الفوضى في ليبيا وضرورة المراجعة

الفوضى في ليبيا وضرورة المراجعة

[caption id="attachment_55247664" align="aligncenter" width="620"]راجمة صواريخ مثبتة على سيارة صحراوية وكان  الليبيون هم اول من وضعوا راجمات الصواريخ على السيارات في حرب تشاد ( 1979-1987 ) قبل ان تعود للظهور مجددا راجمة صواريخ مثبتة على سيارة صحراوية وكان الليبيون هم اول من وضعوا راجمات الصواريخ على السيارات في حرب تشاد( 1979-1987 ) قبل ان تعود للظهور مجددا [/caption]

على الرغم من الاتفاق على عموميات تمثلت في ضرورة رسم خارطة طريق تفضي بالبلاد إلى وضع دستور بشكل مبدئي يكون منه الأساس في معرفة معالم الدولة، غير أن الاستعجال، كما يرى كثيرون، كان ومازال سمة بارزة في المشهد الليبي، وكذلك الخلط في التسميات وعلى رأسها مصطلح الثوار الذي أربك الوضع.

تزايد عدد الثوار بطريقة مخيفة، خصوصا أن هذه الصفة صارت لازمة لمن يحمل السلاح، وكأن هؤلاء جميعا حملوا السلاح فعلا ضد القذافي ونظامه، وتداخلت اتهامات تحولت إلى معارك بين من أسموا أنفسهم بالثوار وبين من يسمونهم بالأزلام. وتهمة الأزلام باتت تهمة جاهزة يمكن توجيهها إلى كل من خالف توجهات الثوار التي تعددت مشاربها.
وعند التركيز على ما يثار من كلام حول الثوار والأزلام نجد المشهد صار هلاميا، حيث صار من الصعب تصنيف من هم الثوار ومن هم الأزلام، وماذا يريد كل صنف مزعوم. وبين هذا وذاك ظهرت إضافات لمصطلح الثوار، فهناك من يضيف مفردة (حقيقيون) إلى الثوار في محاولات لأسباب مختلفة لكشف هوية من يسمونهم أشباه الثوار.

ووسط هذا كله يفرض الواقع قوة السلاح، لكي تكون هي الشرعية الواقعية، فالسلاح يمنع كل من يريد التأسيس لأي شيء، سواء أكان هذا الفعل من أجل البناء أم كان من أجل استغلال الفوضى لمصالح حزبية أو جهوية أو قبلية.
وهنا يبدو ضروريا الحديث عن قضايا تبدو واضحة في معمعة الفوضى العارمة، من هذه المسائل، قانون العزل السياسي.



قانون العزل السياسي




يستغرب كثير من المراقبين لماذا يختار الليبيون طريق إقرار قانون العزل السياسي، هذا القانون الهلامي الذي يتفق كثر على كونه فرض بقوة السلاح وقوة التهديد وقوة الخوف الذي شكل ضغطا رهيبا جعل أعضاء المؤتمر الوطني يقرونه.
الحديث عن قانون العزل السياسي جاء كردة فعل، كما يرى مراقبون، لما يثار قبل ذلك من مسألتين مترابطتين هما، العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.يبدو أن قصة العدالة الانتقالية، التي أثارتها نخب ناضجة، كانت خيارا قد يصنع طريقا أسهل لعزل كل من يحجزه القضاء ممن مارس ظلما ضد الليبيين في فترة النظام المنهار ووقت الثورة.

كان من الممكن أن يكون القضاء هو المحور الذي يجعل الليبيين يصلون بنوع من السلاسة إلى شاطئ المصالحة الوطنية بعد تحقيق العدالة الانتقالية. ثم جاء موضوع العزل السياسي الذي تحول إلى ما يشبه الألغام التي قد تنفجر في وجه أي ليبي، سواء أكان من الثوار أم من الذين ساندوا الثورة أم من الذين لم يشاركوا على الأقل في ظلم وقهر الليبيين عموما.
العزل السياسي بهذه الطريقة، كما يرى مراقبون، سيطول حتى من كانوا ضحايا النظام من الشهداء ومن الذين أخفاهم النظام قسرا، ومن انشقوا في زمن الثورة ومن عارضوا النظام المنهار في وقت سابق.

وهناك من يرى أن قانون العزل السياسي جاء مشوها من جوانب عدة، وأول جانب هو إقرار تحصين هذا القانون من قبل صدوره، وجانب آخر له علاقة بمن يشملهم القانون، فلربما شمل الأغلبية الساحقة من الليبيين.وهناك جانب آخر هو أن هذا القانون ربما تضارب مع عموميات الدستور الذي لم يبدأ العمل عليه أصلا من قبل المؤتمر الوطني العام.
الصراع الموجود حول قانون العزل ليس صراعا عادلا، لأن من يقودون الدفع باتجاهه منهم من يحمل السلاح ومنهم من يرفض الحوار ويركن إلى أساليب التهديد والمزايدات باسم الثورة وباسم الدين.

قانون العزل السياسي والصراع الذي حوله ولّد نوعا من النفاق ونوعا من الوصاية ونوعا من الاستسلام، فالنفاق يظهر واضحا في تصريحات كثير من السياسيين والناشطين الذين يقولون إن الشعب كله يريد هذا القانون، والوصاية يمارسها من يدفعون في اتجاه هذا القانون بالقهر بالسلاح أو بأيديولوجيات ترفض أي أفكار أخرى، والاستسلام يمارسه من قد يشملهم القانون فيكونون ضحايا الهوس المسلح.
في مقابل هذه التصريحات والفوضى نجد من يتحدث عن ضرورة الجلوس للحوار، حتى يفهم الناس بعضهم بعضا، لكن الحوار قد يكون مشوها إذا تم البدء فيه على أسس معينة يصنعها قوم خائفون أو مصلحيون أو نفعيون.


الحوار و ملابساته




في أجواء تغيب فيها، أو على الأقل تضعف فيها، مظاهر المدنية، هو الآخر مهدد بالتشوه وستكون نتائجه غير مثمرة، بل قد تكون مدمرة وتفضي إلى حالة اللا-حوار.وسائل الحوار غير ناضجة وربما لا تملك من القوة حتى تديره، وأهمها الإعلام الليبي الذي مازال يتصف بالفوضى والتبعية والمزايدات والخوف.
الإعلام كان ينبغي أن يكون أداة مهمة وخطيرة للتوعية العامة ومعالجة الرأي العام بعد معرفته ثم صناعته، هذا الإعلام مشتت لأنه ينقسم إلى إعلام تعبئة لصالح كتلة ما أو مدينة ما أو فكرة ما، وكل نوع من هذه الأنواع يدعي الحرية، هذا إلى جانب الاعلام العربي والدولي الذي لا يمكنه أن يتعامل مع الوضع الليبي من منطلقات ليبية، بل هو إعلام له مشاربه المختلفة ويثير ما يصلح به فقط.

كذلك الفوضى فيما يتعلق بالمجتمع المدني الذي لا يملك الأدوات الكاملة لكي يكون مدنيا، فمؤسسات المجتمع المدني التي تخدم المواطن وتكون وصلة مهمة بينه وبين مؤسسات الدولة غائبة إلى حد كبير، ربما لعدم وجود خبرة كافية في العمل المدني وربما بسبب عدم معرفة آلياته.
هذا الخضم يجعل الحكومة والمؤتمر متخبطين في تسيير مصالح البلاد، وتجعلهما يبرزان كأضعف مكونين في ليبيا.
فالحكومة مشتتة وضعيفة في مقابل قوة السلاح والمصالح الحزبية والجهوية، والمؤتمر مشتت في داخله لأسباب عدة، منها عدم قدرة كثير من أعضاء المؤتمر على ملء أماكنهم، فالمؤتمر لا يمارس دوره كناطق باسم الشعب الذي اختاره ولا ينفذ المطلوب منه من استحقاقات تخص المرحلة، فقد تحول المؤتمر إلى تجمع لا هوية عملية له، أما هويته النظرية فهي كونه السلطة التشريعية، هذا إلى جانب ما يعانيه من جهل ومن المصالح الخاصة والقبلية والجهوية والحزبية التي تثقل كاهله وتجعله شبه عاجز.في هذا الجو المليء بالفوضى يضيع الحوار فلا يجد له طريقا، لأن الدولة عاجزة عن إدارة هذا الحوار، أما الاعلام والمجتمع المدني فهما مثل الوهم.

ماذا تبقى من أدوات للحوار؟ النخب؟ ربما، لكن أكثر النخب هي الأخرى غير مجتمعة بشكل واضح، فالنخب السياسية تعمل كل فئة منها لأجل مصالحها الموهومة، والنخب الثقافية ذابت في الفوضى العامة فلا يوجد لها أثر واقعي، بل إن معظم النخبة المثقفة تحولت إلى كتل من الكآبة والنكد والسلبية أو ركنت إلى مصالحها.
أما النخب الاجتماعية فتقع ضحية للقبيلة أو الجهة وقد تفتقر حتى إلى المعرفة، فمصطلح الحكماء مثلا صار كالموضة، وهذا يجعل من قد يتصفون بالحكمة استثناء من هذا كله فلا يجدون طريقا لهم ليكونوا فاعلين بالحكمة.
هذه الفوضى كرست انتهاكات حقوقية وانتهاكات مالية وانتهاكات تصيب الحرية وحق ممارسة التعبير.



حقوق الانسان





هذه القيمة هجمت عليها القبيلة والجهة والتوجه الفكري فصارت ضحية لأنانية المدن والجهات والأيديولوجيات، وما خفي من انتهاكات في حقوق الانسان أكثر بكثير جدا مما تم اكتشافه.
ظهرت مصطلحات المدن الثائرة، وهو ما جعل مدنا غير ثائرة هدفا مشروعا للمدن الثائرة، وكذلك مصطلح المركزية الذي جعل معظم البلاد تشعر بالتهميش والإبعاد، فالمركزية من مخلفات النظام المنهار وكذلك من مخلفات المجلس الوطني الانتقالي الذي سارع إلى تهميش الشرق الليبي بمجرد إعلان التحرير، وهو ما جعل جميع القياديين في الدولة يتمسكون بالمركزية وكأنهم يخافون من ضياع هيبة الدولة التي لم توجد أصلا.
يرى مراقبون كثر أن الانتهاكات المالية بعد الثورة فاقت بكثير الانتهاكات التي كانت في عهد النظام المنهار، فعندما تضيع ميزانية كاملة قيمتها عشرات المليارات في أقل من ثمانية أشهر، هذا يعتبر كارثة بجميع المقاييس، قياسا إلى الانتهاكات التي كانت قبل ذلك.

الانتهاكات المالية تكونت بقوة السلاح وبالمزايدات وبعدم وجود منظومة تكشف بشفافية أوجه الصرف.
المزايدات التي انتهكت تلك الأموال، منها مزايدات باسم الدين ومنا مزايدات باسم الثورة ومنها مزايدات باسم الحقوق، وهي في مجملها أنواع شتى من الوصاية التي تجعل كل صاحب قوة يلوح بعصى وصايته على مصالح البلاد والناس.هذه المقالة قد تبدو في شكلها فوضى حقيقة، وهي تأثر طبيعي بتلك الفوضى التي تحدثت عنها، لذلك فإن الأمر يحتاج إلى عقول باردة متجردة تشخص الحالة وتدرسها وتقدم واقعا مبنيا على معلومات حقيقية لكي تكون هناك إمكانية التحليل على أساسها، وهذا التحليل يجب أن يكون في المجالات المختلفة التي ربما يستطيع من يقدموه أن يصلوا إلى مقترحات يتم تقديمها إلى طاولة أو طاولات الحوار في الشارع الليبي.
إن ما يجري هو تداعيات طبيعية لما حدث من ثورة قلبت الدنيا على النظام السابق، والوقت كفيل بحل كثير من هذه التداعيات للاقتراب من سكة قطار يتجه نحو البناء.



هل من بصيص أمل؟




هناك أدوات جاهزة تحتاج إلى دعم، وأهم أداة هي حكومة علي زيدان، فهناك رأي قوي يؤكد أن هذا الشخص لديه أدوات ومهارات تؤهله أن يقدم شيئا مما هو مطلوب منه ومن حكومته.
هذه الحكومة نجحت إلى حد كبير في الفترة السابقة على الرغم من عدم تسلمها الميزانية التي تتحرك بها، غير أن كثيرين يستعجلون كالعادة ويريدون أن يروا نتائج بشكل مباشر.
المطلوب أولا من هذه الحكومة الاهتمام بالنواحي الأمنية، بدءا من تأمين الحدود التي تتعرض للانتهاكات، وكذلك العمل على تكوين مؤسسات أمنية والجيش وأجهزة المخابرات، وهذا التحدي هو أكبر التحديات لأن المسلحين والثوار يعتبرون في جوانب معينة عوائق قوية وفي جوانب أخرى من عوامل المساعدة الجيدة.
الحكومة كذلك استطاعت أن تجعل كثيرا من أعضاء المؤتمر الوطني يقفون على ضعفهم وعجزهم أمام حكومة هي أقدر منهم، فمن أعضاء المؤتمر من اعترف بذلك، في وقت كان ينبغي أن يكون المؤتمر الداعم الأول والأهم والمراقب الدقيق لأعمال وتحركات الحكومة.

من وسائل العلاج المهمة هي الوقت، فمن وسائل العلاج المربوطة بالوقت مثلا هو أننا نرى كثيرا من المصلحيين، سياسيا واجتماعيا وجهويا وإعلاميا وحزبيا، ينكشفون أمام أنفسهم وأمام الجميع من خلال مواجهات تكشف ضعفهم ومصلحيتهم وتجعلهم ربما يقتنعون بالانسحاب وترك المجال أمام الأقدر منهم.
وحتى يقتنع الليبيون بأهمية الوقت يحتاجون إلى الصبر والمتابعة الدقيقة والهمة حتى يصنعوا مؤسسات اجتماعية تناقش قضايا خطيرة، منها سحب السلاح وتنظيمه وتوفير مجالات عمل ودعم الحكومة بطريقة حذرة.
كذلك على الليبيين أن يفكروا أنهم جزء من هذا العالم الذي وقف معهم وقت الثورة، خصوصا أن هناك كثيرا من المنظمات الدولية مازالت تعرض خدمات يحتاجها الليبيون من أجل البناء.
font change