أم كلثوم... سيدة الأجيال و صوت الخلود

أم كلثوم... سيدة الأجيال و صوت الخلود

لقبت بـ «كوكب الشرق» و«الجامعة العربية» و«ثومة» و«السّت»



ام كلثوم (1)

نص: منصف المزغنّي
رسم: علي المندلاوي


1 -

هي فاطمة بنت الشيخ إبراهيم السيد البلتاجي مؤذن وإمام مسجد قرية طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية، ومنشد حفلات الزواج، ولدت سنة 1898 وسجلت رسميا سنة 1908، وتوفيت سنة 1975، لكي لا يموت صوتها الذي احتلّ جزءا كبيرا من القرن العشرين، وامتدّ ليحتلّ القرن الحادي والعشرين دون أن يأخذ إذنا من أحد، غير الزمان الذي سمح لأمّ كلثوم بتمديد الإقامة في الوجدان.

2 -

حين تولد مهجة عالية الهمّة مثل فاطمة التي ستعرف باسم أم كلثوم - وبألقاب كثيرة، لعل من أطرفها «الجامعة العربية» ومن أقصرها «ثومة» و«السّت»، ولكن أشهرها هو لقب «كوكب الشرق» - وينعتها الناس بالكوكب، فإنّ في الأمر سرا غامضا يستدعي الإضاءة.

3 -

كانت شخصية الطفلة فاطمة غريبة بين البنات اللواتي رغبن في المعرفة، ولم يكن تعليم البنات سهلاً في تلك السنوات ولا ميسورا في تقاليد القرية المصرية المحافظة.
وحرصت الأم السيدة فاطمة المليجي على أن تكون ابنتها فاطمة متعلمة، وأصرت الأمّ على أن تنتقم ابنتُها من الأمّية والجهل. وكانت البنت جاهزة الذهن لاستقبال العِلْم والاحتفاء بالعالم، فحفظت البنت القرآن الكريم، في سنّ مبكرة، وأما الغناء فله قصة الصمود التي بدأتها البنت بحفظها السريع للأغاني والتقاط المعاني، وتعلم أصول الموسيقى.

4 -

لاحظ والدُ فاطمة تفوُّقَها غير العادي، فلم يَرَ بُدّا من تشغيلها معه في الفرقة، فتنكّرت في ثوب صبي، وارتدتْ عقالاً وملابسَ أولاد في سن الثانية عشرة. ولأنّ مصير النجم، هو أن يشق مسيره نحو النور، كان من حظ القدر أن جعل في طريقها ناسا مساعدين وأيادي ممدودة، مثل الشيخ أبو العلا محمد، وزكريا أحمد، وهما سوف يحرضان والد البنت أم كلثوم، التي لا يتسع الريف المحدود لصوتها اللا محدود، فلا بدّ من العاصمة الكبرى: إذَنْ، إلى القاهرة.

5 -

كم كانت أم كلثوم تشبه قطرة زيت تنحلُّ فوق صفحة بيضاء، أو حصاة. تُحدثُ دوائرَ في الماء الراكد، فلقد كان جمهورها يزداد بين حفلة وأخرى حتى صارت «المطربة التي يحكي عنها الناس».
ويزداد صوتها انتشارا، فلا تكتفي بالقاهرة، بل سوف تلتهم انتباهَ الجميع، وتستولي على ما أبعد من القاهرة، والعواصم العالمية الكبرى مثل باريس.
لكن القاهرة تبقى السماء التي سوف يشع منها الكوكب الصوتي الذي سيسعد أي إنسان يسمعه، بدءاً بالمواطن العربي في مصر، وباقي العرب المنتشرين في قارات العالم الخمس، وانتهاء بكل حكام مصر وبعض الحكام العرب ممن سعى بالنياشين والأوسمة إلى الاقتراب من كوكب الشرق، تقديراً منهم لفنّها، وطمعاً في مزيد من الأضواء من «الكوكب» الغنّاء.

6 -

يمكن اختصار مسيرة أم كلثوم في روح الطموح المشروع للصعود. فهل كانت تتمثل بيت أبي الطيب المتنبي:
«إذا غامرتَ في شرفٍ مروم - فلا تقنعْ بما دون النجوم».
أو تفكر في بيت أبي القاسم الشابي:
إذا ما طَمَحتُ إلى غاية - ركبتُ المُنى ونسيتُ الحذرْ
ومسيرتها لا ترضى بالوقوف عند مجرد الغناء لتعيش، فقد اجتازت عتبات الفقر سريعا، وحفلاتها غالية التذاكر.
وهي مغنية فريدة، وروحها وطموحها تطلّبا منها ألا تنزل عن المحلّ الأرفع، ولا تفتأ تبحث عن الكلمة الشاعرة والنغمة العذبة، ولا تكفُّ عن التنقيب عنهما كما يفعل غواص اللؤلؤ.
لم تكتفِ أم كلثوم بملحن واحد أو شاعر محدد، كانت سيدة طموحة وآمالها مفتوحة مثل حوت كبير، فلم تشبع من المواهب الموجودة في بحر الكلمات أو نهر النغمات.

7 -

لا شيء كان يوقف اندفاع تيار هذا النهر الذي اسمه أم كلثوم، وهي تحمل في صوتها الزورق أجيالاً من الملحنين، ومنهم أبو العلا محمد، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب. ويشاء العمر مع أم كلثوم، أن يتوقف عند محطة بليغ حمدي، وهو أصغر من عرفت من الملحنين الكبار.
ولا شيء يُشبِعُ نَهَمَ هذه السيدة من كلمات الشعراء ونغمات الملحنين الذين احتضنتهم بصوتها، ومنحتهم من دفئها ما جعل الأغنية تطير إلى الوجدان من دون سفير بديع أو بريد سريع، غير: حنجرة أم كلثوم.

8 -

وإذا كان ملحنو أمّ كلثوم، بمختلف إيقاعاتهم معاصرين لها، فإنّ الشعراء الذين غنّتْ لهم ينتمون إلى اللغة العربية الفصحى وإلى الدارجة المصرية، وإلى عصور مختلفة، وبعضهم من خارج مصر.
هكذا غنت لأبي فراس الحمداني، وعمر الخيام، وأحمد شوقي، ومحمود بيرم التونسي، وأحمد رامي، وغيرهم. ولعل نزار قباني هو أصغر الشعراء العرب المحسودين من قبل شعراء عصره؛ لأن بعض كلماته حظيت بشرف المرور بحنجرة من الذهب الخالص.

9 -

من ذكرياتي في القاهرة أني سألت في استغرابٍ سائق التاكسي: «كيف تسمع أم كلثوم في هذا الوقت المبكر من النهار؟ إن أغانيها تصلح لليل فقط»، فقال لي: «غلط، ومن قال لك هذا الكلام؟ فالستّ هي سيدة كل الأوقات من الليل إلى النهار».
font change