فيروز.. مرور أغنية سلام

فيروز.. مرور أغنية سلام

FullSizeRender

طلب عاجل إلى «اتحاد الأطباء العرب» بتوفير أغنياتها في الصيدليات للعلاج النفسي



منصف المزغني وعلي المندلاوي


1-




في ثلاثينات القرن الماضي، في بيروت، لم يكن السيد ربيع حداد والد نهاد (بنت السنوات الخمس، ولاحقاً أمّ زياد) قادراً على شراء جهاز راديو، فهو موظف صغير في مطبعة لجريدة ويمثل امتلاكُ هذه الأجهزة نوعا من الترف في تلك السنوات التي كان العالم يحيا فيها تفاعلات الحرب العالمية الثانية، ولبنان تحت الانتداب الفرنسي.
وبسبب من ضيق ذات اليد، ولأن البنت نهاد ليست بنت أبيها فقط، فهي بنت الموسيقى كذلك، فإنها ستجلس إلى الشباك لتسترق السمع، لا إلى أخبار الجيران بل إلى ما يتناهى إليها من جهاز راديو الجيران، وتشنف الأذن بأصوات شدتها، مثل محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وليلى مراد، وجارتها القريبة أسمهان، وأخيها فريد الأطرش.


2-




في سن الخامسة، تدخل البنت نهاد ضمن كورس الإذاعة اللبنانية، ولكن والدها يخشى عليها من أن تصير مغنية لعموم الناس. وهكذا يتفاوض الملحن محمد فليفلة (واضع لحن النشيد الوطني السوري) مع والد البنت نهاد من أجل أن تغني للعموم، فلا يقتنع الوالد إلا بشرط، هو أن تكون الأغاني وطنية المنزع.


3-




سيتمّ اكتشاف صوتها على يد حليم الرومي، الذي لحن لها أول أغنية خاصة بها، وسيتم الاتفاق على أسماء كثيرة لنهاد حداد، ليصبح باختصار اسما لحجر كريم، وَذَا إيقاع موسيقى لا تخطئه الأذن: فيروز.


4-



في مناخ من البحث عن الصوت الجديد، كانت فيروز تنتقل مثل حجر كريم، لا بد له أن يحظى بالعناية والصيانة، ولا بد من يد أمينة تحافظ على هذا الصوت الصغير الواعد، فهو نادر ولا يتكرر، ولا بد من يد قادرة وأمينة، ومَن «جواهرجي» يعرف قيمة الفيروز مثل الملحن الصاعد عاصي الرحباني، الذي سيخطب صوتها بأغنية، ثم يتزوجها، ثم ينشئ بها مع أخيه عمارة من الموسيقى الجديدة، والأحاسيس الفريدة، بأغنية قصيرة ومعنى واضح، ويؤسس إمبراطورية بأسرها، تسمى «فيروز والرحابنة» وينتج عن هذا الزواج مع عاصي أول الأبناء، الذي سوف يغذي أمه بالحنان، وبألحان زياد رحباني.


5-




منذ أن انطلقت فيروز سنة 1955 كانت مثل نهر لا ينضب، ولا يتوقف، يعبر الوديان والألحان، والأشجار والأشعار، والأعوام، ومختلف المقامات والفصول والجبال والنساء والرجال والأطفال.
وتؤلف فيروز من كل هذا كوكتيلا رقيقا من عواطف جميلة بلا كلفة، وموضوعاتها تنقد الحاكم والمحكوم، وتتغنى بأغلب المدن العربية، مثل القدس، ومكة، وبغداد، والشام، وتونس، دون أن تلامس أصحاب السلطة أو تأتي على ذكرهم في كل ما غنت، ولكنها كانت تغني الحرية وشمس الحب، دون ذلك العنف أو المبالغة التي تعرفها مجمل الأغاني العربية.
وحتى في أغنية فيروز الأشهر عن القدس، كانت تأخذ من عشاق القدس عيونهم وترحل بها، في رحلة لا تنتهي، وهي تغني بحزن شفيف:
«عيوننا إليك ترحل كل يوم»


6-



لقد عاشت فيروز كل عمرها هذا الجميل المتواصل، ولم يعرف عنها الناس غير أنها فيروز. كانت حياة صعبة، فيها من الصمت أكثر مما فيها من البوح، وفضلت أن تكون مجرد أغنية سلام، في مواجهة ما جرى للبنان من تدمير في سنوات الحرب الأهلية.
حين اشتعلت بيروت، استقرت فيروز، ولم تخرج من بيروت، ولم تغنّ لأحد، بل رفضت الغناء أصلا، وسكت صوتها الصداح، عندما ارتفعت أصوات السلاح، واشتعلت النيران الصديقة والشقيقة.
لم تستجب لأي طرف أو طائفة أو حزب، كانت تعرف الوطن بشماله وجنوبه، حتى صارت «بحبك يا لبنان» أغنية كل من لا أغنية له عن وطنه، ولو لم يكن لبنانيا! وحتى لمن لا وطن له.


7-




الآن، فيروز لا عمر لها، وقد جاوزت الثمانين ربيعا.
ولا وزن لها غير هذا الكنز من الأغاني الذي يعبر العالم، ويغذيه على مدى الأجيال.
وزن فيروز هو أكثر من 800 أغنية، موزعة بين أشكال موسيقية وفنية كثيرة من أفلام ومسرحيات وأوبريهات، تملؤها موضوعات لا تخرج عن عشق الشمس والحرية، والشدو بلسان عصفور بشري.

8-

وإذا كان هناك من كلمة ختام، فهو طلب إلى اتحاد الأطباء العرب، وإلى جمعيات العلاج النفسي، ويتمثل في توفير أغاني فيروز في الصيدليات على امتداد الوطن العربي
font change