سجال الهوية الوطنية.. وتنظيرات الوهم !

سجال الهوية الوطنية.. وتنظيرات الوهم !

[caption id="attachment_55249311" align="aligncenter" width="620"]قصر المصمك في الرياض، النقطة الأولى لتوحيد المملكة العربية السعودية قصر المصمك في الرياض، النقطة الأولى لتوحيد المملكة العربية السعودية[/caption]

منذ وقت قريب فقط سميت البطاقات التعريفية التي نحملها كسعوديين بـ«الهوية الوطنية»، وذلك بعد عقود من تسميتها بالتابعية أو الحفيظة. ومن ثمّ لاحقًا ببطاقة الأحوال المدنية نسبة للجهة القائمة على إصدارها. هذا الأمر يمكن النظر له من منطلق إداري كأمر تأخر إقراره، أو شَكلي لا يجب الالتفات له أصلاً، ولكن ما أراه بأنه أمر طال انتظاره، ورمزيته التاريخية عظيمة ومهمة، ونستطيع تأملها وتأمل تأخرها بالكثير من الاهتمام، كما أنني لن أبالغ إذا قلت بأننا سنجني ثمار هذا الأمر على المدى البعيد؛ فتسمية الأشياء بأسمائها دائمًا هي خطوة أولى في الطريق الصحيح.. أما لماذا؟ فهذا ما أنا بصدد الحديث بشأنه في هذه المقالة.

الهوية الوطنية السعودية لطالما عانت من أمرين، الأول والأقدم هو «التحريم» من قبل متشددين باعتبار المواطنة من الأمور التي تتعارض مع الدين، وهذا ما أثبتت الأيام بطلانه، ليتراجع الكثيرون عن القول به. أما الأمر الثاني فهو «التهكم» من قبل أنواع وشرائح مختلفة، منها البسيط جدًا الذي لا يعرف الوطن إلا كما عرّفه له الآخرون على أنه الراعي المسئول عن رفاهيته. ومنها أيضًا المثقف أو المطّلع الذي لا يريد للهوية أن تكون إلاّ وفقًا لما جاء به منظرو الكتب السياسية التي قرأها، أو وفقًا لتجارب أمم وزعامات أخرى. وهذه النظرة «الماضوية» تحديدًا هي ما تجمع –برأيي- بين القوميين العروبيين المتشددين، والإسلاميين المتشددين.

فهم حين ينظّرون للهوية، ينظّرون لها على أنها أمر ناجز تمامًا وثقافي بحت، ومن ثم ينظّرون لها من خلال تماشيها مع مصلحة "الأمة" التي يؤمنون بها، وبالتالي فهي إما شر مطلق أو خير مطلق. ويبقى المطلوب منا كأمة سعودية، إما رفض هذا الشر وتحريمه، وفقًا لتصور هذا المتشدد الإسلامي، أو الأخذ بهذا الخير المطلق، كما جاءت به الكتب والتجارب الأرضية التي يوقن بها القومي!

ولكن، بعيدًا عن الخوض في كثير من الفلسفات التاريخية السياسية. فإنّ الهوية الوطنية كما أعرفها وكما يمارسها يوميًا كل مواطن في هذا الزمن -دون استخفاف بشأنها ودون تعقيد- لم تعد ذلك الأمر الثقافي أو السياسي المعقّد، فهي عمليًّا ذلك «الرقم» (سجل الحاسب الآلي) الذي سعدنا حين أُقر السماح للمرأة بالحصول عليه، بشكل منفصل، بل وإلزامها في كثير من الحالات بالحصول عليه. وما زلنا نسعى لأكثر من ذلك مستقبلاً. فالفرح بهذا الرقم لا ينتقص من قيمة المواطن، بل على العكس هو النتيجة المدنية لأيِّ حراك أو تقدُّم مؤسساتي مدني، وهو ما تسعى له معظم النظريات الفلسفية السياسية التي يحاول القومي، اليوم، شرحها وتلخيصها.

لذلك، فبينما الكثير من القوميين مشغولون افتراضيًّا -كعادة كل أصولي- بالتنظير لهذه الأمور التاريخية لإسقاطها على الحاضر. فإننا واقعيًّا ندعو للاستفادة مما هو متاح اليوم واستثماره حياتيًّا. فنحن -وبكل بساطة- نريد من جميع الدوائر الحكومية أن تتعامل معنا كأرقام لها الأولوية والحق كمواطنين في تعليم جيد، ورعاية صحية مميزة. ولا نريد لمناطقنا أو قبائلنا أو عوائلنا أن يكون لها أي دور في هذه النظرة. وكذلك هو الأمر فيما يتعلق بلهجاتنا أو طوائفنا ومذاهبنا التي يغيبها هذا الرقم. نريد لهذا الرقم أن يهتم بالكفاءة، وأن لا يفرق بين امرأة أو رجل، ولا بين أعجمي أو «عربي» إلا بالتقوى، و«التقوى» هنا هي سجلك المدني الخالي من أي شوائب جنائية أمنية، أو حتى مخالفات مرورية.

نعم، هذا ما تفعله الهوية الوطنية، وهذا ما يدعو له رقمها السحري من عدالة ومساواة وتقدير، وهو نفس الرقم الذي نحاول الاستخفاف بقيمته حين نستخف بمفاهيم الهوية القُطرية المدنية؛ إما لأننا اعتدنا وجوده أو لأننا متعصبون لصالح الإعلاء من شأن هويات ثقافية؛ قومية عروبية أو إسلامية أممية، وكأننا نريد اختراع العجلة من جديد حين نُشغل الشباب بحوارات «مفاهيمية» ورؤى تاريخية حول الهوية والدولة. نقاشات وأسئلة حول نشأة الدُول ومسمياتها نحاول من خلالها استعراض عضلاتنا الثقافية تاريخيًّا لنتباهى بعد ذلك بأننا نحن من أشاع هذه الثقافة السياسية بين الشباب، بينما كل ما نعمله هو إثراء قاموس الشباب بمصطلحات جديدة للشتيمة المعرفية، منها التاريخي العالمي كـ"فاشي" أو "شمولي"، أو محلية الصنع كـ"جامي".

ملخص حديث العروبيين تحديدًا ومثلهم الإسلاميين، يدور حول أن الدولة القُطرية الحديثة لا تستطيع إقامة هُوية يُعتمد عليها لذلك لا بد من الاتكال على هويات ثقافية، عروبية أو إسلامية، وهذا في الواقع تنفيه حتى ممارساتهم اليومية كأشخاص، فعلى سبيل المثال أول متطلب للابتعاث على الصفحة الإلكترونية للتقديم هو إدخال رقم الهوية الوطنية وليس الهوية الثقافية، هذا فيما يختص بأمورنا الحياتية الأقرب، أما في ما يتعلق بـ «الجماعة السياسية» الأكبر والتي تشغل بالهم باستمرار، فالحديث يطول عن تبدل مفاهيم السيادة والعلاقات الدولية، فما يمكن أن تجنيه اليوم من تحالفات ديبلوماسية سياسية بسيطة ولكن عميقة، أكبر بكثير مما يمكن أن تحصل عليه من تكتلات كبيرة عرقية، مرهقة وبعيدة المنال.

لست مع الانغلاق أو ضد الإحاطة بثقافة الشعوب وتجاربها السياسية والاجتماعية، ولست ضد تعدد الهويات الثقافية، ولكني بالتأكيد ضد أن يأتي كل هذا على حساب ما هو واقعي ومُمارَس (وهذا الأهم)؛ فقط، لأنه أصبح في حكم الاعتيادي والعادي، وكأننا نترفّع عن هذه الأمور بحكم اهتمامنا الثقافي النخبوي، على الرغم من أن هذه الأمور تصب في عمق القضية الوطنية. فأنا كفرد مواطن، يؤمن بالدولة القُطرية، لا يهمني أن تسألني إن كان هذا الرمز السياسي أو الديني الراحل يمثلني أو لا؟ أو إن كانت تلك الرؤية التاريخية تعنيني أم لا؟

بقدر ما أريد منك أن تشاركني المستقبل بناءً على ما هو موجود أساسًا من خلال العمل على صناعة هذا الفرد المواطن، والبحث دائمًا عن مُشترَك يعزز اللحمة الاجتماعية، ويعزز ترابطها، دون محاولة تقويض كل شي وهدمه أو الاستهانة به فقط لأنه لم يتوافق والنظريات التي قرأتَها أو الزعامات التي عظمّتَها. ومن هنا –برأيي- تبدأ صناعة «الذاكرة المشترَكة» التي تبحث عنها في الماضي، وأبحث عنها في المستقبل. والتي نستطيع من خلالها -ولو بعد حين- المفاخرة، محليًّا وعالميًّا. فمن لا يستطيع أن يفرّق بين صناعة «الإنسان» وصناعة «الدولة». أو أن يفرق بين معضلة صناعة الفرد «المواطن»، وحتمية المجتمع «الثقافي» المتنافِر، سيظل يحلم، وسنظل نحاول إيقاظه، لعلّ وعسى!
font change