كوريا الجنوبية تنفصل عن الماضي

كوريا الجنوبية تنفصل عن الماضي

نهاية عصر بارك تشونغ الطويل ولحظة مُهمة في تاريخ الديمقراطية بالبلاد



[caption id="attachment_55259195" align="aligncenter" width="1040"]مون جاي إن يتلقى التهاني (غيتي) مون جاي إن يتلقى التهاني (غيتي)[/caption]

•أدى عزل بارك عن منصبها إلى إنهاء الحنين الذي أحاط بوالدها الذي حكم كوريا الجنوبية بقبضة حديدية منذ عام 1961 حتى تاريخ اغتياله عام 1979 على يد رئيس مخابراته



هارفارد: كارتر جاي إكيرت*

في يوم الثلاثاء 10مايو (أيار) الماضي، انتخب الكوريون الجنوبيون المُرشح الرئاسي الليبرالي مون جاي إن. وقد أنهى فوز مون بالرئاسة فترة طويلة للغاية من الشك، بعد توجيه اتهامات للرئيسة السابقة بارك غن هي بالفساد في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وعزلها من منصبها في مارس (آذار) الماضي.
من جانب، يمكن اعتبار خسارة بارك غن هي لسمعتها، بسبب علاقتها بمُساعدتها وصديقة العائلة، بمثابة قصة شخصية حزينة، وأيضاً مأساوية، ولم تتضح حتى الآن كثير من تفاصيلها. ولكنها أيضاً لحظة مُهمة للغاية في تاريخ الديمقراطية بكوريا الجنوبية، حيث يبدو أن القوانين والتشريعات الجديدة التي وُضعت في أواخر الثمانينات لتقييد سلطة الرئيس، بدأت في تحقيق الهدف الذي وضعت من أجله. (تأسست المحكمة الدستورية، التي عزلت بارك عن منصبها في شهر مارس، عام 1988 لمثل هذا الغرض).

ولكن، من وجهة نظر تاريخية أكثر عمقا، ربما أدى عزل بارك عن منصبها إلى إنهاء الحنين الطويل الذي أحاط بوالدها، الرئيس السابق بارك تشونغ هي، الذي حكم كوريا الجنوبية بقبضة حديدية منذ عام 1961 حتى تاريخ اغتياله في عام 1979. وقد يؤدي مصير بارك غن هي إلى إعادة التفكير في النظام الذي أنشأه والدها، والذي استمر بطرق كثيرة حتى الوقت الحالي، وذلك بعد وفاته بنحو 40 عامًا.

الحنين للقائد



استمر الحنين للرئيس السابق بارك تشونغ كدعامة أساسية في الحياة السياسية منذ التسعينات. لم يكن من المتوقع أن يحدث ذلك في عام 1979، عندما تم اغتياله على يد رئيس مخابراته وسط مُظاهرات شعبية ضد حكمه. وكان بارك تشونغ هي، القائد العام الذي استولى على السلطة إثر انقلاب عسكري في عام 1961، قد أسس على مدار فترته نظامًا سياسيًا واقتصاديًا استبداديًا وعززه بقوة عسكرية هائلة. كانت الدولة تدير الاقتصاد بالتنسيق مع عدد قليل من التكتلات التجارية المختارة، وأنشأت جهازا ضخما للتنظيم والمراقبة لضمان المُشاركة الشعبية في مشروعات الدولة، أو على الأقل الامتثال لها. وفي مركز هذا الجهاز جاءت وكالة الاستخبارات المركزية الكورية (KCIA)، التي أُنشئت عقب انقلاب 1961 مباشرة. كانت وكالة الاستخبارات المركزية الكورية تعمل بلا رحمة، عبر آلاف العملاء الذين يخضعون تمامًا لسُلطة بارك نفسه، على فضح أعداء الدولة المتصورين ومعاقبتهم.

وفي الوقت ذاته، أدت قيادة بارك تشونغ هي الاستبدادية إلى تحويل كوريا الجنوبية من اعتمادها الفقير على الولايات المتحدة الأميركية إلى قوة اقتصادية مُذهلة في الوقت الحالي. ومن خلال تعزيز اقتصادها القوي القائم على التصدير، نجح النظام في إدارة تحول كوريا الجنوبية من الصناعات الخفيفة إلى الصناعات الثقيلة في السبعينات، مما أدى إلى ازدهار صناعة السيارات والإلكترونيات وبناء السفن وصناعة الصلب، والكثير من الصناعات الأخرى التي مكنت البلاد من الاستمرار في المنافسة العالمية حتى اليوم. فقد قفز الناتج المحلي الإجمالي للفرد بكوريا الجنوبية من 100 دولار في عام 1961، إلى 2000 دولار في عام 1980 – وهو الارتفاع الأول له خلال عملية التطوير والتنمية التي حررت ملايين الأشخاص بكوريا الجنوبية من الفقر المدقع ووضعت بلادهم في مكانة دولية جديدة تتسم بالريادة والقوة.

وفي العقود التالية لوفاة بارك تشونغ هي، أصبح الإرث الثاني – الخاص بتطور البلاد – طاغيا على السياسة القمعية التي سادت في السبعينات بالنسبة لمعظم الكوريين الجنوبيين. وقد ساهمت عدة عوامل في ذلك التصور: ففي البداية، عززت وسائل الإعلام المحافظة القوية صورة من جانب واحد فقط لبارك باعتباره مُنقذاً وطنياً. كما عزز هذه الصورة الجيل الأكبر سناً من الكوريين الذين دعموا بارك لإنجازاته الاقتصادية وموقفه القوي ضد الشيوعية.

وأضافت إلى تعزيز صورة الرئيس الأسبق أيضاً المقارنة مع من خلفاه مباشرة، وهما تشون دو هوان وروو تاي وو، الضابطان العسكريان اللذان توليا السلطة عقب اغتيال بارك تشونغ هي. وعلى عكس انقلاب بارك الدامي خلال عام 1961، اتسم استيلاؤهما على السلطة خلال عامي 1979 - 1980 بالتمرد العنيف في مقرات الجيش وذبح آلاف المدنيين المتظاهرين في مدينة غوانغجو. واستغل تشون وروو منصبهما لجمع ثروات شخصية طائلة ولكنهما خضعا للمُحاكمة وتمت إدانتهما. في المقابل، عُرف بارك بالاقتصاد في حياته اليومية، وعندما تولى الرئاسة، أخضع عائلته الممتدة للمُراقبة لرصد أي مخالفات مالية.

ساهمت الاتجاهات الاقتصادية في تعزيز شُهرة بارك الأب. فقد أدى انخفاض معدلات النمو في البلاد منذ التسعينات في ظل تطور اقتصاد البلاد، بالإضافة إلى الأزمة المالية الكُبرى التي وقعت خلال عامي 1997 – 1998، إلى إلقاء الضوء على أيام المجد التي شهدت تضاعف معدلات النمو تحت حكم بارك. وحتى قبل بداية الألفية، ظهر في استطلاعات الرأي باعتباره الرئيس الأكثر شُهرة في تاريخ كوريا الجنوبية. وليس مفاجئا، كما لاحظ السياسيون، أن مراسم إحياء الذكرى السنوية في 26 أكتوبر (تشرين الأول) عند قبر بارك، والتي كانت تحضرها العائلة فقط في السابق، أصبحت محطة رئيسية تقف عندها الحملات الانتخابية للمرشحين المتطلعين للرئاسة، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية. وفي عام 1997، ذهب أحد المُرشحين إلى التأكيد على وجود تشابه في الشكل بينه وبين بارك. وحتى الرئيس الراحل كيم داي جونغ، الناشط الديمقراطي السابق الذي اختطف وأوشك على الموت على يد الحكومة في السبعينات، أكد تأييده العلني لإنشاء قاعة تذكارية للاحتفال ببارك وإنجازاته.

[caption id="attachment_55259196" align="aligncenter" width="915"]أحتفالية شعبية بالرئيس المنتخب إن (غيتي) أحتفالية شعبية بالرئيس المنتخب إن (غيتي)[/caption]

لن ننخدع مُجددًا



في النهاية، بطبيعة الحال، كانت بارك غن هي، ابنة بارك تشونغ هي، هي أكبر مستفيد من تلك الطفرة في الحنين. فقد استغلت شهرة والدها لتفوز بانتخابات برلمانية متتالية، وفي النهاية فازت بالرئاسة ذاتها في عام 2012. كان الكثير من الكوريين الأكبر سنًا يتذكرونها باعتزاز وفخر منذ السبعينات، عندما خدمت البلاد باعتبارها السيدة الأولى لمدة خمس سنوات عقب وفاة والدتها برصاصة كانت تستهدف والدها، وحتى الكوريون الأصغر سنا الذين نشأوا على صورة إيجابية للرئيس بارك تشونغ هي، حولوا صورتهم عنه إلى ابنته. بذلت بارك غن هي كل ما في الإمكان لتشجيع مثل ذلك التفكير، وكثيرًا ما كانت تذكر والدها أو تقتبس بعضا من كلماته خلال حملاتها، فضلاً عن تأكيدها على سنوات خبرتها وهي بجانب والدها. وبالنسبة لأنصارها، كانت وريثة عائلة سياسية ملكية، «تتانيم» أو »ابنة الشرف» لأعظم زعيم شهدته البلاد.

ومن المؤكد أن إحدى أكبر المفارقات في تاريخ كوريا الجنوبية حينئذ، أن يكون الإنجاز الفريد الذي حققته بارك تشونغ كرئيسة هو تدمير ومحو الحنين لوالدها الذي ساعدها على الصعود إلى السلطة. وبسبب ارتباطها الوثيق بوالدها تحديدا، كانت رئاستها التي تفتقر إلى الشعبية بمثابة تذكرة بالكثير من أسوأ جوانب حكمه، وخصوصا استخدام سلطة الحكومة للسيطرة على المعارضة أو إخمادها. ومن بين الادعاءات المُوجهة إليها حاليًا، على سبيل المثال، أنها أمرت بتجميع قائمة سوادء ضمت نحو تسعة آلاف شخصية ثقافية ينبغي السيطرة عليها أو تأديبها بسبب اعتراضهم على حكومتها. كما كشفت تُهم أخرى، منها الرشوة وابتزاز شركات كبرى مثل سامسونغ، مخاطر العلاقة التكافلية بين حكومة كوريا الجنوبية والشركات الكبيرة، التي أقامها والدها عن عمد كجزء من استراتيجيته التنموية. وأخيرا، ترجع علاقتها مع صديقتها تشوي سون سيل – وهي محور الفضيحة التي أدت إلى اتهام بارك غن هي – أيضاً إلى فترة حكم بارك تشونغ هي. بدأ تشوي تاي مين، والد تشوي، عمله كمُرشد لبارك غن هي في السبعينات، وحينها بدأ هو وعائلته في محاولاتهم للتأثير على سياسة الحكومة من أجل ثرائهم الشخصي.

وعلى الرغم من فشل رئاسة ابنته، سيظل بارك تشونغ هي شخصية محورية في تاريخ كوريا الجنوبية الحديث. وكما كان واضحًا تمامًا من المظاهرات الموالية لبارك غن هي التي جاءت عقب سحب الثقة منها، لا تزال هناك أقلية تتألف بصورة أساسية من كبار السن الذين يستمرون في تبجيل واحترام الرئيس الوالد ومن ثم الابنة. وبالفعل، اعترف الرئيس الجديد مون بهذه الحقيقة من خلال زيارته لقبر بارك تشونغ هي في الشهر الماضي، وذلك مباشرة بعد اختيار حزبه له.
ولكن حتى في ظل أهمية والدها التاريخية والتوقير والتبجيل الذي لا تزال أقلية من الشعب الكوري تحمله له، يبدو أن رئاسة بارك غن هي أثرت على طفرة الحنين لبارك تشونغ هي الذي قادها إلى البيت الأزرق، وبالتالي تراجعت كثيراً قدرته على التأثير على السياسة في المستقبل. وبالنسبة للشباب الكوري، وخصوصا الذين نشأوا خلال فترة الطفرة، فإن خيبة الأمل التي جلبتها الابنة قد تؤدي إلى إعادة تقييم متوازنة ونقدية للأب.

في الوقت الحالي، في ظل الإجماع الشعبي الساحق على التغيير الذي أدى إلى إقالة رئيسة البلاد وإجراء الانتخابات الأخيرة، من الصعب أن نتخيل أن لا يحاول الرئيس الجديد جديًا إصلاح النظام الراسخ للعلاقات الفاسدة بين الحكومة والشركات، والتي تعود إلى السبعينات. ومن المرجح أيضاًأ ن يُركز مون في سياسته تجاه كوريا الشمالية على المشاركة بدلاً من المواجهة، وهو أسلوب كان بارك تشونغ هي يُذكر بانتهاكه بدلا من الالتزام به.

علاوة على ذلك، يأتي ذلك التغيير في وقت يسعى فيه خبراء الاقتصاد ومخططو الحكومة – في معهد التنمية الكوري المرموق وغيره – جاهدين إلى وضع استراتيجية جديدة للنمو الاقتصادي لمواجهة تحديات البيئة الدولية التي تختلف تماماً عن السبعينات. ويواجهون الآن اقتصادا عالميا تسود فيه الخدمات وتكنولوجيا المعلومات، والذي قد يتطلب تجديدا جذريا أو تخليا عن الاقتصاد القديم لكوريا الجنوبية القائم على التصدير. وبعد كل ما سبق، قد يكون عصر بارك تشونغ هي الطويل قد وصل إلى نهايته أخيرا.

* كارتر جاي إكيرت: أستاذ كرسي يون سي يونغ في التاريخ الكوري بجامعة هارفارد، وهو مؤلف كتاب «بارك تشونغ هي وكوريا الحديثة: جذور العسكرية 1866 - 1945» (جامعة هارفارد، 2016).
font change