عشر سنوات على رحيل إدوارد سعيد

عشر سنوات على رحيل إدوارد سعيد

[caption id="attachment_55245894" align="aligncenter" width="620"]ادوارد سعيد ادوارد سعيد[/caption]


هذه المناهج تباينت بين النقد الأدبي والسياسة وعلم الأجناس البشرية ودراسات الشرق الأوسط، وهو مجال يعود فضل تطوره إلى سعيد وأعماله.
أكثر من أربعين كتابا ألّفت عنه وعن أعماله، وهناك منها ما تتناوله بالنقد وهي قليلة، ولكن ثمة الكثير منها مما هو متزلف ومتملق مثل كتاب " The Cambridge Introduction to Edward Said, " (تقديم كامبريدج لإدوارد سعيد) الذي نشر بعد مرور سبع سنوات على وفاته بسرطان الدم عام 2003. كما أن هناك الكثير من الدراسات والتحليلات التي تناولتها الصحف عنه وعن مؤلفاته، فقد وصفه مقال نقدي عام 2001 في صحيفة "الـغارديان" بأنه "أكثر مفكري عصرنا تأثيرا".
وتقدم جامعة جورج تاون وكاليفورنيا فضلا عن جامعات أخرى برامج دراسية عنه.

بيد أن الكتاب الذي جعل من إدوارد سعيد رجلا شهيرا هو كتاب Orientalism (الاستشراق)، الذي ألفه عام 1978، عندما كان في الثالثة والأربعين من العمر.
كان هدف سعيد هو كشف الآفة التي توجد في قلب الحضارة الغربية، وهي عجزها عن تقديم نفسها وهويتها إلا على خلفية "الآخر" المتخيل. وكان هذا "الآخر" هو الشرقي، الشخص الذي ينبغي أن يخشاه الغرب أو يسيطر عليه.
وفي هذا الصدد قال سعيد: "كان كل أوروبي عنصريا وإمبرياليا ومتعصبا لعرقه، في كل ما يمكن أن يقوله عن الشرق". وأوضح في مواضع أخرى من النص أن ما يصدق على الأوروبيين يصدق على الأميركيين أيضا. ويذكرنا هذا بإحدى قضايا الراديكالية في الستينات التي كانت ضمن الحركات المناهضة لجيم كرو والحرب الأميركية في فيتنام، وبالتحديد أن الجنس القوقازي هو الوباء الذي أصاب الإنسانية.
وبدلا من الحديث عن هذا الاتهام من فوق المنابر الخطابية، كما فعل آخرون، عبّر سعيد عن ذلك بنبرات تدفع القراء إلى الإطلاع. وكانت أسماء المنظرين المعاصرين العويصة وأسماء الأكاديميين القدماء المبهمة، تظهر في الصفحات الزاخرة بكلمات تدفع القراء إلى اللجوء إلى المعاجم.
لا تكترث لعدم وجود هذه الكلمات في المعاجم، أو أنها مستخدمة بشكل خاطئ، كذلك لا تهتم لما تبدو عليه بعض الاقتباسات من فخامة وإدعاء، مثل سقوط اسم ليفي شتراوس وغرامشي ومايكل فوكولت بدوي مكتوم كما أوضح المؤرخ جون هارولد بلامب في نقده للكتاب لصحيفة "نيويورك تايمز".
لا تكترث لأي من هذا، فالشيء المهم الذي أثار السرور والتحمس هو قوله "الشخص الملون"، في محاولة قوية لإدانة الرجل الأبيض وهزيمته في لعبة التأنق الفكري الخاص به، إذا جاز لنا قول ذلك.
في الواقع لم يكن سعيد رمزا مناسبا لتعساء الأرض، فوالده، الذي كان يطلق على نفسه اسم ويليام، هاجر من القدس، المكان الذي كان يكرهه بحسب قول إدوارد، إلى أميركا عام 1911، وقاتل خلال الحرب العالمية الأولى وأصبح مواطنا أميركيا.


وتحت ضغط أسرته استسلم بعد تردد، وعاد إلى الشرق الأوسط في العشرينات واستقر في القاهرة، وكون ثروة من مجال الأعمال، وتزوج من سيدة مصرية.
وقيل لإدوارد، وهو الابن الأكبر بعد موت المولود البكر في سن الرضاعة، إنه سمي على اسم أمير ويلز. ونشأ هو وشقيقاته الأربع في كنيسة بروتستانتية في وضع ميسور نسبيا، فقد كانوا يحضرون الأوبرا، وكانوا أيضا أعضاء في عدة نواد، وتلقوا دروسا في البيانو.
كذلك تلقوا التعليم في مدارس بريطانية وأميركية ابتدائية وثانوية في القاهرة، إلى أن التحق إدوارد بمدرسة راقية في نيو إنغلاند، وهو في الرابعة عشرة من العمر.




وجه مختلف





بعد تخرجه في جامعة هارفارد، بدأ يدرس النقد الأدبي وفاز بكرسي في جامعة كولومبيا عندما بلغ الأربعين، ثم أصبح أستاذا جامعيا، وهي أعلى مرتبة أكاديمية في جامعة كولومبيا. بعد عام من ارتفاع مكانته بفضل كتاب "الاستشراق" نشر سعيد كتاب The Question of Palestine (القضية الفلسطينية). وقبل خمسة عشر عاما، كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد تأسست في محاولة لرسم هوية فلسطينية فريدة، واتخذ إعلان هذه الهوية للعالم شكل أعمال عنف مروعة، هدفها بالأساس جذب الانتباه إلى الظلم الواقع على الفلسطينيين.
الآن منح أستاذ الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة كولومبيا القضية الفلسطينية وجها مختلفا. لقد أضفى بعضا من الأصالة على هذه المهمة، بسبب أصوله ونفوذه وعضويته في المجلس الوطني الفلسطيني، وهو الكيان الاسمي الحاكم لمنظمة التحرير الفلسطينية.


[blockquote]أكد سعيد لقرائه أن منظمة التحرير الفلسطينية تفادت الإرهاب وأدانته منذ بداية التفجيرات وعمليات اختطاف الطائرات في السبعينات، وقدم قائد المنظمة ياسر عرفات على أنه "ضحية لسوء الفهم، وشخصية سياسية تم تشويه سمعتها"، وأعرب عن إيمانه بدولة فلسطينية تعيش جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل لا مكانها، وذلك باسم الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة. كان هذا كفيلا بدفع، كريستوفر ليمان هوبت، الناقد في صحيفة "نيويورك تايمز"، إلى كتابة: "إن الأستاذ سعيد يعبر عن القضية بمنطقية وفصاحة، تجعلان المرء ينسى لوهلة، الكثير من الحجج المضادة التي يتبناها الإسرائيليون".
كان لكل من كتابي Orientalism (الاستشراق) وThe question of Palestine (المسألة الفلسطينية) آثارا عديدة، وأعقبهما تفسيرات كثيرة، مما جعلهما عمودا لمسار سعيد المهني كصوت للفلسطينيين في مواجهة الإسرائيليين، بل كصوت للعرب والمسلمين والشرقيين الآخرين في مواجهة الغرب ككل.[/blockquote]



لقد دمج سعيد العنصرية الأميركية بالاستعمار الأوروبي، في مزيج واحد من ظلم الرجل الأبيض للبشر من ذوي البشرة الداكنة. ولم يكن سعيد المفكر الوحيد الذي صنع هذا المزيج، لكن تمثل إسهامه الفريد في التعبير عن "الشرقيين" كنموذج لذوي البشرة الداكنة، والمسلمين نموذجا للشرقيين، والعرب نموذجا للمسلمين الأصليين، وأخيرا الفلسطينيين نموذجا للعرب في شكلهم الأسمى.
وفجأة بشكل سحري تحولت إسرائيل إلى تجسيد لتعالي الرجل الأبيض، وشعوره بالسمو على باقي البشر.




أحد عشر مفكرا





وكان هناك خطوة واحدة أخيرة في هذه السلسلة، وهي إدوارد سعيد كرمز للفلسطيني. منذ أن ظهر سعيد على الساحة، قدم نفسه كرجل "في المنفى" ولد ونشأ في القدس، إلى أن طرده اليهود وهو في الثانية عشرة. وكما أوضح كاتب متعاطف في صحيفة "الـغارديان": "إن تعبيره عن تجربة المنفى، جعلت الكثير من قرائه في الغرب يرونه تجسيدا للمأساة الفلسطينية". وقد كتب بالفعل فيلما وثائقيا لعب فيه دور الراوي من إنتاج "بي بي سي" عام 1998 حمل اسم In Search of Palestine (في البحث عن فلسطين) قدم فيه قصة حياته كعنصر صغير من عناصر النكبة التي ما زالت مستمرة.

[caption id="attachment_55245897" align="alignright" width="300"]صورة نادرة تجمع باراك اوباما على مقعد واحد بجانب ادوارد سعيد في حفل عشاء الجالية العربية الامريكية عام 1958 صورة نادرة تجمع باراك اوباما على مقعد واحد بجانب ادوارد سعيد في حفل عشاء الجالية العربية الامريكية عام 1958[/caption]


مع ذلك نشرت مجلة "كومينتري" في سبتمبر (أيلول) عام 1999، مقالا استقصائيا كتبه يوستوس رايد فاينر، وقدم فيه الدليل على تزييف سعيد قصة حياته إلى حد كبير، فقد أوضحت مجموعة معتبرة من الوثائق أنه قبل انتقاله إلى الولايات المتحدة للالتحاق بالمدرسة الإعدادية عام 1951، عاش حياته في القاهرة لا فلسطين. بعد ذلك ببضعة أشهر، نشر سعيد سيرته الذاتية التي أكد فيها هذه التهمة بدون الاعتراف بمزاعمه السابقة التي جاءت في معرض حديثه عن خلفيته ونشأته أو محاولة تفسيرها.

ردا على هذا الكشف، شن سعيد وعدد من مؤيديه هجوما شرسا على فاينر. وسخر سعيد من فاينر بقوله: "لأن فاينر غير معروف إلى حد كبير، يحاول أن يصنع اسما من خلال تشويه سمعة شخص أكثر شهرة منه". ووقّع أحد عشر مفكرا مقربا من سعيد، يقدمون أنفسهم ضمن "المجموعة العربية اليهودية للسلام"، خطابا للصحيفة شبهوا فيه مقال فاينر بمحاولة إنكار المحرقة.
وتمحور الجزء الأكبر من النقاش بين فاينر وسعيد حول المنزل الذي ولد فيه إدوارد، وهو المنزل الذي يفهم مشاهدو الفيلم الوثائقي المذكور آنفا، أنه المنزل الذي نشأ فيه. ودلل فاينر من سجلات الضرائب والأراضي على أن المنزل لم يكن يوما ملكا لوالد سعيد، بل لعمته.
وكتب سعيد في تكذيبه على نحو غير مقبول: "منزل العائلة كان ملكا للعائلة بحسب تقاليد العرب"، مما يعني أنه في نظر العائلة، كان ملكا لكل أفراد العائلة، حتى إذا أظهرت السجلات أنه ملك لعمة إدوارد وأبنائها فقط.


القلم والسيف





كان أسلوب عمل سعيد الساخر يهدف إلى الامتناع، حيثما أمكن، عن التفوه بكذبة محضة، مع تعمده ترك انطباع زائف. ومع ذلك، فإنه لم يتجنب بشكل دائم اجتياز أو الاقتراب بدرجة كبيرة من الخط الفاصل، الذي يشير لما إذا كان يجب أن تندرج مفرداته تحت مسمى الأكذوبة، أم أنها مجرد خداع يرتقي لدرجة اختلاف من دون تمييز.
كتب سعيد ردا على وينر: "لم أطلب مطلقا أن أصبح لاجئا، لكن أسرتي الممتدة.. فعلت". ولكن ما الذي كان من المفترض أن يستشفه القارئ من كتابه، "القلم والسيف"، حيث تحدث عن ذكريات.. الاثنتي عشرة أو الثلاثة عشرة الأولى من حياته قبل أن يغادر فلسطين؟" أو من مقاله في مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس»، حيث كتب: "ولدت في القدس وأمضيت معظم سنوات تكويني هناك، وبعد عام 1948، أصبح أفراد أسرتي كلهم لاجئين في مصر؟".

ربما يكون سعيد، قد سرد "بصدق شديد" حياته في سيرته الذاتية، حيث تظهر في النهاية الحقائق الفعلية وثيقة الصلة بتعليمه وإقامته. ولكن منتقديه يستمرون في التساؤل، هل سرده قصته بصدق في النهاية، يمحو عشرين عاما من اختلاق أكاذيب بشأنها؟ ولكن في النهاية، قلل سعيد من شأن الموضوع.

ففي آخر مقابلة له مع صحيفة «نيويورك تايمز» قال: "لا أعتقد أن الأمر على هذه الدرجة من الأهمية على أية حال.. إنني لم أعرض حالتي مطلقا كقضية يجب التعامل معها. لقد عرضت حالة أسرتي".
ومع ذلك، كان الأمر المهم هو الضوء الذي سلط على أساليب سعيد المضللة، نظرا لأنه قد اتضح أنه أساس العمل البحثي. كانت الخدعة الثقافية واضحة على وجه الخصوص في أهم كتبه "الاستشراق". وتتمثل فكرته الرئيسة في أن الغزو الاستبدادي الغربي لآسيا وشمال أفريقيا، كان متضافرا مع دراسة وتجسيد المجتمعات البدائية، والذي تضمن بالتبعية تشويها لها. يشرح سعيد: "التعرف على أصول الشرقيين، هو ما يجعل التعامل معهم أيسر وأكثر مربحية؛ المعرفة تمنح القوة، وتتطلب زيادة القوة زيادة المعرفة، وهكذا في جدل أكثر مربحية حول المعلومات والسيطرة".

كان النموذج الأصلي لهؤلاء الذين أمدوا بهذه المعلومات هو "المستشرق"، وهو اصطلاح رسمي يشير إلى هؤلاء الباحثين، معظمهم أوروبيون، ومتخصصون في اللغات والثقافة والتاريخ وعلم اجتماع مجتمعات الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية. ومع ذلك، فقد شرح سعيد أنه وظف المصطلح على نحو أوسع نطاقا في الإشارة إلى "نمط غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة هيكلته والسيطرة عليه".
وقال إن الاستشراق جسد "معتقدات توجد.. في أنقى صورها في دراسات العرب والإسلام". وعرف المعتقدات الأربعة "الرئيسة" كما يلي:
أحدها هو الاختلاف التام والمنهجي بين الغرب، المنطقي المتقدم الإنساني الأسمى منزلة، والشرق، الضال المتخلف الأدنى منزلة. ويتمثل معتقد ثان في أن المفاهيم المجردة عن الشرق.. دائما ما تكون مفضلة لاستقاء أدلة مباشرة من الحقائق الشرقية الحديثة. أما المعتقد الثالث، فهو أن الشرق خالد سرمدي ومتحد وغير قادر على تعريف نفسه. ويأتي المعتقد الرابع وهو أن الشرق في قلب شيء إما أن يهاب.. أو يخضع للسيطرة.

كانت المراجعات الأولية للكتاب، من قبل متخصصين في الأغلب، مختلطة، بيد أنها ظهرت في وقت بدأت فيه "التعددية الثقافية" تصبح المعتقد الجديد للنخب المثقفة، فاتخذ الكتاب طابعا مميزا خاصا به، وبدأ يترجم إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة، ويصبح أحد أكثر النصوص تأثيرا وتخصصا في النصف الأخير من القرن العشرين.
أبرز النقاد أخطاء عدة في كتاب "الاستشراق"، بدءا من الأخطاء المضحكة التي تشير إلى أن فهم سعيد لتاريخ الشرق الأوسط كان مزعزعا. فقد زعم سعيد أن "بريطانيا وفرنسا هيمنتا على شرقي البحر المتوسط من نهاية القرن السابع عشر تقريبا"، أما على مدى مائة سنة أخرى، فقد كان العثمانيون هم من حكموا المنطقة. لقد كتب أن الفتح الإسلامي لتركيا سبق الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا، ولكن الحقيقة هي أنه وقع بعده بنحو أربعمائة سنة. كذلك، أشار إلى "حكام مستعمرات" بريطانيين في باكستان، على الرغم من أن باكستان قد تشكلت في أعقاب انتهاء الاستعمار.



اعتبارات أخلاقية





الأمر أكثر خطورة أيضا هو عدم مراعاته الاعتبارات الأخلاقية في استخدام المصادر. فقد أشار دانيال مارتين فاريسكو عالم الأنثروبولوجيا في كتابه "قراءة الاستشراق" أن "أحد أساليب سعيد البلاغية في الوصول إلى نهاية جدلية يتمثل جزئيا في.. اقتباس عبارة مع إغفاله بشكل حكيم، الكلمات التي قد تبرهن وفي بعض الأحيان تدحض ما يحتمل أن تشير إليه العبارة مستقلة بذاتها". وقدم مثالا لأسلوب سعيد الازدواجي في الاستشهاد بمقولتين من كتابات سنية حمادي، وهي كاتبة أميركية من أصل عربي، كتبت انتقادات للعرب. وقد وضعها الاقتباسان في صورة سيئة، ولكنهما، على حد قول فاريسكو، كانا مأخوذين من فقرات تلخص فيها حمادي رؤية شخص آخر.
وفي السياق نفسه أيضا، أشار جون رودنبيك، أستاذ الأدب المقارن بالجامعة الأميركية في القاهرة، إلى "التفسير الخاطئ والاستشهاد المغلوط بكلمات لينة" من قبل ما سماه "مستشرق القرن التاسع عشر إدوارد سعيد".

[caption id="attachment_55245896" align="alignleft" width="150"]الاستشراق..من اهم مؤلفات ادوارد سعيد الاستشراق..من اهم مؤلفات ادوارد سعيد[/caption]

ويبرز استخدام سعيد "المضلل" للاستشهادات، إلى المشكلة التي يواجهها مع عمله في عالم مصغر.
وعلى نطاق واسع، عرض موضوعه بشكل مغلوط في الأساس.
وفي إطار طعنه لأول "معتقد" مزعوم متعلق بالاستشراق، والذي ينسب كل الفضائل للغرب والرذائل للشرق، يقول فاريسكو إن سعيد يصف "نموذجا كان ليرفض بالمثل من قبل السواد الأعظم من هؤلاء، الذين جمعهم سعيد معا بوصفهم مستشرقين".
وفي هذا السياق، يشير الكاتب البريطاني، روبرت إروين، الذي يعرض كتابه "المعرفة الخطرة" تاريخ الاستشراق بشكل مفصل وأيضا دحضا لسعيد، إلى أنه، تاريخيا، "كانت هناك نزعة مميزة للمستشرقين متمثلة في كونهم مناهضين للاستعمار؛ إذ إن حماسهم للثقافة العربية أو الفارسية أو التركية، عادة ما اقترن بكراهية لرؤية هؤلاء الأفراد يهزمون ويخضعون لسيطرة الإيطاليين أو الروس أو البريطانيين أو الفرنسيين" (على غرار فاريسكو، يوضح إروين أنه ليس معارضا لموقف سعيد السياسي، ولكنه مستاء من تزييفه مكانته العلمية).


ويعدّ هذا مجرد مثال بسيط لمشكلة منهجية كبرى تبطل عمل سعيد كلية، وبالأساس، أسلوبه الانتقائي بالأدلة. لقد أوضح سعيد أن إدانته لم تكن موجهة إلى هذا الفرد أو ذاك، ولكن إلى المستشرقين في حد ذاتهم، وهي الفئة، التي، كما قد رأينا، قد ضمن فيها كل أبناء الغرب الذين ذكروا أي شيء عن الغرب. ومن ثم، كتب: "كل المعلومات الأكاديمية عن الهند ومصر مخضبة ومتأثرة أو منتهكة من قبل الحقيقة السياسية الكبرى الممثلة في الإمبراطورية". كذلك، لا يمكن لكتاب واحد أو فكرة واحدة أو فعل بعينه متعلق بالشرق، أن يحقق هدفه من دون أن يضع في الحسبان قيود الفكر، والفعل التي يفرضها الاستشراق؟
لماذا آثر سعيد أن يرسم بتلك الفرشاة العريضة؟ لأنه أدرك أنه إذا ما اكتفى بالتأكيد على أن بعض أبناء الغرب كتبوا بشكل ازدرائي أو متعجرف أو مضلل عن الشرق فيما لم يفعل آخرون ذلك، لفقدت حجته قدرا كبيرا من الإثارة. ربما تطلب الأمر توضيحا عن الأرقام وثيقة الصلة أو تأثير المجموعتين، عن الاختلافات داخل المجموعتين، عن الاتجاهات المشتركة بين أبناء الشرق تجاه الغرب.
في المقام الأول، كانت لتجذب الرد الحاسم: إذن ما المشكلة؟ هل كان تفضيل بعض الأفراد مجتمعاتهم عن الآخرين، معلومة جديرة بالاهتمام؟
وقد تمثلت الوسيلة الوحيدة التي استطاع سعيد من خلالها جعل إدانته المعممة تبدو منطقية في انتقاء الأمثلة التي تتلاءم مع هذا، وإغفال بقية الأمثلة.

وعندما تم الطعن في إسقاطاته، رد سعيد بغطرسة بأنه لم يكن ملزما، بأية صورة، تضمين "كل مستشرق حي". لكن بالطبع تمثلت القضية الحقيقية في ما إذا كان المستشرقون الذين قام بتضمينهم، قدموا نموذجا تمثيليا، وما إذا كان قدمهم بأسلوب أمين أم لا.
بيد أن أوجه الإخفاق المنهجية هذه، فقدت في الأغلب في خضم الإبهار الذي جعل الكتاب يثير بقوة ما وجده سعيد وسيلة جديدة لإدانة الغرب على أبشع خطاياه: التفرقة العنصرية وإذعان الآخرين.
وبقدر هائل من الحداثة، وسع سعيد نطاق الاتهام عبر آلاف السنين، وهو تصوير قوبل باعتراض من صادق العظم، الفيلسوف السوري ذي النزعة الماركسية، وأحد "أكثر المعارضين المحبوبين في الدولة".
كتب العزم: "لقد تتبع سعيد أصول الاستشراق بالعودة إلى هوميروس وإسخيليوس ويوربيدس ودانتي، وبعبارة أخرى لم يكن الاستشراق ظاهرة حديثة بشكل كامل، بل نتاج طبيعي في مجمله للعقلية الأوروبية القديمة، الراغبة بشكل كبير في تشويه الآخرين والثقافات، لصالح تأكيد الذات والهيمنة الغربية".

ربما يكون صادق العظم قد اعتقد بخطأ ذلك، لكنه كان أمرا مثيرا للنشوة، فإذا كنا نتحدث عن عقلية استمرت قبل المسيحية وبعدها، فنحن لا نتحدث بشكل كبير عن الثقافة الأوروبية التي تعرّف بالمسيحية إلى حد كبير، أكثر من العرق الأوروبي، فإن الاستشراق سيتوافق ومزاج فترة أرادت إثبات أن كل العرق الأبيض متعصب بالفطرة، وهو ما دفع مجموعات المواجهة إلى عقد الاجتماعات في الجامعات وورش العمل، حتى يتمكن البيض من اكتشاف عنصريتهم الداخلية ومواجهتها. لكن ذلك "الشر الأبيض" الكامن لم يظهر بهذا العمق الكبير والتشدد الواضح، سوى في كتاب سعيد. كان الأميركيون المنتمون إلى اليسار فقط، هم من اشتروا الكتاب.

في هذا الإطار كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" في رثائها لإدوارد سعيد: "وضع كتاب الاستشراق، الدكتور سعيد كشخصية صاحبة تأثير كبير في الجامعات الأميركية والأوروبية، وبطل بالنسبة للكثيرين، وخاصة طلبة الجامعات وخريجيها من الشباب في حركات اليسار، ولدى الأفراد الذين أصبح الكتاب بالنسبة لهم عقيدة فكرية ووثيقة مؤسسة لما وصف بكونه دراسات ما بعد الاستعمار". فيما قالت صحيفة "الغارديان" في رثائها الخاص: "ظهر كتاب الاستشراق في وقت مناسب ليمكن الأكاديميين المتنقلين إلى الغرب (الكثير منهم كانوا من دول غير غربية، ولدوا لعائلات استفادوا من الاحتلال)، من النفع من حالة "التصحيح السياسي" الذي أسهم في ظهوره، من خلال ربط أنفسهم بروايات القمع وخلق مسيرات عمل ناجحة، بدافع نقل وتفسير ونقاش تمثيل الآخر "غير الغربي".
وأضافت "يرجع الفضل للاستشراق، في المساعدة على تغيير اتجاه العديد من فروع المعرفة"، وهو الرأي الذي عبر عنه المؤيدون والمنتقدون على حد سواء، فقد قال ستيوارت سكار، وهو أستاذ فخري في تاريخ الشرق الأوسط في كلية بروكلين إن "المثير للإعجاب، أن "المجتمع الأكاديمي تحول، وأحدث ثورة في مجال النقد الأدبي بفضل تراثه".
من دون التخلي عن زعمه تجسيد "نموذج براق" لشخص أجنبي، كما يوضح ناقد مصدوم عمل على سلسلة من محاضرات ألقاها سعيد في لندن، سيطر سعيد وتلاميذه على الأوساط الأكاديمية، كما يتضح ذلك من العدد الهائل للمحاضرات التي خصصت لكتبه.
وفي هذا الصدد، ذكر فاريسكو أن "جيلا من الطلاب في مختلف التخصصات، لم يتمكن من مواجهة الاتهام الانفعالي، الذي أطلقه سعيد، حتى إن الباحثين الذين درسوا الشرق الأوسط والإسلام، لا يزالون يقومون بذلك مؤسسيا، من خلال الاختيار التفسيري الذي يفصل بين غرب أعلى، وشرق أدنى".
أصبحت "العقيدة السيعيدية" الجديدة مهيمنة بشكل كبير في جمعية دراسات الشرق الأوسط، وكانت غير ودية تماما تجاه الأصوات المعارضة، إلى أن أخذ برنارد لويس وفؤاد عجمي في عام 2007، زمام المبادرة بتشكيل مؤسسة متخصصة بديلة، هي رابطة دراسة الشرق الأوسط وأفريقيا.



شخصية جريئة





كان سعيد شغوفا بإثارة عبارات "الصدق إلى السلطة"، كان ذلك دافعا للتباهي بالنسبة لشخص اختار العيش في أميركا، أو لهذا الغرض للعيش في أي مكان، وشجب الغرب وإسرائيل. لكن على الرغم من خلق شخصيته الجريئة، كان سعيد حذرا في التعامل من بلده الأصلي. ويتذكر حبيب مالك، المؤرخ في الجامعة الأميركية اللبنانية وابن عم سعيد، سماعه وهو يلقي كلمة في الجامعة الأميركية في بيروت، فيقول: "انتقد في أحد المناسبات صدام حسين والطغاة العرب، لكنه توقف عن ذكر حافظ الأسد لأسباب معروفة، وهي أن المخابرات السورية في بيروت ستعتقله عقب المحاضرة مباشرة.
حياة سعيد ربما كانت في معظمها مسألة أكاديمية، لو أنه لم ينجح في إعادة تعريف العرب والمسلمين كـ"معادل أخلاقي للسود"، ووصف إسرائيل بالدولة العنصرية. وبعد أربع سنوات من إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة الصهيونية، شكلا من أشكال العنصرية، عمد سعيد إلى تكرار الفكرة بصورة واسعة. وقال ساخرا "إن إسرائيل لم تعط العرب نفس حق اليهود في الهجرة، لأنهم أقل تطورا".
بعد عقود من نشر كتاب الاستشراق قال سعيد إن إسرائيل كانت هدف الكتاب غير المعلن على الدوام


[caption id="attachment_55245908" align="alignright" width="300"]بل كلينتون بين عرفات ورابين بعد التوقيع على اتفاقية "اوسلو"سبتمبر 1993 بل كلينتون بين عرفات ورابين بعد التوقيع على اتفاقية "اوسلو"سبتمبر 1993[/caption]

وقال: "لا أعتقد أنني ما كنت لأكتب هذا الكتاب، لو لم أكن مرتبطا سياسيا بالصراع. فالصراع العربي والهوية الفلسطينية، تشكلان أهمية كبيرة بالنسبة لهذا الكتاب. الاستشراق لا يهدف لأن يكون رواية ضمنية لبناء تاريخي، لكنه جزء من التحرر من هذه القوالب وهذه الهيمنة لأهلي، سواء أكانوا عربا أم مسلمين أم فلسطينيين".
لم يعترف سعيد بهذه الأجندة في صفحات كتاب الاستشراق أو في وقت نشره، على الرغم من هذه الأيديولوجية الضمنية يمكن أن تستشف في حدّته نحو برنارد لويس، الذي أدرك أن إيروين "لم يتعرض لهجوم من قبل سعيد، بكونه عالما سيئا (وهو ما لم يكنه)، لكن لتأييده للصهيونية (وهو ما كان عليه)". جاء ذلك ضمنيا أيضا في هوية أولئك الذين استثناهم سعيد من تعميمه بشأن الغربيين.
وفي الصفحات الختامية من كتاب الاستشراق، أشاد بعدد قليل من الأصوات الرافضة للاحتلال، التي يمكن أن تسمع في الغرب، وعرض في الحاشية نموذجين أميركيين فقط، هما نعوم تشومسكي، و"ميريب" (مشروع معلومات وأبحاث الشرق الأوسط). لم يكن تشومسكي خبيرا في شؤون الشرق الأوسط أو شخصا يكتب عادة حول الشرق الأوسط، لكنه صنع لنفسه مكانة كصوت يهودي بارز معارض لإسرائيل. أما ميريب فهي مجموعة يسارية جديدة، تشجع حرب العصابات الفلسطينية والثورات العربية الأخرى، فكانت صاحبة عقلية متفردة في إخلاصه لقضيته، وهو امتداحه لمذبحة الرياضيين الإسرائيليين في أولمبياد 1972، للتسبب في تعزيز القيم بين الفلسطينيين، ووقف التحرك باتجاه تسوية بين إسرائيل والأنظمة العربية".
وعلى الرغم من أن هجوم سعيد على الدولة اليهودية كان ضمنيا في أوله، إلا أنه كان ذا تأثير مدمر، حيث هيمن موقفه من قضايا العرب وإسرائيل على دراسات الشرق الأوسط. ونال مؤرخ الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا بلوس إنجيليس نيكي كيدي، الذي أبدى تعاطفا كبيرا تجاه الثورة الإيرانية، ثناء سعيد، في كتابه "تغطية الإسلام"، وقال: كان هناك توجه في مجال دراسات الشرق الأوسط لتبني كلمة "الاستشراق"، كتدنيس معمم يشير بشكل أساسي إلى أشخاص اتخذوا موقفا خاطئا بشأن النزاع العربي الإسرائيلي، أو إلى الأشخاص الذين حكم عليهم أيضا بأنهم "محافظون" من دون النظر فيما إذا كانت كتاباتهم تتسم بالحرفية أم لا.

حقق نجاح كتاب الاستشراق الشهرة لسعيد، وتوجه بعد ذلك إلى تكريس قدر كبير من باقي حياته إلى الدفاع بشكل صريح عن العرب والمسلمين والفلسطينيين، بداية بكتاب "قضية فلسطين" عام 1979، حيث كان في ذلك الوقت عضوا في اللجنة العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية، المجلس الوطني الفلسطيني. كان الكتاب حربا كلامية واسعة النطاق، كان اليهود هم المعتدين، والفلسطينيون هم الضحايا ـ وحتى في قضية الإرهاب، أكد سعيد أنه: "لا يوجد شيء في تاريخ فلسطين، يقارن على الإطلاق بسجل الإرهاب الصهيوني".

ادعى سعيد أنه "خائف" من الأعمال الإرهابية التي "اضطر الرجال والنساء الفلسطينيون إلى القيام بها، لكن كل اللوم يقع في النهاية على إسرائيل التي أنتجت وصنعت الإرهابيين".
وكتب سعيد، ما وصفته "نيويورك تايمز"، بأنه "خبث مذهل"، أن "منظمة التحرير الفلسطينية تخلت منذ بداية السبعينات عن أعمال العنف وأدانت الإرهاب"، هذه الكلمات ظهرت بعد عام واحد من هجوم المنظمة الدامي ضد المدنيين الإسرائيليين، في مارس (آذار) 1978 "مذبحة الطريق الساحلي"، التي قتل فيها ثمانية وثلاثين شخصا بينهم 13 طفلا، أطلق عليهم الرصاص عشوائيا وعشرات الجرحى ـ وليس من قبل فصيل منشق، بل على يد الفصيل الرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، فتح. وكان سعيد ذاته عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني الذي يدير منظمة التحرير عندما وقع الحادث.

عمل سعيد بجد لتأكيد رواية أن عرفات حاول على مدار سنوات صنع السلام، لكن محاولاته قوبلت بالرفض. ويقول: "أعربت منظمة التحرير الفلسطينية في أكثر من مناسبة، عن استعدادها لقبول قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة"، مستشهدا بقرارات المجلس الوطني الفلسطيني ما بين عامي 1974 و1977. كان هذا صحيحا، ولكن هذه القرارات لا تحمل بين طياتها، كما يزعم سعيد، "أي اعتراف ضمني بإسرائيل". لقد تصوروا أن هذه القرارات، ما هي إلا خطة يستطيع الفلسطينيون من خلالها تشكيل حكومة في الضفة الغربية وقطاع غزة، حال مكنتهم الدبلوماسية الدولية من هذه الفرصة، ولن تكون خطوة نحو السلام في ظل النية المعلنة لاستخدام هذه الأرض كقاعدة للقتال ولـ"تحرير" ما تبقى من فلسطين، بما في ذلك إسرائيل نفسها. وأفاد قرار المجلس الوطني الفلسطيني لسنة 1974 بأن "منظمة التحرير الفلسطينية تناهض أي خطة لإنشاء دولة فلسطينية، يكون ثمنها الاعتراف [بإسرائيل] وتحقيق المصالحة والتوصل إلى الحدود الآمنة، والتخلي عن الحقوق الوطنية لشعبنا، وحقه في العودة، وتقرير مصيره على ترابه الوطني".



إعادة تعريف





وفي عام 1988، بعد عقد من ظهور كتاب سعيد، نبذت منظمة التحرير الفلسطينية الإرهاب، وعرضت استعدادها لقبول وجود دولة إسرائيل، مع العلم أن هذا العرض كان مشكوكا فيه رغم وضوحه. ولم يتم التصريح بهذين التنازلين المحوريين، إلا خلال اتفاقية أوسلو عام 1993. وعندما أقدم عرفات على هذه خطوة، التي لا غنى عنها للمضي نحو السلام، كان من المتوقع أن يشيد سعيد بالرئيس عرفات، إلا أنه رأي أن هذه الخطوة جاءت مبكرة. لقد أدان سعيد بطله وأعرب عن أسفه لـ"بيع عرفات شعبه للعبودية". ووصف اتفاقية أوسلو، التي بموجبها اعترفت كل من إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية ببعضهما بعضا وتعهدتا بالتوصل إلى حل الدولتين، بأنها "صك للاستسلام الفلسطيني". وكان سعيد ينظر إلى عرفات بوصفه "رجلا عبقريا"، قائلا إن "شعبه.. يحبه". وتكلم بحماس قائلا: "إن عرفات والإرادة الفلسطينية.. شيئان منسجمان على نحو ما".


[caption id="attachment_55245898" align="alignleft" width="300"]صورة نادرة تجمع اوباما على مقعد واحد بجانب ادوارد سعيد في حفل عشاء الجالية العربية الامريكية عام 1958 ادوارد سعيد والشاعر محمود درويش[/caption]

ومع توقيع الاتفاقية مع إسرائيل، أصبح عرفات، في نظر سعيد، بمثابة "دكتاتور مختال". وأصبح عرفات وفريقه حفنة من"الخاسرين الذين فقدوا بريقهم"، و"ينبغي أن يتنحوا عن مناصبهم".
تبنى سعيد بنفسه موقفا جديدا تجاه الصراع الاسرائيلي -الفلسطينيي، فلم يعد يؤمن بخيار حل الدولتين، كما كان الحال حين كانت الفكرة نظرية، في ظل عدم استعداد المنظمة الفلسطينية، التي كان عضوا فيها، للمعاناة من وجود إسرائيل بأي شكل من الأشكال. وعوضا عن ذلك بدأ يسعى إلى "وضع وسائل تمكن الشعبين من العيش معا في وطن واحد مع التمتع بالمساواة".
لم يكن هذا الحل اقتراحا يؤخذ على محمل الجد؛ ففي إسرائيل، تعيش أعداد كبيرة من العرب بحرية من دون التمتع بمساواة كاملة، وهذه حقيقة كان يعترض عليها سعيد في كثير من الأحيان. أما في الدول العربية، فكان يعيش العديد من اليهود قبل أن يتم تهجيرهم كلهم تقريبا. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن التركيبة الجديدة لسعيد لم تكن أكثر من طريقة خيالية لمعارضة الفرصة الحقيقية الوحيدة للوصول إلى السلام.

تم تقديم هذا الموقف المرير الناهي بعبارات مختارة ليبدو مثاليا. ولعل هذه المثالية سمة من سمات أعمال سعيد الأدبية الرائعة والحركة التي كان عضوا بارزا فيها. التيار اليساري هو موقف يتبناه أولئك الذين يتطلعون لجعل العالم مكانا أفضل، وفقا لوجهة نظرهم الخاصة، من خلال العمل السياسي. وظل التيار لمدة قرن تقريبا يهتم بفكرة الماركسية، التي ترى أن طبقة البروليتاريا هي التي ستحرر المجتمع. ومع نهاية القرن العشرين، حل المهاتما غاندي، ومارتن لوثر كينغ، ونيلسون مانديلا محل جو هيل، والأم بلور، وهنري والاس، كرموز تستحق التبجيل والتوقير.
أثار الملونون والمناضلون المناهضون لظلم الاستعمار حفيظة المثاليين أكثر من قادة الاضرابات والمناضلين المطالبين بأجر يومي عادل. ووصلت الصهيونية إلى عمق التيار اليساري القديم يوما ما، من خلال تقديم نفسها على أنها حركة عمالية. ولكن في نهاية القرن العشرين، بفضل تأثير إدوارد سعيد، تم إعادة تعريف الصهيونية كحركة، يتنافس فيها البيض والملونون على الأراضي. ويعني هذا التحول، أن اليسار لا ينحاز بقوة إلى إسرائيل.

* ينشر بالاتفاق مع وورلد أفيرز جورنال
font change