة يدفعهم إلى محاربة كل فكرة جديدة من الصلاح، وكل محاولة للتجديد من الصور القديمة.
font change