تركيا.. القوة الناعمة في الشرق الأوسط

تركيا.. القوة الناعمة في الشرق الأوسط

[caption id="attachment_55245322" align="aligncenter" width="620"]اردوغان ومن خلفه صورة مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك اردوغان ومن خلفه صورة مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك[/caption]



عندما انهارت الإمبراطورية العثمانية في عام 1922 بعد أن بلغت ذروة مجدها وقوتها في القرنين السادس عشر والسابع عشر وامتدت سلطتها إلى آسيا الصغرى وشمال أفريقيا وأجزاء كثيرة من جنوب شرقي أوروبا، لم يكن من السهل عليها أن تقبل بطيب خاطر خروجها كقوة عظمى لقرون طويلة مهزومة. فالإمبراطورية العثمانية كانت قوة عسكرية وسياسية على زمن السلطان سليمان الأول القانوني، وتحولت عاصمتها القسطنطينية إلى مركز يصل العالمين الأوروبي المسيحي والشرقي الإسلامي.

هذا الحقبات الذهبية وآخرها كانت حقبة السلطان سليمان ما زالت محور كتب التاريخ في تركيا التي تتغنى بهذه الانتصارات وكأنها حية في العقول والقلوب وكأن الأتراك يتحضرون للعب دورهم السابق لأن ذلك تحصيل حاصل، لكن هذه المرة ليس بالسيف بل بممارسة سياسة الوساطة أو التدخل غير المباشر عبر مساندة طرف على آخر أو التذكير بالإخوة مرة وبالدين الواحد مرة أخرى ويظهر ذلك عبر حضور تركيا الواضح في الأحداث التي تشهدها المنطقة العربية.



الدولة العثمانية





وإذا ألقينا نظرة على التاريخ نجد أن الدولة العثمانية تحاول دائما المواربة للدخول إلى منطقة ما من الباب الخلفي إذا لم تتمكن من الدخول من الباب الرئيسي، فهي وقفت في الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا والنمسا وبلغاريا التي وصفت يومها بدول المحور، ولم يكن ذلك بمحض إرادتها بل لأنها لم تتمكن من التقرب من بريطانيا وفرنسا ويجمعها مع هاتين الدولتين صفة الاستعمار والسيطرة والتوسع. وعلى الرغم من مشكلاتها المالية والاقتصادية، أصرت على دخول الحرب فقط من أجل إثبات وجودها على الساحة السياسية، فسمحت لسفن حربية ألمانية بعبور مضيق الدردنيل باتجاه البحر الأسود، ولكي تظهر قوة لا يستهان بها أغلقت المضايق البحرية بوجه الملاحة التجارية. ولم تكتف بذلك بل هاجم أسطولها الموانئ الروسية في البحر الأسود، لكنها لم تدخل في الحسبان حينها أنها سوف تدخل في حرب تكون الخاسرة فيها هذه المرة أيضا حيث منيت بهزيمة نكراء.

في هذه الأثناء برز قائد عسكري اسمه الجنرال مصطفى كمال أتاتورك تحول إلى بطل قومي فيما بعد لتسجيله انتصارات كثيرة وحول أنقرة إلى عاصمة للدولة التركية الحديثة وأصبح بذلك أول رئيس جمهورية عسكري في عام 1923 وحول تركيا إلى دولة علمانية واضطر لتوقيع معاهدة لوزان مع الحلفاء التي تدعو إلى التخلي عن الأراضي العثمانية غير التركية.

وعلى الرغم من أفكاره المتحررة فإن مؤرخين أتراكا يقولون إن كمال أتاتورك كان هدفه من اعتماد الأبجدية اللاتينية في الكتابة التركية هو التقرب من الغرب أكثر فأكثر للحصول على دعم والاستفادة منه من أجل تحقيق الحلم المفقودة وهو استرجاع هيبة تركيا القديمة ونفوذها، أي عودة تركيا الكبرى هذه المرة وليس الإمبراطورية العثمانية. ونمو التيارات الإسلامية في هذه الحقبة لم يمنع أتاتورك من توثيق العلمنة في مؤسساته، لكن عبر الجيش الذي كانت له السلطة في الأمور السياسية كما العسكرية. ومع أن هذه المؤسسة كانت تصطدم بين الفينة والأخرى مع المؤسسة المدنية فإن الأسس التي تجمعهما كانت وما زالت تحقيق الحلم الكبير، ولا يغيب في جلسات العسكر الخاصة الحديث حتى اليوم عن الدور الطبيعي للشعوب التركية في آسيا الوسطى والقوقاز، فهذا امتداد لتركيا الكبرى.


ولقد ساهم الوضع السياسي بعد الحرب العالمية الثانية ووجود حلف وارسو والستار الحديد، وأيضا موقعها الجغرافي، فهي تقع على البحر الأسود ما يجعلها جارة لروسيا ولأوكرانيا ورومانيا، في تسهيل التحاق تركيا بحلف شمال الأطلسي الذي تأسس عام 1949، فتركيا انتسبت إليه عام 1952 أي بعد ثلاثة أعوام فقط، وكان يومها فؤاد كوبرولو المقرب من واشنطن وزير الخارجية. ومع أن الكثير من البلدان المؤسسة للحلف كانت ضد انضمام تركيا لكن الضغط الأميركي كان أكبر، فالمصلحة الأميركية كانت واضحة، فهي تريد حلفاء وشركاء تعتمد عليهم في وقت الحاجة مثل إسرائيل وتركيا يتميزون بموقع جغرافي يفيد المصالح الأميركية.
لكن في المقابل يمكن لتركيا الاستفادة من هذه العلاقة الأميركية لتثبيت وجودها السياسي، لذا نرى أن كل الحكومات السابقة والحكومة الحالية التركية لا تأتي أبدا على ذكر وجود 90 رأسا نوويا أميركيا في قاعدة انسرليك الجوية غير البعيدة من أنقرة، فهي القاعدة الأكثر استخداما من قبل القوات الجوية الأميركية ولعبت دورا في الحرب الأميركية ضد العراق.



الحلم التركي





والحلم التركي الكبير عودة تركيا إلى منطقة الشرق الأوسط لم يكن حلم رئيس تركي واحد، بل راود فكر أتاتورك وحسين رءوف بيه ورؤساء حكومات من عصمت باشا مرورا بمحمد رجب بكر وتورغوت أوزال (رئيس الوزراء 1989 - 1993) واعتبر أكثر الرؤساء حماية للمصالح القومية التركية كما سامي سليمان دمريل الذي تولى الحكم مباشرة بعده وكان عضوا قديما في أحد لوجات الماسونية في أنقرة. ما يعني أنه ومهما كان لون الحزب الحاكم دينيا أم دنيويا، فإن الهدف واحد هو السعي لتحقيق الحلم عبر عدة طرق مختلفة منها التغلغل الديني أو الاقتصادي أو الثقافي في بلدان الشرق الأوسط أي بالقوة الناعمة.

ومن الجدير ذكره أن رئيس الحكومة دمريل (عام 1993) وخلال أول زيارة له إلى واشنطن أعلن عن رغبة بلاده أن تلعب دورا جديدا في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق الإسلامية. فبعد تنفيذ الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف سياسته الإصلاحية وانهيار الاتحاد السوفياتي كان لا بد لأنقرة من سرعة التحرك والتوجه إلى حليفها الأقرب الولايات المتحدة. فهي رأت أنه وبعد انتهاء الصراع بين الشرق والغرب وكدولة جنوب شرقية داعمة فإن أهمية دورها قد تقل شيئا فشيئا كشريك أطلسي لوجود بلدان أوروبية شرقية يمكنها لعب هذا الدور، لذا كان يجب عليها التفاني للإبقاء على وزنها باتخاذ خطوات مهمة. وهذا بان في مواقف رئيس الحكومة التركي مسعود يلمظ عندما احتل صدام حسين الكويت فدعم بشكل قاطع المساعي الأميركية لفرض الأمم المتحدة عقوبات اقتصادية على العراق، ما ساهم في تسهيل عملية تغلغل تركيا في الجمهوريات الإسلامية لآسيا الوسطى. فسيطرة روسيا طوال 70 عاما تقريبا على هذه الجمهوريات رفعت من أهمية تركيا المسلمة هناك، يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة ليس لديها شريك مهم تعتمد عليه وتثق به يقع ما بين أوروبا والشرق، وتركيا هي الرقم واحد.




بلدان آسيا الوسطى





وسبق ذلك أواخر الثمانينات بروز فكرة تأسيس شراكة بين تركيا وإيران وباكستان ودول إسلامية كانت تابعة للاتحاد السوفياتي مثل أذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وتوسيعها بالسماح بانضمام كل من طاجيكستان وكازاخستان وقيرغيستان إليها، ما يعني شراكة تضم أكثر من 300 مليون مسلم وكانت تركيا تسعى إلى تكوين اتحاد اقتصادي لوحدها لينافس الاتحاد الأوروبي الذي أبعدت عنه، لكن يجب أن يكون بقيادتها ما يعني إبعاد إيران وباكستان، وهذا أفشل مساعيها رغم أنها تواصل السعي لتحقيق هذا الاتحاد، كما أنه صعب المنال على الأقل على المدى المتوسط، ليس لأسباب سياسية أو عقائدية، بل لعدم توفر المقومات اللازمة له. فهذه البلدان تعتبر من بلدان العالم الثالث التي تملك ثروات طبيعية كما هي الحال في كازاخستان بينما الثغرة الكبرى المفقودة هي التقنية المتطورة. عدا عن ذلك فإن كل بلدان الشراكة هذه ما زالت فقيرة، عدا تركيا الناهضة اقتصاديا.


[caption id="attachment_55245323" align="alignleft" width="300"]تركيا وإسرائيل.. علاقات فاترة تركيا وإسرائيل.. علاقات فاترة[/caption]

هذا الوضع سمح لتركيا بالدخول من الباب الواسع إلى بلدان آسيا الوسطى والقوقاز باستغلالها أيضا لأخوة اللغة التركية والتي يجب حمايتها حسب اعتبارها، لكن في حقيقة الأمر أنها الرغبة في بناء حلف مع هذه البلدان المتحدثة باللغة التركية ما سيساعد على مد نفوذها الاقتصادي والثقافي والسياسي هناك.

بالطبع على المرء أن ينظر بنفس منظار تركيا إلى تطورات السنوات الأخيرة في بلدان آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ودخلت في حقبة جديدة تماما في تاريخها الحديث. فحتى نهاية ثمانينات القرن الماضي كانت تفهم تركيا نفسها وبناء على أفكار كمال أتاتورك أنها غربية أو في طريقها إلى الغرب، وهذا سيسمح لها مستقبلا بلعب دور الوسيط بين البلدان العربية والإسلامية (أيضا بلدان آسيا الوسطى) من جهة وأوروبا من جهة أخرى ما يفسر الوجود الكبير منذ سنوات لمثقفين ورجال أعمال وسياسيين أتراك في العاصمة باكو بشكل دائم أو في طشقند وألمآتي واشكاباد. أيضا المشاريع التي تنفذها عشرات الشركات التركية من منشآت بترولية وحتى منتجعات سياحية. يقابل ذلك زيارات لا تنقطع لمسؤولين كبار من هذه البلدان لتركيا، ما يعني أن هذا التحرك لن يكون من دون نتائج أو تأثير. ولقد انفتحت تركيا شرقا وتريد تعميق هذا الانفتاح على كل المستويات الاقتصادية والثقافية ما يسهل بالتالي الانفتاح السياسي أيضا، إلا أن ذلك لا يمكن أن ينطبق على الشرق الأوسط رغم حديث أردوغان وغيره عن التزامات ثقافية وحضارية ودينية. فمن يقرأ تاريخ تركيا في المنطقة سوف يتساءل عن هذه الالتزامات التي تتبجح بها تركيا لتبرير سياستها. فكل كتب التاريخ اعتبرت فترة احتلال الإمبراطورية العثمانية كما الدولة التركية لـ{الشرق الأوسط} سوداء ودامية.



تغلغل إيران





بالطبع لن يكون من السهل على تركيا سلوك سياسة جديدة على حساب علاقتها بالغرب، لذا تسلك كما المعتاد سياسة ملتوية عند الحاجة للتقرب من بلدان آسيا الوسطى عبر ما يسمى بمؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي وهي عضو فيه أيضا. فهي التي كانت وراء التحاق الكثير من هذه البلدان به بعد إصرارها على ضرورة ذلك لخدمة خطة الأمن الدولي. والولايات المتحدة لها اهتمام كبير بأن يكون لتركيا الشريك في محافل غربية كثيرة نفوذ في منطقة التغييرات الجيوسياسية في آسيا الوسطى، فهذا يعيق تغلغل إيران التي تستخدم نفس السلاح، أي الدين واللغة الفارسية ويتحدثها سكان طاجاكستان مع أن أغلبيتهم من السنة. يضاف إلى ذلك أن واشنطن بالتحديد تخشي أن تتحول المنطقة إلى منطقة نفوذ سياسي وإسلامي وثقافي واقتصادي إيراني.

وكان وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر قد حذر عندما قام مطلع التسعينات بجولة في جمهوريات آسيا الوسطى، من نوايا إيران التوسعية وطالب يومها بالعمل على تحفيز دور تركيا البلد العلماني، فهي من وجهة نظره منفتحة واقتصادها وسياستها يجعلانها قادرة على لعب دور القيادة في هذا البلدان الإسلامية، لذا لا تتطرق واشنطن إلى أحلام تركيا في الوقت الحاضر.
واليوم وبعد أن أصبح لتركيا مكانة اقتصادية وثقافية عن طريق اللغة والدين وتتغلغل سياسيا في بعض بلدان آسيا الوسطى إضافة إلى اقتصادها الواعد، أثبتت للغرب على أنها قوة لا يستهان بها أيضا في منطقة الشرق الأوسط المتخبط، خاصة في ظل التغيرات السياسية القائمة والمعالم الجغرافية السياسية التي لم تتوضح بعد وحدودها الجغرافية القابلة للتغيير.

في ظل هذا الوضع المعقد والمفيد لتركيا تريد أنقرة القيام بنفس الدور الذي لعبته في دول آسيا الوسطى، لكن ليس عن طريق اللغة، فليس هناك شعوب في الشرق الأوسط لغتها التركية، بل عن طريق مد يد العون للإخوان الذين {يرزحون} تحت جبروت الأنظمة الديكتاتورية مثل النظام في سوريا. فهل هذه هي الخلفية الحقيقية لتوجهاتها السياسية القائمة وموقفها الواضح من الحرب الأهلية في سوريا؟



حادث مرمرة





إذا ما عدنا إلى الوراء قليلا نجد أن تركيا قاطعت إسرائيل لأن الأخيرة هاجمت سفينة السلام في مرمرة وقتلت عددا من المناصرين للسلام حاولوا إيصال المساعدات الإنسانية لغزة. فرغم قول أكثر وسائل الإعلام إن رئيس الحكومة أردوغان كان المحرك الخفي للسفينة أكد كثير من المراقبين الأتراك أنه أراد بهذه العملية الاستفادة فقط بالحصول على دعم الفلسطينيين في غزة له حيث يسيطر تنظيم إسلامي. أي إنه كانت هناك {غاية في نفس يعقوب}. فالسفينة تركت في شهر مايو (أيار) عام 2010 المياه التركية من دون مباركة الحزب الحاكم التركي، وعندما قتل الكوماندو الإسرائيلي النشطاء على متنها استفادت أنقرة من الواقعة فلعبت دور المعترض أشد الاعتراض، هذا الاعتراض كان حسب وصف بعض المعارضين الأتراك {مسرحية}، بينما نظر إليه آخرون على أنه نزاع بين الولدين المدللين (إسرائيل وتركيا) لواشنطن.

هذا الموقف دفع بصحيفة «دي فيلت» الألمانية الموالية لإسرائيل إلى القول إن أردوغان يلعب لعبة خطيرة في الشرق الأوسط بدعم المعارضة السورية مباشرة وعلنا حتى بالسلاح من جهة، ومن جهة أخرى العزف على وتر قطاع غزة. فهو يريد أن يظهر للفلسطينيين هناك بأنه الحليف الوحيد لهم وهو مستعد للدخول كوسيط للمصالحة بين الحكم الذاتي الفلسطيني وحركة حماس الإسلامية، فهو أيضا مسلم. ولأن القضية الفلسطينية تريد داعما لها بعد أن أصبحت شبه غائبة عن المسرح السياسي الدولي لانشغال العالم بالوضع السوري ومشكلات «الربيعات العربية}، فهو يريد الاستفادة من هذه الثغرة وكسب تأييد في العالم العربي الذي يشهد تغييرات سياسية غير واضحة المعالم، وذلك تمهيدا لتغلغله السياسي، وهذا يفسر موقفه من الحرب في سوريا.

ولا يخفي الكثير من الإعلاميين حتى الأتراك المقيمون في ألمانيا أن أحد أهم أهداف تركيا اليوم الازدهار الاقتصادي فهذا يكسبها وزنا اقتصاديا وسياسيا في المنطقة، ما يفسر أيضا موقفها حيال الوضع في سوريا. فهناك منابع للنفط والماء (مياه دجلة والفرات المختلف عليها) وهي بحاجة إليهما من أجل مواصلة نمو اقتصادها. وكما هو معروف تصدر سوريا إلى ألمانيا لوحدها نفطا بما قيمته مليار يورو سنويا عدا البلدان الأخرى ومنها روسيا، ومنابع هذا النفط في الحسكة شمال سوريا التي أصبحت نقطة خلاف أيضا بين سكانها الأكراد والقوات السورية المعارضة المدعومة بالسلاح التركي.



تركيا والقضية الفلسطينية





ولقد أدركت ألمانيا كما بلدان أوروبية أخرى أن لتركيا مطامع ومصالح أيضا، فرغم انتقاد برلين الدائم لسياسة أنقرة حيال الأكراد، أرسلت قواعد صواريخ باتريوت وأكثر من 300 جندي إلى الحدود السورية التركية لأنها لا تريد هي أيضا أن «تخرج من المولد بلا حمص» كما كان حالها في العراق لأنها لم تشارك عسكريا هناك. مع ذلك فإن الحكومة الألمانية تبرر ذلك بأنه تلبية لمطالب قيادة حلف الأطلسي (الولايات المتحدة) الداعية إلى مساندة أي عضو عند الضرورة. أما فرنسا التي تشكو من أزمات اقتصادية كبيرة وذهبت إلى {مالي لحلها} فتشد اليوم أزر أردوغان، وهي التي ظلت ولسنوات طويلة تضع العصي بين الدواليب فيما يتعلق بعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي بحجة قضية مجازر الأتراك ضد الأرمن. فالرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وضع هذا الملف الشائك في الدرج وبارك ذلك الرئيس الحالي فرنسوا هولاند ومجلس النواب بحجة عدم وجود براهين دامغة بأن تركيا قد اقترفت هذه الجرائم الفظيعة. لكن في الواقع ولأن تركيا قد أصبحت رقما صعبا في الكثير من المعادلات السياسية في المنطقة، لذا لا يمكن إهمالها لكن يجب مراقبة مطامعها، فهي تسعى إلى الحصول على عمق وامتداد سياسي وجغرافي.


[caption id="attachment_55245324" align="alignleft" width="300"]الشعب التركي.. دعم بلا حدود للقضية الفلسطينية الشعب التركي.. دعم بلا حدود للقضية الفلسطينية[/caption]

يضاف إلى هذا المشهد محاولة الحكومة التركية الدخول كوسيط للمصالحة بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية، وقال وزير خارجيتها نحن على استعداد للمساهمة في أي مشروع يجمع الإخوة الفلسطينيين، وأيضا التحضير لإجراء محادثات مباشرة بين حماس وحركة فتح في تركيا بهدف تشكيل حكومة وحدة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، فهذا يسهل الاعتراف بفلسطين في الأمم المتحدة. وبهذا جعلت أنقرة نفسها محاميا دوليا مهما للطرفين، أي إن حماس وفتح تتمتعان بمساندة بلد مسلم وعضو في نفس الوقت في حلف شمال الأطلسي.

هذا الالتزام الظاهر لتركيا في فلسطين يكمل استراتيجيتها السياسية الجديدة للمنطقة والتي أظهرتها منذ «الربيعات العربية} ما منحها ديناميكية قوية لتحقيق سعيها كي تتبوأ مركزا قياديا في الشرق الأوسط، وبشكل أنيق جدا جعل أردوغان نفسه متحدثا للمعارضين للحكومات السابقة في مصر وليبيا وحاليا في سوريا، بالأخص في ظل ظروف تواجه فيها البلدان المؤثرة تقليديا في المنطقة مشكلات صعبة. فالحكومة المصرية ما زالت تعاني من تداعيات التغييرات في النظام والمملكة العربية السعودية منشغلة في محاربة الإرهابيين والمشكلات في البحرين الجارة، وفي سوريا يحاول النظام هناك البقاء على قيد الحياة قدر الإمكان، وإيران التي اعتبرت المسيطرة على المنطقة فإنها وبسبب مواقفها من {الربيعات العربية} فقدت مصداقيتها لدى الكثيرين، فهي لا تشكل صديقا لأي من الأطراف التي ساهمت في هذه التغييرات السياسية.



سياسة أردوغان الخارجية





هذا الفراغ الذي حدث تستغله تركيا بشكل ذكي وسياسة أردوغان الخارجية حيال التعامل معه غير مختلف عليها داخل تركيا، عدا عن أصوات قليلة للمعارضة وبعض وسائل الإعلام التركية التي تصف ما يقوم به أن عسكريا أو سياسيا بالجنون الكبير، ويحذر هؤلاء من «النيو عثمانية} أي العثمانية الجديدة من أجل السيطرة على الشرق الأوسط، خاصة بوجود قوى سياسية تؤمن بالأفكار {الأردوغانية}. فأردوغان أظهر ارتياحا لفوز الإخوان المسلمين في مصر وحزب النهضة في تونس، ويتوقع أن يتم تقارب بين القوتين بمباركته.

ويستند أردوغان في تحركاته هذه على مبدأ أن {حكومته الإسلامية هي المنبع الروحي للشرق الأوسط}، وهذا مكنه من خطف حركة حماس من يد سوريا التي كانت تمولها، وقد يجد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي ملاذا له في أنقرة عضو حلف الناتو. وبهذا يريد أردوغان أيضا وكما يبدو إفهام الرافضين لعضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي (فرنسا وألمانيا) أنه قوة لا يستهان بها في الشرق الأوسط، هذا من جهة ومن جهة أخرى يريد منافسة إسرائيل لدى واشنطن على أهمية دور بلاده في المنطقة مستفيدا من تاريخها هناك.

وما يلفت النظر تذكيره الدائم بالتزام تركيا التاريخي بفلسطين كما التزم السلاطين العثمانيون بها وكذلك الجمهورية التركية. لكن من يقرأ تاريخ تركيا في منطقة الشرق الأوسط سوف يتساءل أي التزام كان هذا، ففترة حكم الإمبراطورية العثمانية كما الدولة التركية للشرق الأوسط توصف حتى يومنا هذا بفصل أسود ودامٍ، فهل قرأه أردوغان؟
على ما يبدو أنه لا يريد أن يتذكر مثلا الثورة العربية الكبيرة التي قام بها الشريف الحسين وكان يومها حاكم مكة ضد الدولة العثمانية في يونيو (حزيران) عام 1916 لكن بدعم بريطاني، واعتبر المثقفون العرب العثمانيين أعداء أزليين، خاصة في فترة جمال باشا {السفاح} الذي علق المشانق للذين طالبوا باستقلال بلادهم {لبنان وسوريا} ويوم الشهداء. إن كتب التاريخ لشاهد على ذلك وعلى المجاعات والخوف من السلطة التركية التي تلجأ إلى السيف. إنها لمحة بسيطة عن تاريخ العثمانيين في المنطقة فأي التزام يتحدث عنه أردوغان؟



وساطة أوباما بين تركيا وإسرائيل





بالطبع هناك عناصر تراهن عليها تركيا في تحقيق"حلمها الكبير ونشر نفوذها"، إلا أن أساسيات هذه الحلم غير متوفرة على أرض الواقع فيما يتعلق بسياستها الخارجية في المنطقة وكما يبدو فهي تبالغ كثيرا بقدراتها ولا تريد الاعتراف بذلك. فحتى واشنطن التي تبارك تدخل أنقرة في المنطقة سياسيا وعسكريا، ليست مستعدة للمخاطرة وركوب سفينة «عثمانية}، فعندها يجب أن تغيير قواعد هي عماد سياستها في الشرق الأوسط وهذا ما لن تقوم به. فالجغرافية السياسية للمنطقة ترسمها حتى الآن الإدارة الأميركية مع حليفها الأزلي إسرائيل لا غير. ومن أجل إرضاء تركيا فقد تمنحها المزيد من الأراضي في سوريا مع حرصها على إبقاء القضية الكردية مشتعلة لأنها العصا التي يمكنها أن تعيد أنقرة إلى صوابها في حال تمردت. إذ لا ننسى أن مجموعات كردية تركية تتعاون مع إسرائيل عسكريا ولوجيستيا، ولا تريد واشنطن أيضا مواجهة مشكلات أخرى مع أقليات لها تاريخها في المنطقة كالأقلية المسيحية والشيعة والأكراد الأتراك.

أما عن سبب إصرار واشنطن على أن تكون العلاقات طيبة بين تركيا وإسرائيل، وقيام الرئيس أوباما بمصالحة الطرفين نتيجة الخصام بينهما بسبب سفينة السلام فيقول البعض إن الرئيس الأميركي يعرف تماما أن التغيرات السياسية الحاصلة في العالم العربي لن تمكن إسرائيل من الاستفادة منها لأنها ما زالت بعين العرب دولة تحتل فلسطين. كما أن الولايات المتحدة تشعر اليوم أكثر من أي وقت مضى بأنها مهددة بالتهميش دوليا لوجود قوى عظمى مثل الصين تدخل إلى المنطقة مرحبا بها عن طريق المشاريع الإنمائية والسلع الرخيصة وليس عن طريق الحرب، وواشنطن لا تستطيع توفير هذه العناصر المهمة لأنها حددت لونها منذ دخول المنطقة قبل أكثر من خمسين عاما، وهذا يفسر تحريكها لتركيا المسلمة في البلدان العربية الإسلامية لكنها تبقي صمام الأمان في يدها لكبح جماح التطلعات النيو عثمانية.

كما أن هناك بلدانا أوروبية منها ألمانيا تدرك جيدا مخاطر"حلم تركيا الكبير" على مصالحها في المنطقة لذا يجب عرقلته، فهي كما بلدان أخرى أوروبية تدرك تماما أن تركيا لم تعد دولة نامية وليست دولة تتوسل المساعدات، وهذا ما مكنها بلا ريب منذ انتهاء الحرب الباردة من أن تكون واثقة من نفسها لوضع استراتيجية قومية لسياستها الاقتصادية والأمنية والخارجية على أساس تطلعاتها المستقبلية، لكن ذلك لا يعني في المنظور القريب إعطاء تركيا ظهرها لأوروبا، مع ذلك تسعى أوروبا هذه إلى حصر مخاطر هذه التطلعات لأن لها اليوم مصلحة كبيرة جدا في استقرار الدول العربية التي تعيش تحولات سياسية، في نفس الوقت لا تريد أن تترك الأمور تسير على أساس التطلعات النيو عثمانية.
font change