موسكو في ورطة

موسكو في ورطة

مشروع قانون مجلس الشيوخ يضع العقوبات على روسيا خارج سيطرة ترمب





* التطورات التي برزت خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2016 أدت إلى زيادة ترسيخ مكانة روسيا كدولة معادية.
* من المرجح لمشروع قانون العقوبات ضد إيران وروسيا أن يحصل على موافقة مجلس النواب رغم المشكلات الصغيرة، إذ إن القضايا التي يتناولها تتمتع بدعم ساحق من الحزبين الكبيرين في واشنطن.
* لا تتناسب آليات العقاب التي اقترحتها الولايات المتحدة مع الجرائم التي ارتكبتها روسيا. ولكن على الأقل بعد شهور من عدم اليقين، فإن القيادة الأميركية تختار إرسال رسالة إلى بوتين، وإن كانت تبعث على القلق.



فلادلفيا (الولايات المتحدة) - مايا أوتاراشفيلي:

لا تزال العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا تحت رئاسة ترمب ثابتة. وقد أوقف هذا المسار الجديد العلاقات العدائية السابقة بين البلدين: علاقة إدارة أوباما مع روسيا كانت ضعيفة على أقل تقدير. فقد تعرضت روسيا في عهد الرئيس أوباما لنوعين مختلفين من العقوبات: أولاً، تلك التي نتجت عن العدوان الروسي في أوكرانيا من 2014 إلى الوقت الحاضر، وبعد ذلك تلك التي نتجت عن تدخل روسيا في انتخابات الرئاسة الأميركية في 2016. وفي المقابل، فإن إدارة ترمب، وعلى الرغم من أنها في السلطة لأكثر من 150 يوماً، ليس لديها سياسة رسمية أو متماسكة تجاه روسيا. ولكي يتغير ذلك، يتعين على الإدارة الجديدة أن تملأ المقاعد الفارغة الكثيرة في مؤسسات صنع السياسات التابعة لها. ولكن هذا وحده لن يكون كافياً إذا لم يقرر الرئيس نفسه التحدث علناً وجدياً عن مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا.

وهكذا، فإن تحرك مجلس الشيوخ الأميركي أخيراً، والذي يعتزم تعميق العقوبات على روسيا واستخدام السلطة التشريعية لمنع الرئيس إذا حاول إضعاف أو إزالة العقوبات على موسكو، هو تطور يُرَحّب به بعد أشهر من عدم اليقين.

روسيا في ورطة مزدوجة



خاض بوتين في السابق حروباً في أوكرانيا وسوريا. وشاركت روسيا أيضاً في الهجمات السيبرانية على الدول الأوروبية مثل أستونيا، وقامت أخيرا بتمويل حملات التضليل والأحزاب القومية اليمينية المتطرفة في أوروبا الغربية. ولكنَّ التطورات التي برزت خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2016 أدت إلى زيادة ترسيخ مكانة روسيا كدولة معادية. ونقل مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» أخيراً الأشهر القليلة الماضية من وقت الرئيس أوباما في البيت الأبيض بعد أن تلقى تقريراً من وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) في أغسطس (آب) 2016. وأشار التقرير المستمد من مصادر عميقة داخل الحكومة الروسية إلى تفاصيل عن تدخل مباشر من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حملة إلكترونية لتعطيل وتشويه سمعة السباق الرئاسي الأميركي. وتضمن التقرير توجيهات محددة من بوتين حول أهداف العملية الجريمة، وهو هزيمة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون أو على الأقل الإضرار بها والمساعدة في انتخاب منافسها دونالد ترمب. وعلى الرغم من إنكار بوتين لهذه التهمة في كثير من المناسبات اللاحقة، أثبت تقرير الاستخبارات تورطه المباشر في أعمال روسيا الرامية إلى زعزعة الديمقراطية في أميركا. ولفتت مقالة «واشنطن بوست» إلى أنه وعلى مدار خمسة أشهر، ناقشت إدارة أوباما سراً خيارات ردع أو معاقبة روسيا بما في ذلك شن هجمات إلكترونية على البنى التحتية الروسية والكشف عن المعلومات التي جمعتها «سي آي إيه» التي قد تحرج بوتين أو فرض عقوبات، قال المسؤولون، إنه يمكن أن تعصف بالاقتصاد الروسي.

لكن في النهاية وافق ترمب أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي على حملة متواضعة من الإجراءات لمعاقبة روسيا تشمل طرد 35 من دبلوماسييها وإغلاق مجمعين روسيين وعقوبات اقتصادية تستهدف من ساعدوا في تصميم القرصنة.

وكانت هذه العقوبات مجرد واحدة من كثير من الأشياء التي انكشفت على مدى الأشهر الستة الأولى من رئاسة ترمب. ويجري التحقيق مع ترمب وفريقه للتواطؤ المحتمل مع الروس. وتم نشر تقارير إضافية تثبت تورط الكرملين في الانتخابات وفي اختراقات اللجنة الديمقراطية الوطنية، وتم تعيين مدعٍ خاص لإجراء تحقيقاته الخاصة بفريق الرئيس بعد أن طرد ترمب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي في مايو (أيار).

وفي حين أن العقوبات الأميركية المرتبطة بالانتخابات تبدو رمزية أكثر من كونها موضوعية فإنها تعمل على تكثيف العقوبات الروسية الحالية، التي وُضعت بعد أن اتخذت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون قراراً بمعاقبة روسيا على غزو أوكرانيا. وعلى الرغم من أن تلك العقوبات لا تزال تؤثر سلبياً على الاقتصاد الروسي، فإنها لم توقف فعلياً أعمال بوتين العدوانية.

هل مجلس الشيوخ الجمهوري مسؤول عن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا؟



الجمهوريون في الكونغرس ليسوا صريحين جداً حول الروابط المزعومة بين ترمب وروسيا. ولم تقم قيادة الحزب بانتقاد الرئيس لأي من تصرفاته وتصريحاته المثيرة للجدل. وعلى الرغم من الفضائح الكثيرة فهي تدعمه. ولكن السياسيين الجمهوريين تمكنوا أيضاً من الفصل بين ترمب وبوتين في سردهم بشكل جيد لدرجة أنهم ينتقدون روسيا وبوتين دون إدانة ترمب. وكانت هذه المناورة الدقيقة واضحة في مشروع القانون الجديد الذي أقرّه مجلس الشيوخ في 15 يونيو (حزيران) الحالي بأغلبية 98 صوتاً مقابل صوتين. ويعتزم مشروع القانون الجديد فرض عقوبات إضافية على روسيا كعقوبة على ثلاث مخالفات كبرى وهي: تدخل روسيا في الانتخابات الأميركية في 2016، ومشاركتها في الحرب في سوريا، وغزوها شبه جزيرة القرم. كما يفرض عقوبات جديدة على «فاسدين روس» متورطين في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان أو يزودون نظام الرئيس السوري بشار الأسد بالأسلحة، وعلى أشخاص يقومون بنشاطات «معلوماتية خبيثة» بإيعازٍ من الدولة الروسية. كما أنها تفرض عقوبات على صناعات التعدين والنقل البحري والسكك الحديدية في روسيا.

ويشكل مشروع القانون هذا جزءاً من مشروع قانون العقوبات الأكبر الذي يفرض عقوبات جديدة على إيران أيضاً. وسيستهدف الأشخاص المتورطين في برنامج الصواريخ البالستية الإيرانية وسيطبق عقوبات الإرهاب على الحرس الثوري الإيراني فضلاً عن فرض حظر بيع الأسلحة لإيران. وعلى عكس موقفه تجاه روسيا، يشجع ترمب ويؤيد العقوبات الأميركية المفروضة على إيران.

وعلى الرغم من الجولة الجديدة من العقوبات المفروضة على روسيا وإيران فإن الجزء الأساسي من مشروع القانون هذا يأخذ عملية صنع القرار من يد ترمب من خلال اشتراط فترة مراجعة للكونغرس تستغرق 30 يوماً لأي قرار يتخذه الرئيس لتخفيف العقوبات أو رفعها.

وقال السيناتور الديمقراطي البارز وزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر إن مشروع القانون هذا سيضمن مواصلة الولايات المتحدة في معاقبة الرئيس بوتين على تصرفاته المتهورة والمزعزعة للاستقرار. «كما سترسل هذه العقوبات الإضافية رسالةً قوية إلى روسيا وأي دولة أخرى قد تحاول التدخل في انتخاباتنا بأنها ستعاقب على هذه المحاولة».

ولا يزال يتعين على مجلس النواب الأميركي الموافقة على مشروع القانون قبل أن يذهب إلى مكتب ترمب للتصديق عليه نهائياً. وعلى الرغم من نجاح ومرور المشروع في مجلس الشيوخ فقد تم إيقافه من قبل الجمهوريين في مجلس النواب الذين أشاروا إلى مسألة إجرائية طفيفة والمفترض أن يكون من السهل حلها. بيد أنه ووفقاً لتقارير أصدرت أخيراً فإن البيت الأبيض كان يضغط بهدوء على الجمهوريين في مجلس النواب ليخففوا العقوبات المفروضة على روسيا في مشروع القانون، مما يفسر التأخير الذي حصل. ومن المرجح أن تكون هذه التقارير صحيحة، إذ يبدو أن وزير الخارجية ريكس تيلرسون يعارض القانون المعروض حالياً في الكونغرس. وقال تيلرسون خلال شهادته الأخيرة التي أدلى بها أمام الكونغرس إن الرئيس دونالد ترمب يحتاج إلى «المرونة اللازمة لتعديل العقوبات لتلبية احتياجات ما يعتبر دائماً حالة دبلوماسية متطورة» مع روسيا. كما ذكر تيلرسون أنه لا تزال هناك إمكانية لعقد محادثات واعدة بين موسكو وواشنطن.

لحظة الحقيقة لترمب



من المرجح لمشروع قانون العقوبات ضد إيران وروسيا أن يحصل على موافقة مجلس النواب رغم المشكلات الصغيرة، إذ إن القضايا التي يتناولها تتمتع بدعم ساحق من الحزبين في واشنطن. وبعد هذه المحطة سينتهي المطاف بمشروع القانون إلى مكتب ترمب ليتم التوقيع عليه. ستكمن لحظة الحقيقة فيما إذا كان سيوقع أم لا على مشروع القانون: هل سينقض ترمب مشروع القانون خوفاً من تعريض مستقبل علاقة إدارته مع روسيا للخطر؟ أم أنه سيوقع مشروع القانون على أمل التخلص من بعض الادعاءات حول تواطؤ روسيا على الأقل؟ إذا رفض التوقيع على مشروع القانون مستخدماً الفيتو فيمكن أن يثبت أنه مذنب بالنظر إلى أن فريقه يخضع للتحقيق الفيدرالي في علاقات روسيا المزعومة. وفي حال وقّع على مشروع القانون، سيتم تعليق آماله في استئناف العلاقات الودية مع روسيا إلى ما لا نهاية.

دعم المشرعون الجمهوريون، على الأقل الأغلبية الساحقة منهم، الرئيس ترمب منذ انتخابه، ولم يُبدوا شكوكاً كبيرة حتى في ظل الكثير من التحقيقات الفيدرالية الحالية. فلماذا يأخذ الكونغرس إدارة هذه العقوبات من يد ترمب الآن؟ وعلى الرغم من أن السياسيين الجمهوريين لن يعترفوا رسمياً بأنهم لا يثقون بالرئيس عندما يتعلق الأمر بروسيا، فهم يفهمون خطورة التهديد الروسي بما فيه الكفاية ليريدوا أن يفعلوا شيئاً حيال ذلك بدعمٍ من الرئيس أو من دونه. وعلاوة على ذلك، فهم يدركون أن خيارات الرئيس في معاقبة أو عدم معاقبة روسيا محدودة جداً وتتطلب التأمل الدقيق.

ولم يوافق ترمب علناً على فكرة فرض عقوبات على روسيا، وفي مناسبات كثيرة، أعرب عن احترامه وإعجابه ببوتين. والآن في حين يبدو أن التحقيقات الروسية لن تنتهي قريباً، لجأ ترمب وفريقه إلى تجنب المسائل المتعلقة بالتدخل الروسي في الانتخابات، مدعين بأن الرئيس لم يناقش هذه المسألة مع مساعديه. من السهل فهم محاولة الرئيس تجنب مناقشة المسألة علناً: إذا أدان أعمال روسيا، فقد يخشى أن يكون على الأقل يشكك بشكلٍ غير مباشر بشرعية رئاسته إذ كان السبب الرئيسي للتدخل الروسي هو لانتخاب ترمب. ويفهم هذا الخوف جيداً كثير من السياسيين الجمهوريين. على سبيل المثال، قال السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام في مناسبات كثيرة إنه يظن أن ترمب يعتقد أن متابعة روسيا لقضية التدخل في الانتخابات تشير إلى أنه لم يفز بإنصاف. وأضاف: «لا أرى أي دليل على تآمر حملة الرئيس الانتخابية مع الروس... أرى كل نوع من الأدلة التي تثبت أن الروس يحاولون تدمير انتخاباتنا وتدمير الديمقراطية». قد يكون الفصل بين القضيتين أفضل طريقة لجعل ترمب يوقع على مشروع القانون.

من ناحيةٍ أخرى، إذا قرر ترمب أن يناقش المسألة من الناحية الإيجابية فسيخاطر عملياً بتفرقة البلاد بأكملها (وفقاً لاستطلاعات الرأي العام الأخيرة فإن 70 في المائة من الأميركيين لديهم آراء سلبية تجاه روسيا). بالإضافة إلى ذلك ووفقاً لاستطلاع غالوب في 23 يونيو فإن 74 في المائة من الأميركيين لديهم رأي سلبي تجاه بوتين. ويعادل تقدير عدم الرضا هذا تقريباً نسبة الموافقة على بوتين بنسبة 81 في المائة في روسيا. لذلك، وفي حين أن الرئيس وإدارته عملياً مقيدون عندما يتعلق الأمر بروسيا فقرر الكونغرس أن يتصرف.

وتظل كيفية وما إذا كانت هذه العقوبات الإضافية ستفرض على روسيا مسألة منفصلة. ففي الوقت الراهن، لا تتناسب آليات العقاب التي اقترحتها الولايات المتحدة مع الجرائم التي ارتكبتها روسيا. ولكن على الأقل بعد شهور من عدم اليقين، فإن القيادة الأميركية تختار إرسال رسالة إلى بوتين، وإن كانت تبعث على القلق.
font change