تعمير غزة عبر لاهاي

تعمير غزة عبر لاهاي

[caption id="attachment_55266346" align="aligncenter" width="955"]جانب من اثار العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة جانب من اثار العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة[/caption]

وهنا أستحضر أولا خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي سمى الأشياء بأسمائها، ووصف ما يجري في غزة بـ«المجازر»، قائلا: «إن المجازر التي ترتكب في حق الفلسطينيين في غزة تجري تحت سمع المجتمع الدولي وبصره، إن دماء الفلسطينيين تسفك في مجازر جماعية دون وازع إنساني أو أخلاقي، وهي جرائم حرب ضد الإنسانية».

وأذكر هنا أيضا - مع الفارق في الوصف - ما قيل في الجمعية العامة على لسان الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، في اجتماع دولي خاص بعد أسبوعين من العدوان، وبعد استهداف القصف الإسرائيلي مقار الأمم المتحدة في غزة؛ إذ يقول حرفيا: «هل علينا أن نبني ونهدم، نبني ونهدم، ثم نبني، ومن ثم نهدم؟ يجب أن يتوقف هذا، فالعودة إلى ما كانت عليه الأوضاع في غزة لن يحل المشكلة، ودوامة المعاناة يجب أن تتوقف. غزة جرح مفتوح، والضمادات لن تساعده. يجب أن تكون هناك خطة تسمح لغزة بأن تتنفس وتتعافى».
لكن، كيف يمكن لغزة أن تتنفس إذا كان الغزاويون أنفسهم لا تسمح لهم إسرائيل أن يتنفسوا حتى هواء مدنهم في رام الله، أو القدس، في ظل حصار خانق دام لمدة 8 أعوام؟
كيف يمكن لغزة أن تتعافى دون أن نضيف إلى بيان الأمين العام الجهة المسؤولة عن الهدم، وهي إسرائيل؟ وكان من الأجدر أن يقول: هل علينا أن نبني وإسرائيل تهدم، نبني وإسرائيل تهدم، مرة واثنتين وثلاثا، حتى يسمع الصم.

كيف يمكن أن تردع إسرائيل نفسها عن تكرار متعتها في الهدم والتدمير وقتل المدنيين دون رادع دولي قانوني وإنساني؟
وهذا هو تحديدا ما لفت النظر إليه وزير الخارجية السعودية، الأمير سعود الفيصل، في الاجتماع الطارئ للجنة التنفيذية في منظمة التعاون الإسلامي الخاص بغزة؛ إذ قال: «لا وقت للعزاء أو استجداء الحلول، إنه من المهم ألا نعفي أنفسنا من تحمل المسؤولية، إن وقوفنا خلف حقوق الشعب الفلسطيني سيجعل العالم يدرك تماما أنه ليس بوسع إسرائيل أن تستمر في عدوانها على الفلسطينيين دون أن تدفع الثمن».تعرضت غزة لـ3 حروب في 6 سنوات، فكيف يمكن لشعب نصفه من الأطفال أن يتحمل كل هذه المعاناة؟.


بيت وشحنة إسمنت




حدثنا شاهد عيان من غزة عن قصص معاناته اليومية، وسأذكر واحدة منها، وهي قصة بيته مع حربين: «عمود السحاب» و«الجرف الصامد». دمر بيت هذا الصديق جزئيا في حرب 2012، ووصف لنا ما عاناه عقب ذلك من أجل الحصول على تراخيص لترميم البيت. ووصف كثرة المعاملات المعقدة لشراء كمية الإسمنت اللازمة للبناء، وتعقيدات تأمين المال اللازم للمستلزمات الخاصة بالترميم. وبعد عامين من الانتظار الطويل، تنفس الصعداء، فقد وصلت الشحنة في أوائل شهر يوليو (تموز) 2014. لكن في التاسع من الشهر نفسه 2014 استهدفت الطائرات الإسرائيلية بيته للمرة الثانية فدمر تماما، وضاعت معه شحنة الإسمنت. والمفارقة هي أن إسرائيل هي التي تبيع السلع للفلسطينيين، وهي من يدمرها ثانية، كما حدث مع معمل الصابون في غزة الذي دمرته تماما الطائرات الإسرائيلية قبل الهدنة الثانية بدقائق، وبعد تسليم الشحنة المطلوبة مباشرة.



غزة تدفع دائما فاتورة الاحتلال والعدوان




قصة فلسطين مع الحروب قصة طويلة بدأت منذ 1948، مرورا بـ1956، و1967، ثم وصولا إلى الحرب الحالية. وما عانته غزة تحديدا قصصه موجعة ومكلفة بشريا واقتصاديا واجتماعيا.
لم تلملم غزة وجعها بعد، ولكنها مع كل دقيقة هدنة تبحث بين الأنقاض عن عزيز مفقود، وتبحث عما يمكن إنقاذه من بين الدمار. وتبدأ المؤسسات الدولية مع أهالي غزة - مستغلة أي وقف لإطلاق النار - في تحديد حجم الخسائر البشرية والمادية والاجتماعية، فحرب «الجرف الصامد»، أو «العصف المأكول»، كما تطلق عليها حركة حماس، ليست ككل الحروب التي شهدتها غزة؛ إذ إن إسرائيل - وفقا للمعلومات الموثقة لدى منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية، ومركز «ميزان» في غزة، والحق في الضفة الغربية، وبيت سالم في إسرائيل، ووفقا للأمم المتحدة - تمكنت في هذه الحرب من أن تبين لغزة وللعالم مقدرتها الخارقة على التدمير والقتل، وملاحقة الأطفال والشيوخ.


[caption id="attachment_55252172" align="alignleft" width="300"]الرئيس محمود عباس الرئيس محمود عباس[/caption]

وتبلغ أصغر شهيدة فلسطينية لقيت حتفها في غزة، وهي هالة أبو ماضي التي قتلت في 2 أغسطس (آب)، 10 أيام، ويبلغ أكبر شهيد قتل في 3 أغسطس 93 عاما.
ولعل يوم 30 يوليو (تموز) الماضي هو يوم «التقتيل الأكبر»؛ إذ قتلت إسرائيل 95 فلسطينيا من 10 عائلات. كما قتلت إسرائيل في 26 يوليو الماضي 11 طفلا. وسجلت الوثائق إصابة الجرحى أنفسهم أكثر من مرة، فقد تعرض أعضاء 59 أسرة من الجرحى إلى تكرار إصابتهم في هجمات متتابعة.

ويقول حمدي شقورة، من المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان: «المؤكد أن العائلات في هذه الحرب كانت هدفا متعمدا، فعائلات بأكملها جرى طحنها تحت الركام، وقد وثقنا 143 أسرة، اثنان أو أكثر من أعضائها أصيب».
وفي حديث لـ"المجلة" مع الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل، الذي عاش حروب غزة جميعا، سألته عما يميز هذه الحرب فقال: «التدمير الهائل الذي مارسته إسرائيل ضد المدنيين، وصمود وتصدي المقاومة وقدرتها على إنزال الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي، وقدرتها على صد العدوان، سيدفع الإسرائيليين إلى مراجعة كل نظرياتهم العسكرية والأمنية التي وضعوها منذ عام 1948 حتى الآن».

وقال عدنان أبو حسنة، المستشار الإعلامي في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين في حديثه معنا: «إسرائيل لأول مرة تستهدف البنية التحتية وتدمرها تدميرا كاملا، ونتوقع أنه مع حلول عام 2016 لن توجد نقطة ماء واحدة صالحة للشرب في غزة، وتفويض الأمم المتحدة توسع ليشمل الآن كل سكان القطاع».



حصار خانق يقلص خيارات أهل غزة





قد يكون الصمت العالمي هو السبب وراء تجرؤ إسرائيل على انتهاك حقوق الإنسان وارتكاب جرائم حرب ترقى لجرائم ضد الإنسانية، فاستهداف المدنيين - وتحديدا الأطفال - واستهداف المستشفيات وتعمد تدمير البنية التحتية، لا يمكن تبريره قانونيا.
في حرب «الرصاص المصبوب» في عام 2008 رغم الارتفاع الكبير في عدد الشهداء؛ إذ وصل إلى أكثر من 1500 فلسطيني وآلاف الجرحى، لم يستهدف العدوان الإسرائيلي البنية التحية، واستمرت الحياة في غزة رغم استمرار الحرب 21 يوما. ووفرت الكهرباء لكل القطاع لأكثر من 10 ساعات يوميا، كما استمر القطاع المصرفي في العمل، ولم تغلق الأسواق. ودمر جزء من المناطق السكنية القريبة من الحدود.

ودمرت إسرائيل في عملية «الرصاص المصبوب» - أو «حجارة سجيل» كما تسميها المقاومة - 7500 منزل، وقدمت وكالة غوث اللاجئين (أونروا) مساعدات لأكثر من 50 ألف أسرة.
وقد يعتقد البعض أن إسرائيل في حرب «الرصاص المصبوب» لم تستهدف في التدمير القطاعين الصناعي والزراعي، لكن لا بد هنا من التذكير بأن إسرائيل فرضت على غزة منذ 2006 حصارا خانقا جعلها تنتحر في كل يوم لتأمين لقمة العيش، فالأنفاق التي كانت المنفذ التجاري الوحيد لأهالي غزة قتلت أكثر من 600 شخص - بحسب ما ذكره لي أبو حسنة - بسبب انهيارات بعضها، أو بسبب الصعق الكهربائي. كما أن مولدات الكهرباء التي كان يستخدمها السكان بسبب انقطاع الكهرباء أدت إلى اندلاع عشرات الحرائق في البيوت، وأدت إلى مقتل المئات - كما يقول أبو حسنة - بسبب انفجارها. أضف إلى هذا مئات المرضى الذين قتلوا بسبب انعدام الدواء.



أطفال غزة





لم تكن حرب «الجرف الصامد» حربا عادية بكل المعايير، فهي حرب انتقامية عبثية بلا أهداف سوى التدمير والقتل المتعمد للعائلات والإمعان في القتل. ولن ينسى العالم أطفال الشاطئ الذين مزقتهم إسرائيل دون اكتراث، ولن ينسى المستشفيات، ومراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة التي استهدفتها إسرائيل بعدوانها على مرأى من العالم. وأماكن العبادة التي تحولت إلى مراكز إيواء للنازحين استهدفتها إسرائيل فدمرت حتى الآن، 161 مسجدا، 41 منها بشكل كلي، و120 منها بشكل جزئي. وقد قصف بعض هذه المساجد على رؤوس من فيها من لاجئين ومصلين.

وبعد أسبوعين من العدوان استهدفت محطة توليد الطاقة الوحيدة في غزة، وقصفت ثلاث مرات. وانعدمت مصادر المياه أو تقلصت إلى أدنى مستوى أمام 1.2 مليون فلسطيني. ومع نهاية شهر يوليو الماضي، استهدف القصف الإسرائيلي 18 مستشفى ومركزا طبيا.
قطاع غزة - وعلى الرغم من الضجة الإعلامية التي أثارها في كل العالم بسبب العدوان عليه وصموده - هو قطاع صغير جغرافيا يصل طوله إلى 45 كلم فقط، أما عرضه فيتفاوت بين 5 كلم، كالمنطقة الوسطى التي تتكون من البريج والنصيرات والمغازي وجحر الديك، و15 كلم، كمنطقة رفح. ويبلغ عدد سكان القطاع 1.8 مليون نسمة، 51 في المائة منهم تحت سن 18، أي إن نصف سكان غزة من الأطفال، وقد فقدت غزة في الشهر الأول للحرب 440 طفلا تحت سن 15 عاما.
وبلغ مجمل عدد الضحايا - وفق التقديرات الأولية - 1960 شهيدا. وعلى الرغم من صغر القطاع واكتظاظه بالسكان، فإن إسرائيل أعلنت 44 في المائة من مساحته، وعلى عمق 3 كلم، منطقة محظورة على الأهالي.


[caption id="attachment_55252173" align="alignright" width="300"]ناشطة امريكية مناهضة للعداون على غزة ناشطة امريكية مناهضة للعداون على غزة[/caption]


ويقول لنا الكاتب والمحلل السياسي، طلال عوكل، وهو من سكان غزة: «استكملت إسرائيل في عدوانها الحالي التدمير الذي بدأته في الحروب السابقة، وكأنها ترغب في خلق شريط عازل على الحدود غير قابل للعيش أو السكن؛ إذ دمرت تماما كل المناطق القريبة من الحدود، وتوغل التدمير ليصل إلى أكثر من 2 كلم في عمق غزة، فمسحت المناطق الواقعة شرق رفح، وقضت على معظم السكان في مجزرة متعمدة، كما دمرت شمال غزة أيضا مرتكبة مجازر مشابهة، كما حدث في خزاعة والشجاعية وبيت لاهيا وجباليا».
ويضيف عوكل أن «التدمير الكلي أصاب - وفق التقديرات الأولية - نحو 10.500 وحدة سكنية، وأدى التدمير الكلي أو الجزئي إلى تشريد 450 ألف فلسطيني، وفتحت مراكز إيواء لهم في المدارس والمساجد».
وأكد لنا المستشار الإعلامي في وكالة غوث اللاجئين عدنان أبو حسنة حجم الكارثة التي أصابت غزة قائلا: «جرى فتح 90 مركزا للإيواء، وتحول كل سكان القطاع إلى لاجئين أو نازحين، وارتفع عدد النازحين حاليا إلى 1.3 مليون. هناك مناطق في غزة، كالشجاعية وخزاعة، تذكرك بالحرب العالمية الثانية، وكأن زلزالا مدمرا أصابها».



مؤتمر المانحين




لا يمكن في هذا التحقيق أن نتناول الواقع على الأرض بكل تفاصيله، لكن يمكن أن نستمع لمن عاش وعايش الأحداث دقيقة بدقيقة، وهنا يقول الكاتب طلال عوكل: «لقد استشهد حتى الآن 2016 وأصيب 10193 فلسطينيا من بينهم 3084 طفلا. كما استهدف القطاع الزراعي بكل جزئياته، فقد دمرت الأراضي الزراعية على طول شمال شرقي غزة، وأحرقت مزارع الأبقار والدواجن. وتشير التقديرات الأولية إلى أن الخسائر قد تفوق 150 مليون دولار». كما تحدث عوكل عن القطاع الصناعي، فقال إن «60 منشأة ومصنعا دمرت، وقدر الخسائر بما لا يقل عن 200 مليون دولار، هذا بالإضافة إلى توقف العاملين في هذه المنشآت عن العمل».

كما يؤكد عدنان أبو حسنة، المستشار الإعلامي للـ«أونروا» في غزة، أن «أخطر ما في هذه الحرب أنها سحقت الطبقة الوسطى وما فوق الوسطى، فأغنياء غزة وسكانها الأصليون أصبحوا اليوم لاجئين». ويضيف أبو حسنة أن جميع سكان غزة اليوم بحاجة إلى مساعدات.
وعندما سألته عن مؤتمر المانحين الذي سيعقد في القاهرة قريبا، قال: «نريد أن نعمر غزة، ولكن هل سيدمر ما سنبنيه مرة أخرى؟ فما يوقف التدمير هو ألا ينزع الأمل من طريق أهل غزة، وأن يتوقف الحصار، فعندما يتساوى الموت بالحياة، لا حل».
وأضاف المستشار الإعلامي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين: «في هذه الحرب التدمير أكثر بكثير مما شهدناه في الحروب السابقة، فقد استهدفت إسرائيل خطوط الصرف الصحي، وخطوط المياه والكهرباء، وخطوط محطات التحلية. هناك مناطق في غزة عاشت بلا كهرباء لمدة 15 يوما، وهناك مناطق في غزة عاشت بلا ماء 20 يوما، فالحياة تعطلت تماما، أغلقت البنوك، وأغلقت الأسواق، وانتشرت أمراض وأوبئة اعتقدنا أننا لن نراها ثانية، مثل الجرب».



إسرائيل تدفع فاتورة عدوانها لأول مرة




التزمت إسرائيل بالصمت حتى الآن بخصوص الحديث عن التكلفة العسكرية والأضرار الناجمة عن القصف الصاروخي لحرب «الجرف الصامد». لكن التقارير الإعلامية الإسرائيلية قدرت التكلفة الإجمالية للحرب بما بين مليارين ونصف، و3 مليارات و600 مليون دولار، بما في ذلك التكلفة العسكرية التي قدرت مبدئيا بما يتراوح بين مليار و300 مليون، ومليارين ونصف مليار دولار. أما الخسائر الاقتصادية، فتقدر بمليار و300 مليون دولار، تكبد فيها قطاع السياحة الضربة الأكثر إيلاما.
وقال وزير المالية الإسرائيلية يائير لبيد في مؤتمر صحافي إن على إسرائيل ألا توفر شيقلا واحدا في تعويض الجنود - بمن فيهم سكان المستوطنات، الذين هم من وجهة نظره جنود إسرائيل.



بعض الأرقام الخاصة بفاتورة العدوان





القبة الحديدية: يمولها دافعوا الضرائب في أميركا، وتصل تكلفة الصاروخ الواحد إلى 50 ألف دولار، وتقول إسرائيل إنها تمكنت من تفجير 584 صاروخا، من بين 3460 صاروخا. أي التكلفة وصلت إلى مليون دولار في اليوم الواحد، وهذا ما جعل الكونغرس الأميركي يتعجل في التصديق على مساعدة لمشروع القبة الحديدية وصلت إلى 225 مليون دولار، حتى دون إعلام البيت الأبيض.

القنابل الذكية: من الصعب في ظل تكتم الجيش الإسرائيلي الشديد معرفة عدد القنابل التي استخدمت ضد أهالي غزة، لكن مصدرا في مركز دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب قدر التكلفة الخاصة بكل طلعة جوية بـ15 ألف دولار. وقد بلغ عدد الطلعات في الأسابيع الأربعة الأولى إلى 4900 طلعة، بالإضافة إلى عدد كبير من القنابل الرخيصة وعديمة الدقة، التي استخدمتها إسرائيل ضد المدنيين في غزة.

استدعاء الاحتياط: من المعروف أن عدد الجيش الإسرائيلي ليس كبيرا، فهو يعتمد - في الأساس - على جيش الاحتياط الذي ينضوي تحته معظم الإسرائيليين. واستدعت إسرائيل في حرب «الجرف الصامد» 82 ألف جندي احتياط، وتقدر تكلفة الجندي الواحد اليومية بـ147 دولارا، بما في ذلك طعامه، ومأواه، وزيه العسكري، وسلاحه. وإذا صحت هذه التقديرات فقد تصل التكلفة إلى 200 مليون دولار، دون حساب الراتب.

الخسائر البشرية والمادية: أما فيما يخص عدد القتلى والجرحى، فهناك تكتم رسمي كبير، وروايات إعلامية متعددة. لكن المعلن أن عدد القتلى من الجنود الإسرائيليين وصل إلى 65، ما بين جنود وضباط، ومن المدنيين 3. ووصل عدد الجرحى إلى 651 جنديا، و23 مدنيا. وقد تصل تكلفة العلاج - وفقا لوزارة الصحة الإسرائيلية - إلى 4.4 مليون دولار. يضاف إلى هذا تعويضات قد تصل إلى 14.6 مليون دولار لمن تضررت مساكنهم، جراء الإصابة بالصواريخ. وقد تسلمت الحكومة بلاغات من 2500 شخص بأضرار في مساكنهم. وهناك أيضا تعويضات الموظفين في الجنوب الذين تعطلت أعمالهم بسبب الحرب، ولا يعرف بعد كيف ستدفع التكلفة.


[caption id="attachment_55252174" align="alignleft" width="300"]احد عناصر المقاومة الفلسطينية يشير بعلامة النصر احد عناصر المقاومة الفلسطينية يشير بعلامة النصر[/caption]

ولعل القطاع المدني كان أكثر القطاعات تضررا؛ إذ وصلت خسائر الناتج القومي - وفقا لسلطة الضرائب في إسرائيل - إلى 1.3 مليار دولار. ويضاف إلى هذا قطاع السياحة الذي تكبد أكبر الخسائر، فقد انخفض عدد السياح المتوقع حتى نهاية العام إلى النصف، من 600 ألف سائح إلى 300 ألف سائح. وسيكلف هذا شركات السياحة 350 مليون دولار، ويكلف الفنادق 375 مليون دولار.

وستحاول إسرائيل بطبيعة الحال أن تضخم من تكلفة الحرب لتحصل على مزيد من الدعم المادي والمعنوي من صهاينة العالم. وهنا أتذكر نكتة روتها لي سيدة يهودية نجت من محارق النازية، إذ قالت لي في سياق حديثها عن المناورات التي يتبعها الإسرائيلي: «قتل يهودي أمه وأباه، وعندما وقف أمام القاضي لمحاكمته، بكى، وطلب من القاضي الرأفة بحاله لأنه يتيم الأب والأم».. فهل سيسمح العالم هذه المرة لإسرائيل بأن تناور وتنجو من العقاب؟



لماذا أرادت إسرائيل هذه الحرب؟





أكثر ما يقلق إسرائيل هي وحدة غزة والضفة، فبعد اتفاق المصالحة في أبريل (نيسان) 2014، شكل أبو مازن حكومة تكنوقراط، ليس فيها عناصر من فتح أو حماس، ورحبت أميركا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بالحكومة الجديدة، وأعرب الجميع عن استعدادهم للتعامل معها. وأدى هذا إلى غضب إسرائيل التي نددت على لسان نتنياهو بالحكومة وبالمصالحة.

واستخدمت إسرائيل قصة اختفاء 3 مستوطنين في جريمة مدنية لشن حرب على الضفة الغربية ومعاقبة أهلها بعمليات بحث مفتعلة لمدة أسبوعين، رغم أنها كانت قد وجدت المستوطنين الثلاثة بعد ساعات من فقدهم، لكنها استخدمت الحدث لمعاقبة الشعب الفلسطيني وإفشال المصالحة. وقتل في عملية البحث الوهمية 29 فلسطينيا معظمهم من الأطفال، وأصيب المئات. كما اعتقلت قوات الأمن الإسرائيلية المحتلة المئات، ومن بينهم المفرج عنهم ضمن صفقة شاليط. ولم تنته حماقات إسرائيل عند هذا الحد، بل حملت حماس مسؤولية خطف المستوطنين الثلاثة، رغم عدم وجود أي دليل أو اعتراف من حماس. وشجعت الحملة المتطرفين الصهاينة على خطف الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير في شرق القدس وإحراقه حيا. وفي رد فعل على تلك الانتهاكات الفظيعة قصفت فصائل المقاومة في غزة إسرائيل.

أعلنت إسرائيل في 8 يوليو الماضي - مستغلة انشغال مصر بقضايا «الإخوان»، وتوتر العلاقة بينها وبين حماس، ومستغلة الغطاء الرسمي الدولي لجرائمها - بدء عملية «الجرف الصامد».
وكانت غزة حينها، وبسبب الحصار، تعاني من وضع صحي وإنساني واقتصادي مأساوي، معزولة عالميا ومفصولة عن الضفة الغربية.
ومعروف أن ما تعلنه إسرائيل عن أسباب تلك الحرب لم يكن واضحا، بل على العكس، أظهر تخبطا واضحا في مجلس الوزراء المصغر المعني بإدارة الحرب.. فتارة تعلن إسرائيل أن الحرب للقضاء على الصواريخ، وتارة أخرى لتدمير الأنفاق. لكن الحقيقة التي لم تعلنها إسرائيل هي أنها لا تريد الوحدة بين غزة والضفة. وفي أدبيات احتلالها، يجب أن تبقى غزة معزولة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا عن الضفة.والسؤال هنا هو: هل استطاعت إسرائيل تحقيق هذا الهدف؟
ما تحقق كان عكس ما أرادت إسرائيل تماما.. فالأمن المنشود يتضاءل، والمقاومة الفلسطينية لم تعد نهج الفصائل فقط، بل باتت نهجا شعبيا فلسطينيا، والوحدة بين الضفة وغزة لم تعد مطلبا شعبيا فقط، بل مطلبا سياسيا ورسميا واجتماعيا.

واضطرت إسرائيل - رغم عنجهيتها الاستعمارية - تحت نيران المقاومة الفلسطينية إلى إلغاء مشروع سكة حديد النقب لأنه يقع في مرمى صواريخ المقاومة. وقد يبدو العالم رسميا صامتا، لكن الشعوب تحركت ضد ما ترتكبه إسرائيل من فظائع، فقد بدأت عمليا انتفاضة شعبية عالمية لا تقل تأثيرا عن انتفاضة الحجارة الفلسطينية، ولا تقل في تأثيرها عن انتفاضة الشعوب على نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.
العنف يولد العنف، وتكلفة الحل السلمي دائما أقل بكثير من تكلفة الحرب، ولعل أكبر ثمن تدفعه الإنسانية جراء صمتها عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل هو خلق جيل لا يؤمن بالسلام حلا. فقد كلف انتظار الفلسطينيين بعد أوسلو لتسوية نهائية الكثير من الشهداء والمعتقلين، وقضم الأرض والتهويد. ويكفي أن نذكر هنا أن إسرائيل دمرت في الضفة الغربية في مناطق أوسلو (المحررة) 490 منزلا في عام واحد، وقتل المستوطنون وقوات الأمن - خلال 10 سنوات - 1900 طفل فلسطيني. ومنذ عام 2000 وحتى الآن اعتقل 8000 طفل فلسطيني. وعلى مدى 42 عاما من الاحتلال اعتقلت إسرائيل 700.000 امرأة فلسطينية في غزة والضفة الغربية.



أهلا بكم.. فهذه غزة تحييكم





وعلى الرغم من كل الدمار، فلا يزال الطفل الفلسطيني يبحث بين الركام عن كتبه، وعن ألعابه.. ففي غزة لا يزال هناك مكان للحياة، فالمدارس - كما أكد لنا المستشار الإعلامي للـ«أونروا»، عدنان أبو حسنة - ستفتح أبوابها للدارسين في موعدها المحدد، وأكد أن الخطة اللازمة لذلك، وبالتعاون مع وزارة التعليم الفلسطينية، قد وضعت بالفعل.
وأكدت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة ولادة ما يقرب من 5000 مولود غزاوي جديد خلال 30 يوما من القصف. وهذا الرقم يستثنى منه من ولدوا في مراكز الإيواء. فالحياة لا تزال في غزة تصرخ في وجه الموت، ومسؤوليتنا ألا نغرقها ثانية في جولة حرب جديدة.
ولعل أفضل ما أختتم به هذا التحقيق هو التحذير الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في كلمته التي تناول فيها العدوان الإسرائيلي على غزة، فقال: «إن هذه الجرائم ستخرج جيلا لا يؤمن إلا بالعنف، رافضا السلام، ومؤمنا بصراع الحضارات لا بحوارها».

font change