البرغماتية المفرطة

البرغماتية المفرطة

الانحيازات الإقليمية في الأزمة القطرية



[caption id="attachment_55259830" align="aligncenter" width="1697"]صورة ارشيفية للرئيس رجب طيب أردوغان يوجه تحية للجماهير التركية من أربعة أصابع التي يستخدمها أنصار الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي (غيتي) صورة ارشيفية للرئيس رجب طيب أردوغان يوجه تحية للجماهير التركية من أربعة أصابع التي يستخدمها أنصار الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي (غيتي)[/caption]

روسيا – تركيا - إيران... مظاهر التدخل وأنماطه



* أعلن مسؤولون إيرانيون السيطرة الفعلية على أربع عواصم عربية فيما استهدفت مواقف إيران الأخيرة حيال الأزمة الخليجية دعم سيطرتها على «العاصمة الخامسة»
* استند الموقف التركي إلى عدد من المحددات الرئيسية، أهمها الخلفية الآيديولوجية التي يأتي منها النظامان الحاكمان في قطر وتركيا ونمط الروابط مع الجماعات الإسلامية
* تعرضت قيادات الدول العربية التي تبنت مواقف حازمة حيال التجاوزات القطرية لانتقادات لاذعة عبر الكثير من الصحف الإيرانية والتركية و تم تحميل دولها مسؤولية سقوط حكم الإخوان
* حاولت موسكو تعزيز المنافع الاقتصادية مع قطر، عبر محاولة استغلال الأزمة التي تجابهها الدوحة، التي توجهت بدورها خلال الفترة الأخيرة إلى تعزيز استثماراتها في روسيا
* مستجدات غير تقليدية وتهديدات محتملة ترتبط بالتوجه التركي – الإيرانى إزاء منطقة الخليج العربي في مسعى مشترك لتحويل الأزمة الخليجية – الخليجية إلى أزمة إقليمية ودولية
* تتحرك أنقرة من جهتها بخطى متسارعة لتضع قدمها داخل معادلات الأمن الخليجي لتتحول من موازن ولاعب مهم في حصار النفوذ الإيرانى إلى «موازن إقليمي» يساند قطر



أنقرة: محمد عبد القادر خليل

سياسات إقليمية مختلفة تتبناها كل من تركيا وإيران حيال الكثير من القضايا الإقليمية، وذلك بسبب تباين نمط التحالفات وطبيعة الخلفيات الآيديولوجية ومكونات النخبة الحاكمة وأولوياتها، غير أن الدولتين تتفقان في العمل على توسيع نطاقات النفوذ وتمدد مناطق السيطرة، عبر أدوات مختلفة تقوم على أفكار الجمع بين ولاء «الوكلاء المحليين»، وإضعاف الروابط العربية القومية لصالح الروابط المذهبية، أو الإثنية، أو «الفوق قومية»، بما يعيد صوغ أدوار الفواعل الإقليمية وتأثيراتها. انعكس ذلك أخيرا في موقف الدولتين المتجاورتين لبعضهما البعض وللمنطقة العربية، حيال الأزمة الخليجية – القطرية، على مستويات أربعة، سياسيا، وإعلاميا، واقتصاديا، وعسكريا، وقد عبر ذلك عما يطلق عليه في الأدبيات السياسية «البرغماتية الرخيصة»، والتي تدرك أي توترات عربية – عربية، بحسبانها نقاط ضعف ونفاد لتأجيج الصراعات، وملء الفراغات، وإعادة التموضع على مسرح عمليات الإقليم.

فلم تتوان تركيا عن إبداء انحيازها - بعد مواربة نسبية لم تدم طويلا - إلى الجانب القطري، عبر تصريحات انطلقت بتواصل وبتوزيع أدوار بين رئيس الدولة، ورئيس وزرائه، ووزير خارجيته، وبعض نواب وأعضاء الحزب الحاكم، وهو موقف لم يختلف بالنسبة لطهران التي نظرت بدورها إلى الأزمة، بحسبانها أداة لامتلاك «الورقة القطرية»، إلى جانب أوراق أخرى، في إطار الصراع متعدد المستويات مع دول الخليج العربي. وقد أنتج ذلك ما يشبه تحالفاً في طور التشكل بين «صانعي الأزمات» الثلاثة، الدوحة وأنقرة وطهران، على أساس أنها دول تتخذ مواقف تكاد تتسم بالتماثل النسبى حيال دعم «التنظيمات المسلحة»، ولا تتبنى مقاربات فعلية لمكافحة الجماعات المتطرفة، التي تغذيها سياساتها وإجراءاتها، وتضمن بقاء حيويتها في مواجهة التحصينات الأمنية، أو المضادات الفكرية على أكثر من ساحة إقليمية.

ففي فجر الخامس من يونيو (حزيران)، كانت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، إلى جانب مملكة البحرين ومصر، تعلن تباعا مجموعة من الإجراءات حيال التجاوزات القطرية. وفى مطلع السابع من ذات الشهر، ورغم ما كانت تتعرض له طهران في هذا التاريخ من عمليات إرهابية من قبل تنظيم «داعش»، فإن طائرة وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، هبطت في تركيا، من أجل تنسيق المواقف لدعم «الشريك القطري»، ليعلنا معا عن اتخاذ جميع التدابير والتسهيلات التي تضمن تقليل فعالية الإجراءات الخليجية حيال الدوحة، بما يعظم من مكاسب أنقرة وطهران، الاقتصادية، ويدعم مصالحهما الجيو - استراتيجية في منطقة الخليج، ليتزامن مع ذلك قيام مسؤولى الدولتين، عبر تصريحات سياسية وإجراءات أمنية بالانخراط المتحيز والمباشر في التفاعلات الخليجية - الخليجية، على نحو ارتبط ظاهره بمحاولة التهدئة، فيما مضمون رسائله تمثل في الرغبة بتوسيع مجال المناورة وهامش الحركة أمام القيادة القطرية، بهدف تصعيد الأزمة لا إنهائها، أو التخفيف من حدتها، أو تحويل مسارها.

وقد أدت التطورات الحاصلة والإجراءات المتخذة إلى العمل على تنسيق المواقف، حتى لا يكون هناك تنافس تركي – إيرانى يضعف مواقف الجانبين معا. وقد دخلت روسيا على خط الأزمة، ليغدو أحد محركات تأجيج الصراع بين أطراف الأزمة الخليجية، الدول الثلاث، والتي تشكل محاور «مسار آستانة»، ويتصاعد بينها مظاهر التنسيق السياسي على أكثر من ساحة إقليمية، وتتضاعف بالنسبة لها مؤشرات التوتر في العلاقات مع الإدارة الأميركية، وترتبط بأكبر شراكات تجارية، وعلاقات اقتصادية، سيما في مجال توريد وتمرير النفط والغاز.

[caption id="attachment_55259831" align="aligncenter" width="1610"]عامل يطبع ملصقات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحاكم  قطر  الأمير تميم بن حمد في دار الطباعة في الدوحة(وكالة الأناضول - غيتي) عامل يطبع ملصقات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحاكم قطر الأمير تميم بن حمد في دار الطباعة في الدوحة(وكالة الأناضول - غيتي)[/caption]

«القوة الخشنة» و «القوة الناعمة»



تعددت ألوان التدخلات الخليجية وتباينت، فقد أبدت روسيا اتزانا سياسيا نسبيا استهدف الحفاظ على العلاقات مع بقية دول مجلس التعاون الخليجي. بيد أنها، على جانب آخر، فتحت طريقاً جانبياً لاستقبال «عروض قطر»، في إطار محاولات إعادة صوغ المقاربات وتحديد اتجاه الانحيازات. وفيما اتجه وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، إلى موسكو للقاء نظيره الروسي، سيرغي لافروف، لتعديل موازين القوى، في ظل المواقف التي تتخذها الإدارة الأميركية لتعديل السلوك القطري، وقيام وفد من وزارة الدفاع القطرية بزيارة موسكو للاتفاق على الإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك، فثمة تقديرات أشارت إلى دخول «الحرس الثوري» على خط الأزمة، من خلال إرسال بعض الوحدات لدعم الأمن في الدوحة، بناء على توافقات مسبقة مع الأخيرة، سيما في ظل تصاعد مظاهر التحسن في العلاقة على المستويات السياسية والعسكرية، وذلك على النقيض من اتجاهات الرؤى الخليجية ومصالح دولها التي تتبنى مقاربات ضاغطة لتعديل مسار السياسات الإيرانية.

وفى سياق مواز، بدا الوضع بالنسبة للعلاقة مع تركيا. أكثر وضوحا، إذ إن أنقرة تتبع سياسات توسعية، عبر استخدام «القوة الخشنة»، إلى جانب «القوة الناعمة»، شأنها في ذلك شأن جارتها طهران. بيد أن الأخيرة سياساتها أقرب إلى «التكتيكات شبه المعلنة»، فيما أنقرة استراتيجيتها «شبه مستترة». وعلى الرغم من أن تركيا أعلنت رغبة في الاضطلاع بدور الوسيط، فإنها، مع تصاعد مظاهر الحضور الخليجي على الساحة الإقليمية والدولية، وبروز تكتلات أكثر تماسكا في مواجهة السلوك القطري وتصعيده الإعلامي، لجأت إلى إعلان انحيازها العسكري والإعلامي والسياسي والاقتصادي مبكرا إلى جانب الدوحة، في موقف لم يختلف عن الموقف الإيراني، وذلك وفق نهج «برغماتي متدنٍ»، جسدته تصريحات وزير الخارجية الإيرانى من قلب العاصمة أنقرة، بشأن «تقاسم المصالح في المنطقة».

الموقف الإيرانى من الأزمة القطرية يبدو تقليديا، في ضوء السياسات المعهودة من طهران، فقد سبق أن أعلن مسؤولون إيرانيون السيطرة الفعلية على أربع عواصم عربية، فيما استهدفت مواقف إيران الأخيرة حيال الأزمة الخليجية – حسب تقديرات إيرانية – دعم سيطرتها على «العاصمة الخامسة». وبينما أشار حيدر مصلحي، وزير الاستخبارات الإيرانى السابق في حكومة محمود أحمدى نجاد، إلى أن «إيران تسيطر على أربع عواصم عربية»، فإن علي يونس، نائب الرئيس الإيرانى حسن روحاني ومستشاره للشؤون الدينية، أشارا إلى أن «إيران أصبحت الآن إمبراطورية، كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، والتي تعد مركز حضارتنا وثقافتنا كما كانت في الماضي».

وفي هذا السياق، انتقدت أنقرة بدورها الجهود الخليجية حيال قطر، وذلك قبل أن تعيد محاولة ضبط صياغة عبارات مسؤوليها، حتى لا يتصاعد التوتر الخليجي - التركي. وعلى الرغم من عدم انقطاع التصريحات التركية في هذا الإطار على النحو الذي تجلى في مقولة لرئيس الوزراء التركي، بن على يلدريم: «يجب ألا تتضرر العلاقات بين الدول بسبب أخبار مفبركة»، وذلك في معرض تعليقه على تطورات الأزمة القطرية أمام نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم، فإن جوهر السياسة التركية حيال الأزمة عكسها رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو، والذي يعد «مهندس» التوافقات التركية – القطرية، فقد أعلن الرجل، عبر فيديو نشره عبر حسابه الرسمي في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، قال فيه إن علاقة تركيا مع قطر أصبحت جيدة ومثالية خلال الخمس عشرة سنة الماضية، وهي في الأصل علاقة تاريخية ترجع إلى «العهد العثماني»، طواها النسيان وتجددت أخيرا لتصبح وثيقة، وهي تصريحات كانت قد أكد عليها الكثير من المحللين الأتراك، بأن تركيا تؤسس عبر قطر عودة إلى مناطق النفوذ والسيطرة التي كانت تابعة للدولة العثمانية قبل قرون خلت.




المستوى السياسي... أسباب المواقف الإقليمية ومحركاتها



لجأت الدوحة إلى إعادة رسم خطوط التحالفات، وصوغ مقاربات جديدة وسريعة حيال القيادة الروسية بهدف استمالة الموقف الروسي تجاه قطر، هذا إلى جانب إيران وتركيا، وذلك على الرغم مما تشهده علاقات البلدين من توترات مكتومة تارة، ومعلنة تارة أخرى بسبب موضوعات وقضايا مركبة تتداخل فيها ملفات الغاز وطرق تمريره إلى الغرب الأوروبي، مع المسائل المعلقة بشأن الأزمة السورية. كما يرتبط بذلك، دعم قطر للجماعات الجهادية، فضلا عن القاعدة العسكرية الأميركية في الدوحة، وما تمثله بالنسبة لخرائط التحالفات والتموضوعات الجيواستراتيجية، علاوة على الانحيازات القطرية البعيدة نسبيا عن مسار التوجهات الروسية في الإقليم، وحجم تشابكات العلاقة بين موسكو وقوى خليجية وازنة كالمملكة العربية السعودية، على النحو الذي كانت قد عكسته زيارة وزير الدفاع السعودي ولى ولى العهد الأمير محمد بن سلمان، إلى موسكو في مايو (أيار) 2017.

على جانب آخر، كانت طهران بدورها قد عدَّت الأزمة القطرية نقطة تحول رئيسية في التفاعلات الإقليمية، تصب في مصلحة سياساتها على المستوى الإقليمي، إذ إن التقديرات الإيرانية أشارت إلى فكرة التحالف بين الدول المعتدلة في مواجهة التيارات المتطرفة وداعميها، ومجابهة السلوك والسياسات الإيرانية، وفق ما أنتجت القمة الإسلامية – الأميركية. وبناء على «إعلان الرياض»، باتت تعاني من تحديات غير مسبوقة بعد الأزمة الخليجية، والتي تلت التصريحات التي أشار فيها الأمير القطري، تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني، إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار الدور الإيرانى في المنطقة، وإن كان الأمير تميم قد أنكر إدلاءه بهذه التصريحات، فإن مضمونها كان واضحا في السياسة الخارجية للإمارة، وخير مثال على ذلك، الاتفاق الخاص بإجلاء نحو 32 ألف سورى من 4 مدن محاصرة، سواء من قبل النظام أو من قبل المتمردين، والذي تم التوصل إليه بين قطر وإيران مباشرة.

وقد تجلى السلوك الإيرانى حيال الأزمة القطرية عبر صور كثيرة. فقد كثرت التصريحات الإيرانية التي حاولت «الاصطياد في الماء العكر»، من خلال التأكيد على الاصطفاف في الخندق القطري. فبعد إعلان الكثير من الدول العربية قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر، اعتبر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، بهرام قاسمي، استخدام الحظر كأداة بأنه أمر مرفوض ومستهجن، فضلا عن كونه غير ذي فعالية. هذه التصريحات انسجمت، إلى حد بعيد، مع تلك التي انطلقت من أنقرة وعبّر عنها الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، مع انطلاق الأزمة الخليجية.

وقد استند الموقف التركي إلى عدد من المحددات الرئيسية، أهمها الخلفية الآيديولوجية التي يأتي منها النظامان الحاكمان في الدولتين، ونمط الروابط مع الجماعات الإسلامية، كجماعة الإخوان المسلمين. ففيما يرتبط الرئيس التركي بجماعة «المللي جورش» الأقرب إلى تيار الإخوان، فإن هذا التيار يتداخل في الحكم القطري، عبر معادلات مركبة ومعقدة. يضاف ذلك إلى تبني الجانبين مقاربات تكاد تكون متماثلة حيال ملفات الصراع الإقليمي، في سوريا والعراق وليبيا واليمن، كما لا تنسجم سياسات الدولتين مع فكرة التكتلات السياسية والعسكرية من الدول العربية والإسلامية المعتدلة لمواجهة تيارات التشدد والتطرف ودوله، حيث تدعم قطر وتركيا، وفق الكثير من التقارير الدولية، مجموعات جهادية وتنظيمات متشددة على أكثر من ساحة إقليمية.

ومن ناحية أخرى، ترتبط الدولتان بعلاقات مستقرة مع طهران، ولا تتبنى مقاربات تصعيدية حيال سياساتها الطائفية في الشرق الأوسط. لذلك، فبينما غادر الأمير القطري القمة الإسلامية – الأميركية مبكرا، كون مخرجاتها وبياناتها وارتداداتها لا تنسجم مع سياسات إمارته، فإن الرئيس التركي لم يشارك في القمة واكتفى بإرسال وزير خارجيته، ولم يصرح بما يوحي بتأييد مخرجاتها. هذا بالتزامن مع الموقف الإيرانى الذي هاجم القمة ومنظميها وارتداداتها المختلفة. ورغم بعض التوترات بين تركيا وإيران بسبب الخلافات الجوهرية حول مناطق النفوذ والتمدد في سوريا والعراق، فإنهما يغلّبان مصالحهما الاقتصادية ويتحركان بشكل عملي، بعيدا عن الأزمات الكبرى، في مواجهة الطموح الكردي الذي يهدد الأمن القومي للدولتين في آن. وهذا في الوقت الذي تعد فيه إيران ثانى أكبر مورد للطاقة بالنسبة لتركيا.

وفى مقابل ذلك، تشير تقارير وكتابات تركية محسوبة على النخبة الحاكمة، إلى أن أنقرة تتأثر في تحركها حيال الأزمة الخليجية بضلوع دول في المنطقة في قضايا تستهدف أمنها واستقرارها. أكد ذلك تصريحات الرئيس التركي حينما أشار إلى أن «أنقرة تعلم جيدا من كان سعيداً من دول الخليج، إبان تعرض حكمه لمحاولة انقلاب». وتدرك تركيا أن هناك دولاً خليجية تنظر لأنقرة بحسبانها عامل عدم استقرار إقليمي، أو صانع أزمات في المنطقة، هذا في وقت تقف فيه الدوحة في خندق الرئيس التركي، وكانت من أوائل الدول التي ساندت أنقرة في «الشدائد»، وفق تعبيرات إردوغان، وعلى رأسها محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو (تموز) 2016.

علاوة على ذلك، فإن الرئيس التركي يرى أن تغيير المقاربات القطرية الخارجية، استجابة للضغوط الخليجية، يعنى أن تركيا ستبقى وحيدة ضمن هذا الخندق في دعم التيارات الجهادية والجماعات الراديكالية، بما يضعف مركزها في مواجهة الدول العربية والغربية على حد سواء، كون الكثير منها ينتقد مسار سياسات أنقرة ونمط توجهاتها، سيما في ظل التطورات الدراماتيكية التي تشهدها روابط تركيا مع شركائها الأوروبيين، بعد قرار ألمانيا بالانسحاب من قاعدة «إنجرليك» في آضنة جنوب تركيا إلى قاعدة «الأزرق» بالأردن، واتجاه دول حلف الناتو لنقل مقر انعقاد القمة المقبلة من أنقرة إلى بروكسل، اعتراضا على سياسات تركيا المحلية والإقليمية في آن.

يدفع ذلك لأن تدرك أنقرة أن الدوحة تمثل «حائط صد»، ومركز دعم للسياسات التركية. ولعل ذلك يفسر تصريحات نائب حزب العدالة والتنمية عن مدينة إسطنبول، والرئيس السابق للجنة الدستورية، بورهان كوزو، حينما عبر عن رفضه لما سماه «حصار قطر»، حيث قال عبر حسابه بموقع التواصل الاجتماعي، «تويتر»، أرى أن الهدف الظاهري للأزمة هو قطر، غير أن الهدف الفعلي المقصود من هذه الإجراءات هو تركيا.

[caption id="attachment_55259833" align="aligncenter" width="4620"]أمير قطر مع الرئيس الروسي بوتين (غيتي) أمير قطر مع الرئيس الروسي بوتين (غيتي)[/caption]

التصعيد على المستوى الإعلامي.. محاولة تأجيج الأزمة الخليجية



تقارير متوالية، وتصريحات متعددة، وأخبار مستمرة ركزت في وسائل الإعلام الروسية والتركية والإيرانية على مسار الأزمة الخليجية، وبات من الواضح أن أغلب المواد الإعلامية تتسم بالتحيز، ومحاولة تأجيج الصراع، وتأزيم الموقف، والإشارة إلى نقاط ضعف وقوة كل طرف، والأدوار التي تضطلع بها هذه الدول ومحوريتها في توجيه الأزمة بحسبانها فواعل مركزية على ساحة الشرق الأوسط. وقد تبارت بعض هذه الوسائط الإعلامية في سرد الكثير من التقارير والتقديرات والمقالات حول جدوى الإجراءات الخليجية ومدى فعاليتها. وبينما عني الإعلام الروسي بتناول الأزمة بحسبانها واحدة من القضايا الإقليمية، إلى جانب اهتمامات كثيرة أخرى، فاتجه إلى عرض مختلف الزوايا وتناوُل أبعاد كثيرة للقضية، على نحو نسبي، ربما عكس نمط التوازن في العلاقات الواسعة مع بلدان خليجية وعربية وازنة، من حيث الأدوار وفعالية السياسات الإقليمية كالمملكة العربية السعودية ومصر والإمارات.

هذا في وقت بدا فيه الأداء الإعلامي في تركيا وطهران وكأنه موجه أو منسق في اتجاه دعم الجانب القطري. فعلى سبيل المثال، فإن جريدة «يني شفق» ذات التوجه الإسلامي، والقريبة من حزب العدالة والتنمية، والتي كثيراً ما نادت، عبر مقالات وتقارير مختلفة، بضرورة التصدي إلى المد الشيعي في الإقليم، غدت تتحدث عن أهمية دعم الدوحة بالتنسيق مع طهران، وادعت أن ثمة «مؤامرة» تتعرض لها كل من قطر وإيران بالتنسيق بين دول خليجية والولايات المتحدة الأميركية، وأن على تركيا التصدي لذلك.

وقد تعرضت قيادات الدول العربية التي تبنت مواقف حازمة حيال التجاوزات القطرية لانتقادات لاذعة عبر الكثير من الصحف الإيرانية والتركية، حيث تم تحميل دولها مسؤولية سقوط حكم جماعة الإخوان في أكثر من بلد عربي، وتفاقم الأوضاع السياسية والأمنية في ليبيا، ومحاولة الانقلاب التي تعرضت لها تركيا، وتصاعد أوجه الدعم الذي تلقاه المعارضات الإيرانية والتركية في الإقليم، هذا دون الأخذ في الحسبان، على سبيل المثال، أن دول الخليج ذاتها كانت لها مواقف واضحة تتعاطى فيها إيجابيا مع الهواجس التركية حيال الجماعات التي تصنف من قبل أنقرة بحسبانها تنظيمات إرهابية. فقد كانت دول مجلس التعاون الخليجي من أوائل الدول التي صنفت جماعة «الخدمة» بحسبانها تنظيماً إرهابياً، هذا في الوقت الذي رفضت فيه كل البلدان الأوروبية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، الاستجابة إلى النداءات المتكررة في هذا الشأن. وبينما حظيت الأزمة الخليجية باهتمام شعبى عكسه حجم التغطية الصحافية والإعلامية ونمط التعاطي الشعبي، فقد قام عدد من أعضاء حزب العدالة والتنمية برفع أعلام قطر في ميدان غلاطة سراى بإسطنبول، وبدا من الوجوه المشاركة أن الكثير، منهم إن لم يكن أغلبهم، ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر ودول عربية أخرى، وقد حمل المتجمهرون لافتات، وُردِّدت شعارات تعبر عن دعم تركيا لموقف الدوحة ولتوجهاتها حيال التيارات الإسلامية في المنطقة، كما تم التعبير عن رفض السياسات التي اتخذتها دول خليجية وعربية حيال قطر بسبب سياساتها الداعمة للتنظيمات الإرهابية. وقد أدت هذه التطورات إلى تفاعل مجتمعي خليجي مقابل، حيث طالب مواطنون من الخليج وبعض الدول العربية بمقاطعة المنتجات التركية، وردا على السياسات التركية التي نددت بالإجراءات الخليجية التي تم تبنيها حيال قطر.

فعلى سبيل المثال، نشر مصطفى دستيجي، رئيس حزب الاتحاد الكبير التركي، تغريدة، عبر حسابه بموقع التواصل الاجتماعي، «تويتر»، وقال إن الهدف من القرار هو تركيا، مرجحاً أن تكون تركيا الهدف الفعلي لسياسة إقصاء قطر وإخضاعها، مؤكداً على ضرورة عدم استبعاد هذه الاحتمالية. هذا فيما نشرت صحيفة «سوزجو» التركية، تقريرا تكشف فيه عن أسباب زيارة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الأخيرة إلى أنقرة، إذ ادعى أن السبب الحقيقي وراء مجيئه إلى تركيا يتمثل في إحضاره أموالا مجهولة المصدر. ونقلت الصحيفة التركية عن أتيلا قارت، أمين حزب الشعب الجمهوري المعارض عن مدينة «قونيا»، قوله إن تدفق الأموال القطرية مجهولة المصدر إلى البلاد، تعد سبب الزيارات الكثيرة المتبادلة بين مسؤولى البلدين، إذ توجه الرئيس التركي، إردوغان، إلى قطر ثماني مرات خلال فترة رئاسته للحكومة، مقابل مرة واحدة للرئيس التركي السابق، عبد الله غول.

وفى السياق، اهتمت الصحف التركية بتوجيه الاتهامات لمصر والإمارات، استنادا إلى بعض الرسائل المنسوبة إعلاميا إلى البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي لدى واشنطن، يوسف العتيبة. وربطت الكثير من الصحف في طهران وأنقرة بين زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، وتفجر الأزمة الخليجية، وذلك عبر التأكيد في سياقات مختلفة بأن واشنطن كانت على علم مسبق بذلك. كما ركزت وسائل الإعلام التركية على ضرورة تنسيق المواقف في هذا الإطار مع الجانب الإيراني، سيما بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، إلى أنقرة، وتأكيده على أهمية تعظيم أوجه التنسيق التركي بسبب تصاعد التحديات والتهديدات التي تواجهها الدولتان في منطقة الشرق الأوسط. وفى الوقت نفسه، لم تعد قنوات مملوكة للدولة، مثل «تى آر تي» (TRT) أو «أفاز» (Avaz)، تتعرض لإيران بحسبانها دولة تثير اضطرابات أمنية أو تهديدات إقليمية، أو تتبنى مقاربات ذات صبغة طائفية.

هذا فيما رأت الكثير من الكتابات التركية المرتبطة بالصحف المستقلة أو المعارضة أن على تركيا أن توازن بين علاقاتها مع قطر وبقية الدول الخليجية، سيما المملكة العربية السعودية، وإدراك أن محاولة تهدئة الأزمة سترتبط بقيام دولة عربية بهذا الدور وليس تركيا، إذ إن أنقرة، وإن كانت دولة إسلامية، إلا أنه لم ينظر إليها بحسبانها جزءاً من العالم العربي، ويبدو أن التعليق الجوهري في هذا السياق ارتبط بالكاتب مراد يتكين في جريدة «حرييت»، حيث قال «هناك فائدة لتركيا في عدم لمس أزمة قطر بأيديها العارية، ولكن باستخدام كماشة الدبلوماسية بدلا من ذلك».

وقد كتب ياسين أقطاي، نائب رئيس حزب العدالة والتنمية، مقالا في جريدة «ينى شفق»، قال فيه: «حينما نلقي نظرة إلى مبررات قرارات عزلة دولة قطر نجد أن هذه المبررات ستصيب أولاً أصحاب هذه القرارات، لأنهم أخطأوا بحق حركة حماس والإخوان المسلمين حينما وصفوهم بمجموعات إرهابية مدعومة من قبل دول قطر.. تركيا ليست أميركا حتى تبيع حليفتها في أول فرصة». وأضاف: «دولة تركيا دولة ثابتة في عداواتها وصداقاتها».

وعلى الرغم من أن الكثير من الصحف المستقلة أشارت إلى أن تركيا مسكونة منذ محاولة الانقلاب التي تعرضت لها، في يوليو 2016، بالمؤامرات التي تعتقد أنها تحاك ضدها، على نحو يوضح أنها غدت غارقة حتى أذنيها في الشائعات حول تخطيط جهات خارجية لمزيد من المحاولات الانقلابية، فإن بعض الاتجاهات في الصحف الموالية للحكومة التركية أشارت إلى أن قطر لم تعد ترى في العلاقات مع واشنطن أو في «قاعدة العديد» ضمانة لسلامة الحكم في الدوحة، بما بات يستوجب إعادة التحرك على نحو مكثف لتوثيق العلاقات بين الجانبين. وقد أدى الكثير من المجموعات المرتبطة بجماعة الإخوان، داخل تركيا وعبر الإقليم، أدواراً في الترويج للسياسات الإيرانية والتركية، على نحو أفضى في كثير من الأحيان إلى تحول ساحات النقاش في وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض المنصات الصحافية والإعلامية على الإنترنت إلى نطاقات للتشنجات وتبادل الاتهامات.

ومن جهته، حاول الإعلام الإيراني، رغم تشكك البعض في سياسات قطر، ومطالبة عدد من الكتابات بعدم الاندفاع وراء سياساتها، في ظل الاتجاهات الدولية لتشديد الإجراءات حيالها، بسبب دعمها للإرهاب، إذكاء التوتر الخليجي، حيث قال تقرير بثه التلفزيون الإيرانى للمحلل راض محمد مراد، إن قطر «ضحية مؤامرات أميركية في المنطقة». وفى السياق نفسه، دافعت وكالة «تسنيم» الإيرانية عن الدوحة، وزعمت أن الأمير تميم تراجع عن دعم الإرهاب تحت ضغوط سعودية، وزعمت الوكالة الإيرانية أن «قطر مستاءة من تعزيز السعودية لدورها الإقليمي في المنطقة، لذا تسعى لانتهاج سياسة مستقلة للتقارب مع بقية الدول العربية.

وبحسب الوكالة، تحاول قطر إعادة تعريف دورها عبر تشكيل تحالفات جديدة في المنطقة، ويمكن تفسير ذلك من خلال علاقاتها الجيدة مع تركيا وروسيا وسعيها للتقرب من إيران، مشيرة إلى أن قطر كانت من بين الدول العربية التي أرسلت التهاني للرئيس حسن روحاني، عقب فوزه بولاية رئاسية ثانية.
على جانب آخر، فقد حاول إعلام الدوحة تحسين صورة طهران، عبر نشر مقالات لمسؤولي طهران. وقبل ساعات من انطلاق القمة الإسلامية – الأميركية في الرياض، والتي أدانت السياسات الإيرانية، أحد المواقع الممولة من قطر نشرت مقالا لوزير الخارجية الإيرانى هاجم فيه الدول الخليجية، وسياسات الرياض في المنطقة، واستخدم الخطاب الإعلامي الرسمي في كل من تركيا وإيران لغة ومصطلحات تؤكد صدقية الموقف الذي تتخذه هذه الدول حيال الأزمة، وبدا وكأن هذا الخطاب موجه بالأساس للداخل لشرعنة مواقف الحكومات، عبر إشارات ضمنية بأن التحركات الخليجية تسعى بالأساس إلى استهداف كل من تركيا وطهران، في مراحل لاحقة، بدعوى مكافحة الإرهاب.

الملف الاقتصادي... التحرك الإقليمي من أجل تعظيم «العوائد»



حاولت موسكو تعزيز المنافع الاقتصادية مع قطر، عبر محاولة استغلال الأزمة التي تجابهها الدوحة، التي توجهت بدورها خلال الفترة الأخيرة إلى تعزيز استثماراتها في روسيا. وأشار رجال أعمال روس إلى وجود توجهات بشأن تزويد قطر بإمدادات فورية من احتياجاتها من البضائع والسلع والقمح، وأعربت روسيا عن الاتجاه لزيادة الصادرات الزراعية إلى قطر. وحسب «بلومبرغ»، فقد قام صندوق الثروة السيادية في قطر خلال العام الماضي باستثمار نحو 2.7 مليار دولار في مورد النفط الذي تديره الحكومة الروسية.

يأتي هذا في الوقت الذي اتجهت فيه كل من تركيا وإيران، القريبتين نسبيا جغرافيا لمنطقة الخليج بالمقارنة بروسيا، للاستغلال الاقتصادي للأزمة الخليجية، عبر التأكيد على توفير جميع السلع والمنتجات التي تحتاج إليها الدولة القطرية، في رسالة ضمنية إلى بلدان الخليج بأن «الإجراءات العقابية» يمكن النظر إليها بحسبانها فرصة لتشكيل محور ثلاثي مضاد يتكون من الدوحة – أنقرة - طهران، وإن غُلف ذلك بتصريحات سياسية تتعلق بالرغبة في مساعدة الدولة القطرية التي تواجه ما سمته صحف وإعلام الدولتين، في لهجة تصعيدية واضحة «حصاراً اقتصادياً» يستهدف إبعاد الدوحة عن سياسات أنقرة وطهران، وعدم تقديم أي من أشكال الدعم للجماعات المسلحة والتنظيمات المعارضة في ساحات الشرق الأوسط المشتعلة بالصراعات.

وقد سعت طهران إلى تعزيز تبادلها التجاري مع قطر بما يدعم موقف الدوحة التفاوضي مع بقية دول الخليج، في مسعى لاحتواء الإجراءات الخليجية والعربية، وإضعاف التحالف « العربي - الإسلامي» المواجه لإيران، عبر تأجيج الصراعات بين أطرافه، وذلك في إطار المناورة، وتوظيف «استراتيجيات الصراع» داخل صفوفه، بما ينعكس إيجابا على وضعها الإقليمي وأدوارها. وقد تأسس ذلك، من جهة أخرى، على أن الشحنات التجارية والغذائية، والتعامل التجاري لم يتوقف بين إيران من جانب، وقطر وتركيا من جانب آخر. فعلى سبيل المثال، استخدمت طهران الدولة التركية لسنوات كممر خلفي للتحايل على العقوبات الدولية، وبهذه العوائد استمرت في تمويل حلفائها في سوريا والعراق ولبنان.

ارتبط ذلك، على جانب آخر، بمحركات توطيد العلاقات الإيرانية مع قطر، سيما بعد أن بدأت طهران قبل نحو شهرين، في إعادة إنتاج الغاز من حقل الشمال البحري، وهو أكبر حقول الغاز القطرية، باعتباره حقلاً مشتركاً مع إيران، التي لم تتمكن من استغلاله من قبل، بسبب الحظر الاقتصادي ونظام العقوبات الذي كان مفروضا عليها بسبب برنامجها النووي، ولكونها تسعى إلى العمل على إعادة تأهيل واستغلال موارد الطاقة، ومنها حقل الشمال البحري.

وتشير تقديرات في هذا السياق إلى أن وضع الدوحة في سوق الغاز العالمي، يبدو مهدداً من قبل روسيا وأستراليا، وزيادة الإنتاج القطري - الإيرانى من هذا الحقل يمكن أن يرفع المعروض من الغاز الطبيعي المسال إلى أكثر من 300 مليون طن سنويا، ويؤدي إلى انهيار الأسعار، مما يفرض على طهران استغلال فرصة تصدع العلاقات الخليجية – القطرية، لدعم أواصر العلاقات مع الدوحة بما يعزز مصالحها الاقتصادية والتجارية.

لذلك، فبعد ساعات من إعلان الدول العربية قرارها بقطع العلاقات، أبدت طهران استعدادها لتزويد الدوحة بالسلع الغذائية، رغم إعلان الدوحة بعد ذلك الاكتفاء بالمساعدات التركية. ونقلت وكالة أنباء «فارس» الإيرانية عن رئيس نقابة مصدري المحاصيل الزراعية في إيران، رضا نوراني، تأكيده استعداد بلاده لتصدير مختلف السلع والمواد الغذائية إلى قطر، عبر ثلاثة موانئ. وقال نوراني إن إيران تعد الأقرب بحريا لقطر وتستطيع شحن المواد الغذائية إليها في وقت محدود نسبيا. هذا فيما أعلن المتحدث باسم شركة الطيران الإيرانية أن طهران أرسلت خمس طائرات محملة بالمنتجات الغذائية إلى الدوحة.

على جانب آخر، كانت أنقرة أسرع الدول على مستوى الإقليم التي اتخذت مقاربات تستهدف الحد من فعالية الإجراءات المتخذة من قبل الدول العربية حيال الدولة القطرية، وذلك لأغراض مركبة، تستهدف تعزيز الشراكات التجارية، ومضاعفة حجم الاستثمارات القطرية في أنقرة، وزيادة معدلات التبادل التجاري، وتوطيد أواصر العلاقات السياسية والعسكرية، عبر المدخل الاقتصادي، بحسبانه مدخلاً حاكماً وضرورياً يجب اقتناصه، إعمالا لـ«برغماتية رجال الأعمال» المتحكمة في القرار التركي، بالنظر إلى الساحات المجاورة، وفى هذا السياق، أصدر إردوغان تعليماته لوزير الاقتصاد، نهاد زيبكجي، بمتابعة الأزمة لتحديد الاحتياجات الضرورية بعد اجتماعات بين وفدين من البلدين، تبعها تصريح لرئيس اتحاد المصدرين الأتراك، محمد بويوك أكشي، بتوجه أنقرة لتغطية احتياجات قطر من الغذاء والبضائع والمنتجات التركية، إضافة لمواد البناء.

كما قامت تركيا بإرسال عدد من طائرات الشحن التركية، تلبية لاحتياجات الدوحة، وصولا لمرحلة إنشاء «جسر جوي». وتحتل تركيا المرتبة السابعة من حيث الاستثمارات الخارجية لدولة قطر، بالإضافة إلى استثمارات كبيرة في مجال البناء، والتي تقدر قيمتها بأكثر من 14 مليار دولار. وفى الوقت نفسه، تقدر قيمة الصادرات التركية إلى قطر بأكثر من 400 مليون دولار. وتعتبر قطر مستثمراً رئيسياً في اقتصاد تركيا البالغ 857 مليار دولار، إضافة إلى وجود مصالح مشتركة في وسائل الإعلام والشركات المالية. وتشير القراءة المتأنية في طريقة التعاطي التركي، عبر توظيف البُعد الاقتصادي ضمن استراتيجيتها للتعامل مع الأزمة القطرية، إلى الرغبة في أن تبدو «المنقذ» أو «البطل» الإقليمي، الذي استجاب للطرح القطري في واحد من القرارات التي تتبناها منذ الشروع في تنفيذ سياستها التطلعية نحو الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن بعض التقديرات التركية تشير إلى أن الاستثمارات التي توظّفها قطر في تركيا متواضعة نسبياً بالمقارنة مع استثماراتها في بلدان أخرى، فإن ضخ الأموال القطرية أسهم في التخفيف من وطأة الصعوبات والتحديات التي تجابهها الموارد المالية التركية، سيما بعد يوليو 2016، وتسعى أنقرة، في هذا السياق، إلى الاستفادة من أصول قطرية تقدرها بعض المصادر بنحو 335 مليار دولار في صندوق الثروة السيادي، الذي أنشأته الدوحة عام 2005، إضافة إلى احتياطي نقدي يبلغ 43.6 مليار دولار.

وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض الاتجاهات التركية تتخوف من تأثيرات ضخمة قد تتعرض لها الشركات التركية التي تستثمر في قطر. فمع بداية الأزمة، فقدت أسهم شركات البناء الكبرى التركية في قطر الكثير من قيمتها، بما أشار إلى إمكانية أن تواجه هذه الشركات صعوبات متصاعدة في تمرير المواد اللازمة لعملها، في ظل العقوبات العربية، والتي سيكون لها تكلفة متصاعدة، وأنه من الممكن أن يكون هناك انقطاع في عمليات البناء، كما أن هذه العقوبات ستفرض ضغوطاً كبرى على عملة قطر، هذا في وقت تواجه فيه العملة التركية ذاتها ضغوطاً كبرى لأسباب متنوعة، منذ يوليو الماضي. وقد ازدادت حصّة تركيا في مشاريع البنية التحتية الكبرى التي أطلقتها الإمارة، استعداداً لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم في عام 2022 - خصصت لها ميزانية تصل إلى 170 مليار دولار - والتي قد تواجه صعوبات أيضاً فى استضافتها، وفق بعض التقارير والتقديرات الدولية.

وتأتي قطر في المرتبة السابعة على قائمة البلدان التي يتولى فيها المقاولون الأتراك أكبر عدد من المشاريع. وتتصدر مشاريع الطرق البرية القائمة المنفذة في قطر. ويشارك المقاولون الأتراك أيضاً فى مشاريع المترو والمطارات والموانئ البحرية، وتُعد قطر وجهة تجارية مربحة للشركات التركية التي شاركت بكثافة في معرض «إكسبو تركيا في قطر» الذي عُقد في الدوحة. ووفقا لرجل الأعمال التركي، هاكان كورت، الذي نظم هذا المعرض، أنجزت الشركات التركية عقوداً بنحو 13 مليار دولار، وتوجد مشاريع في طور التنفيذ تصل قيمتها إلى 7.5 مليار دولار. وقال كورت: «نتوقع أن تصل قيمة المشاريع التي تعهدتها الشركات التركيّة في قطر إلى ما بين 15 و20 مليار دولار بحلول عام 2022».

الدعم العسكري.. بين «الحرس الثوري» و«القاعدة التركية»



غادر وفد عسكري قطري إلى روسيا، في محاولة لتعزيز أوجه التعاون العسكري، الهدف منه بالأساس هو مواجهة الضغوط السياسية الأميركية المحتملة، وإبعاد موسكو عن ممارسة أي ضغوط سياسية حيال قطر من أجل الاستجابة إلى المطالب العربية الخاصة بتعديل السياسات، ونمط التوجهات الخارجية، والابتعاد عن دعم التنظيمات الإرهابية والجماعات الراديكالية. وأشارت بعض التقديرات، على جانب آخر، إلى عقد اجتماع عسكري بين كل من الدوحة وطهران وأنقرة لترتيب إرسال قوات عسكرية تركية للدوحة لحماية منشآت قطرية حيوية، لمواجهة «تحركات داخلية غير اعتيادية» محتملة، والمشاركة في مساعدة الحرس الثوري الإيرانى في هذه المهمة، وأوضحت أن قطر ستدفع لتركيا نحو 8 مليارات دولار مقابل إنشاء «القاعدة»، وفق اتفاق يفتح مجالا لترويج المنتجات الدفاعية التركية، التي باتت تواجه صعوبات فيما يخص عمليات التسويق الخارجي. وقد أشارت هذه التقديرات إلى أن «الاجتماع الثلاثي» تزامن مع انعقاد البرلمان التركي لمناقشة إرسال قوات عسكرية تركية إلى قطر في 7 يونيو (حزيران) 2017.

ويضمن اتفاق إنشاء القاعدة التركية وجود مقر قيادة عسكرية عليا يشرف عليها الأتراك، عبر عميد تركي، ويرأسه شرفياً قيادي قطري، كما سيوجد فريق مكافحة متفجرات مكون من نحو 25 إلى 30 عنصراً. وصدَّق البرلمان التركي على الاتفاق، بناء على دعوة عاجلة من الحكومة التركية، تحسباً لأي تطورات دراماتيكية في العلاقات القطرية الخليحية. وتمثل القاعدة العسكرية التركية في الدوحة أول منشأة من نوعها في الشرق الأوسط، وتأتي كجزء من اتفاق صاغ معالمه وحدد خطوطه العريضة، رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو.

وقد تمركز فيها نحو 150 فردا بعد توقيع الاتفاق في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2014، واستقبلت القاعدة التركية أخيرا المزيد من الجنود والمعدات العسكرية التركية، وذلك قبيل تمرير البرلمان التركي اتفاق إرسال عناصر من الجيش إلى الدوحة، وذلك في إطار شحنات بحرية وجوية تمت تغطيتها إعلاميا، بحسبانها بضائع وسلعاً سريعة توفرها أنقرة لحكومة الدوحة. وتشمل التوافقات بين الجانبين اتفاقا آخر وقِّع في أواخر عام 2015، يقضي بقيام الجيش التركي بتدريب قوات الأمن القطري. وشملت بنود اتفاق إنشاء القاعدة العسكرية التركية تمركزاً ما بين 3000 إلى 5000 جندي تركي في الدوحة، وتسري الاتفاقية لمدة عشر سنوات، قابلة للتجديد لخمس سنوات أخرى، ولا يجوز للطرف القطري الطعن على بنودها أمام المحاكم الدولية أو المحلية في تركيا أو قطر، بحسبانها ملزمة على نحو كامل ولا يسري عليها تعديل إلا بمقتضى إرادة مشتركة.

هذه التطورات المتسارعة ذات الأبعاد المركبة تشير إلى أن ثمة مستجدات غير تقليدية وتهديدات محتملة ترتبط بالتوجه التركي – الإيرانى إزاء منطقة الخليج العربي، في مسعى مشترك - على ما يبدو - لتحويل الأزمة الخليجية – الخليجية إلى أزمة إقليمية ودولية، وهو ما كان قد دفع وزير الخارجية الألماني، زيغمار غابرييل، لأن يلوح بذلك، عبر تحذيره من اندلاع حرب إقليمية واسعة بسبب الأزمة القطرية، داعيا دول الخليج، بالإضافة إلى تركيا وإيران، للحوار حول سبل إنهاء هذه الأزمة.

وتبدو الاتفاقيات القطرية – التركية مثيرة للانتباه في هذا الشأن، كونها تنص على أن البلد المضيف يسمح للبلد الآخر باستخدام موانئه البحرية وطائراته ومجاله الجوي، وبتمركز قواته العسكرية على أراضيه، وباستفادته من المخيمات والوحدات والمؤسسات والمنشآت العسكرية. ويوحي تمرير هذه الاتفاقية، بالتزامن مع تفاقم الأزمة الخليجية، بأنه ضمن ما تستهدفه تركيا حيال دول الخليج الأخرى، سيما في ظل تصريحات الرئيس التركي في أثناء لقائه أخيرا مع وزير الخارجية البحريني، خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة، حيث أشار إلى أن هذه القاعدة معنية بحماية الأمن الخليجي كافة، بما يعني بطريقة غير مباشرة أنها تستهدف حماية قطر وأن أدوارها، في الوقت نفسه، قد تتجاوز حدود الدوحة، بما يمنحها صلاحيات لم تطلبها دول الخليج الأخرى، ولم يُتفق عليها.

وفي هذا الإطار، طرحت المعارضة التركية تساؤلات حول الهدف من وجود هذه القوات، وإن كانت أهدافها تشمل أمن الدول العربية التي قد تدخل في مناوشات أو تتصاعد توتراتها مع الدوحة، حال استمرار الأخيرة في التحريض ضد المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين ومصر، واحتضان جماعات «إرهابية» وطائفية، ودعم جماعات إرهابية مدعومة من إيران كالحوثيين في اليمن، واستمرار سياسات قناة «الجزيرة» التحريرية ذات «الصبغة السياسية التحريضية». ورأت بعض التقديرات التركية أن أنقرة تعاملت مع الإجراءات الخليجية حيال قطر وكأنها موجهة للجانب التركي، بما دفع فيليز كيرستيسى أوغلو Filiz Kerestecioglu من حزب الشعوب الديمقراطي التركي، إلى القول إن إردوغان «يسحب تركيا تدريجيا إلى مستنقع الشرق الأوسط، بما سيجعل أنقرة قريبا تُتهم بالتعاون مع الجماعات الإرهابية».

وحسب المعارضة التركية، فمن المرجح أن يؤثر ذلك على علاقات تركيا بدول الخليج التي شهدت الروابط معها تطورات إيجابية كثيرة، سيما بعد الجولة الخليجية للرئيس التركي في فبراير (شباط) 2017، والتي شملت البحرين والرياض وقطر، وتحدث فيها عن مخاطر «التمدد الشيعي في المنطقة»، بيد أن التطورات الأخيرة تشير إلى أن أنقرة ترسل إشارات ذات دلالة على الآفاق التي يمكن أن يصل إليها التعاون العسكري مع قطر، وبالتنسيق مع طهران.
لذلك، فإنه في الوقت الذي تتجه فيه طهران لتعزيز تعاونها مع الدوحة، انطلاقا من إدراك الأزمة الخليجية بحسبانها فرصة يمكن استغلالها وتوظيفها سياسيا واقتصاديا وعسكريا، فإن القيادة القطرية تحاول استمالة الجانب الروسي باعتباره حليفاً رئيسياً لطهران، فيما تتحرك أنقرة من جهتها بخطى متسارعة لتضع قدمها داخل معادلات الأمن الخليجي لتتحول من موازن ولاعب مهم في حصار النفوذ الإيرانى إلى «موازن إقليمي» يساند قطر في مواجهة الضغوط الخليجية، التي تبتغي تعديل المسار القطري، وضبط بوصلة اتجاهاته السياسية.

ومن المرجح أن يضاعف ذلك من الأعباء التي تواجهها أنقرة، والتحديات والتهديدات المتصاعدة قبالة «شواطئها» خلال المرحلة المقبلة، على النحو الذي جسدته تصريحات عضو حزب الشعوب الديمقراطي التركي، أوزتورك يلماز، حين أشار إلى أن «تركيا تتخذ خيار الوقوف إلى جانب قطر، وهي بذلك تتحدى دول الخليج الأخرى، وهذه سياسة خاطئة... فكيف ستكون وسيطا إذا كنت منحازاً لأحد الجانبين؟». وقد عبر عن ذلك أيضاً وزير الخارجية التركي الأسبق، يشار ياكيش، في جريدة «حرييت»، حيث أشار إلى أن تركيا باتت معزولة إقليميا بشكل خطير، وأن معطيات الأزمة الخليجية الراهنة تشير إلى أن كلاً من أنقرة والدوحة، سيزيدان من هذه العزلة، سواء كان ذلك على المستوى الإقليمي أو الدولي.

* رئيس تحرير فصلية «شؤون تركية»، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
font change