السلطان والرئيس

السلطان والرئيس

تركيا من عبد الحميد الثاني إلى إردوغان


أنقرة: محمد عبد القادر خليل*

* مقاربات التعاطي مع الشأن التركي تتعدد في إطار رصد ومقارنة ممارسات عبد الحميد، وسياسات رجب إردوغان.
* ارتبطت استراتيجية الترويج لدعم تمرير التعديلات الدستورية باستراتيجيات إضعاف المعارضة السياسية.
* تحاول القيادة التركية، استغلال مرحلة السيولة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، لتراهن على تحويل عناصر «الضعف الهيكلي» التي تعتري تماسك الدولة التركية إلى عنصر قوة.
* يحتاج إردوغان إلى تدوير زوايا التحرك محلياً لاستيعاب المعارضة، وخارجياً لتحسين العلاقات مع دول الجوار، والابتعاد عن الدول المثيرة للاضطرابات.



لا ترتبط العودة إلى الجذور في الحالة التركية بمحض الرغبة في إعادة صوغ السياسات التي من شأنها نسج روابط مستحدثة مع المناطق التي سبق خضوعها قديماً للباب العالي في إسطنبول، وإنما تتعلق كذلك بقيادات تركية باتت تحاول إعادة «البريق» للدولة العثمانية، التي حُملت قياداتها مسؤوليات تاريخية تجاوزت قدراتها، ونالت من مكانتها، لاعتبارات تتعلق، حسب النخبة التركية الحاكمة، بالتوجهات الخاصة بالقيادات المؤسسة لدولة تركيا المعاصرة، التي أعلن عن تأسيسها عام 1923، كونها انتهجت نهجا مغايرا على مستوى الخطاب والممارسة، فيما يخص كل مظاهر الهوية التركية.



إرث «الإمبراطورية»





ويبدو أن مسار الإعجاب بحكام الدولة العثمانية، مثّل أحد محركات زيارات الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، المتكررة إلى أضرحتهم، بل، ويعتبر البعض، أن ذلك مثّل، على جانب آخر، أحد محركات تحويل النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي، يقوم على تركيز السلطات في يد الرئيس، الذي يلقبه البعض من مؤيديه ومعارضيه، على حدا سواء، بـ«الخليفة» أو «السلطان»، كون ممارسات الحكومة التركية وتصريحات نخبتها تعكس، في حالات كثيرة، حالة الحنين إلى «عصور السلطنة».
تبدو مظاهر ذلك متنوعة ومتداخلة، ولكن يظهر جليا في القلب منها، على سبيل المثال، محاولات إعادة «البريق» إلى السلطان عبد الحميد الثاني، والذي تعرض لهجوم كبير من قبل قيادات «الدولة الكمالية» تبريرا لإزالة إرث «الإمبراطورية» البالية، واتخاذ مقاربات راديكالية حيال هوية الأتراك الإسلامية، وفي مقابل ذلك فإن حكومات حزب العدالة والتنمية عملت في اتجاه عكسي من أجل إعادة الاعتبار لما تعتبره هوية الأتراك الحقيقية، فسمحت للمحجبات بدخول الجامعات، والعمل في المؤسسات الحكومية، كما تبنت سياسات أفضت إلى السماح بانضمامهن إلى الأجهزة الأمنية، ثم القوات المسلحة التركية. هذا في حين توسعت مدارس «الأئمة والخطباء» الدينية، على نحو غير مسبوق.
توازى مع ذلك، العمل على إعادة صوغ الصورة الذهنية حول عبد الحميد الثاني، ووسمه بـ«الإمبراطور العظيم»، وتذكره الدائم في المناسبات الوطنية، وإعادة تسمية بعض المؤسسات والمباني الحكومية باسمه، وبث حلقات تسرد السنوات الثلاث عشرة الأخيرة من عهد «السلطان المظلوم»، حسب وسم «الإردوغانيين»، وذلك بحسبانه حاكماً صامداً، واجه مؤامرات خارجية وقوى انقلابية داخلية. وقد جاء ذلك بالتزامن مع السماح لحفيدة السلطان عبد الحميد من الجيل الخامس، نيلهان عثمان أوغلو، بالتعبير عن الحنين لهذه المرحلة بالقول: «حينما ننظر إلى حجم الصراعات في الشرق الأوسط... ندرك حكمة إدارة العثمانيين لهذا الجزء من العالم».
لم ينفصل ذلك، من جانب آخر، عن محاولات الرئيس التركي ذاته تفكيك النموذج المجتمعي لدولة مصطفى كمال أتاتورك، مع إشارات متفرقة ولكنها بدت عاكسة لمدى التأثر بميراث الإمبراطورية العثمانية، منها زهو نخبة الحزب الحاكم بالتاريخ العثماني، وتدشين قصر للرئاسة جديد يتضمن مئات الغرف، على شاكلة قصور السلاطين القديمة، ليصطف به الحراس بالزي الذي يعكس تاريخ الإمبراطورية العسكري، وذلك في مشاهد يرمز تتابعها لمحاولات، اعتبرتها قوى المعارضة التركية، تستهدف تفكيكا تدريجيا لأركان دولة أتاتورك العلمانية، وإعادة بناء دولة عبد الحميد، الإسلامية، باعتباره آخر السلاطين العثمانيين، والذي حكم لأكثر من ثلاثين عاما في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.


إردوغان والخليفة عبد الحميد




[caption id="attachment_55260646" align="alignleft" width="225"] عبد الحميد الثاني[/caption]

بدت مقاربات التعاطي مع الشأن التركي تتعدد في إطار رصد ومقارنة ممارسات عبد الحميد، وسياسات رجب إردوغان. فبدا واضحا حجم التداخل التاريخي بين الأبعاد الخارجية والداخلية التي دفعت السلطان عبد الحميد الثاني إلى إصدار أول دستور أو قانون أساسي في تاريخ الإمبراطورية العثمانية في عام 1876، حيث ارتبط ذلك بتصاعد التهديدات من قبل القوى الأوروبية، التي كانت تتهيأ للانقضاض على بقايا «رجل أوروبا المريض»، في وقت شهدت فيه السلطنة تصاعد مطالب الأقليات العرقية والدينية واللغوية بدعم غربي لنيل الاستقلال الذاتي، بما استدعى التوجه لإصدار دستور ينص على احترام حقوق الإنسان، والقضاء المستقل، واللامركزية، وذلك في توجه اعتبره الكثيرون توجها إصلاحيا.
بيد أن ممارسات السلطة التركية الراهنة، عبر التعديل الدستوري الذي تم تمريره في أبريل (نيسان) 2017، تشير إلى التحرك في اتجاه عكسي، حيث الإخلال بتوازن السلطات لصالح السلطة التنفيذية، ومنح الرئيس صلاحيات واسعة شبيهة بتلك التي اكتسبها السلطان العثماني قبل عقود خلت، بما لا ينسجم مع النظم السياسية الحديثة. ومع أن تاريخ تركيا المعاصر مليء بالقيادات والزعامات، التي سبق لها أن طالبت بالتحول إلى النظام الرئاسي الذي يتحكم فيه الرئيس، نظرا لأن قوة الدولة في المخيلة التركية تنبع من قوة الرئيس، بيد أنه من بين هؤلاء بدا إردوغان الزعيم الأكثر نجاحا في تحقيق ذلك، سيما أنه دمج بين القومية التركية والمحافظة الدينية، بالمقارنة مع أسلافه من قيادات اليمين التركي، بما أنتج نموذج حكم، تشير تقديرات إلى أنه قد يقود تركيا إلى الابتعاد النسبي عن القيم الديمقراطية، لصالح سيادة نمط من أنماط «الحكم السلطوي».



تشابه وافتراق... «الإردوغانية» و«الكمالية»




باتت الانتقادات تتوالي للنظام التركي، فقد تأسست تركيا المعاصرة من رحم الإمبراطورية العثمانية، وقام أتاتورك بتثبيت الكثير من دعائم الدولة الحديثة، بما يشمله ذلك من حقوق مدنية وصحافة حرة، فيما يعتبر الكثير من المراقبين أن إردوغان رغم نجاحه على المستوى الاقتصادي، بات في السنوات الأخيرة أشبه بفلاديمير بوتين الذي يعتبره معارضوه أقرب إلى «القياصرة الروس»، وكذلك دونالد ترمب الذي يشبهه البعض بـ«الأباطرة الرومان».
وعلى الرغم من أن رجب إردوغان يشترك مع كمال أتاتورك، في الزهو الشخصي بنفسه كزعيم سياسي، وبقوة السيطرة على مؤسسات الحكم، بما انعكس في إقدام الرئيس إردوغان على تعديل الدستور التركي، الذي جاءت نتيجة الاستفتاء حوله بموافقة نحو 51.4 في المائة من جملة المصوتين، وهو الأمر الذي أفضى إلى إعادة تشكيل النظام القضائي، وإحكام السيطرة على مؤسسة الجيش، من خلال إلغاء المحاكم العسكرية، باستثناء المحاكم التأديبية، وامتلاك سلطة اختيار أعضاء المحكمة الدستورية، ومجلس القضاء الأعلى، بواسطة إجراءات مباشرة، وغير مباشرة تضمنت السيطرة على السلطات الثلاث، لتنتقل تركيا من مرحلة الدولة البرلمانية إلى حالة دولة ترتبط دوائر الحكم فيها بمحورية موقع «رأس السلطة».
وقد ارتبطت استراتيجية الترويج لدعم تمرير التعديلات الدستورية باستراتيجيات إضعاف المعارضة السياسية، شمل ذلك اتهام صلاح الدين ديمرتاش، زعيم حزب الشعوب الديمقراطية، والذي يعد ثاني أكبر حزب معارض في البرلمان، بالتورط في دعم حزب العمال الكردستاني، فيما تم دعم دولت بهتشلي في صراعه الداخلي مع التيار المعارض له في حزب الحركة القومية، وذلك لتأييده حزمة التعديلات، في مقايضة ضمنية شملت تهميش الحزب الكردي (حزب الشعوب الديمقراطية)، وإقصاء الكوادر الكردية من المشهد السياسي، والاستمرار في التصعيد العسكري في مناطق جنوب شرقي البلاد.
بيد أن العوامل الأكثر مركزية في تمرير حزمة التعديلات ارتبطت بتصاعد أدوار ما يمكن أن يطلق عليهم «الإردوغانيون الجدد»، وهي قطاعات متنوعة الخلفيات، يغلب عليها الفئات المحافظة، والطبقة الوسطى، التي حققت رخاءً اقتصادياً في ظل حكم العدالة، كما أن هناك قطاعا عريضا من رجال الأعمال، والمستفيدين اقتصاديا، وماليا، وسياسيا، وإعلاميا من سياسات الحزب الحاكم، وهي قاعدة استطاع حزب العدالة توسعتها تدريجيا خلال عقد ونيف، لتشمل رجال قانون، وقضاة، وأساتذة جامعات، وفنانين ومثقفين.



تفكك الروابط «العثمانية» لا وصلها




تشهد تركيا تحولات كثيرة على المستوى المحلي، وثمة مسعى لإحداث تحول مشابه في علاقات تركيا الخارجية، حيث لم تعد تركيا كما كانت ركنا مركزيا في النظام الغربي إبان الحرب الباردة، حينما انضمت إلى حلف الناتو، ثم تقدمت إلى نيل عضوية الاتحاد الأوروبي. فقد باتت تشهد علاقات أنقرة الغربية فتورا غير مسبوق، وأخيرا انسحبت ألمانيا من قاعدة إنجرليك، وهناك توجه للانسحاب أيضاً من قاعدة قونية.
وثمة تزايد لمظاهر التوتر في العلاقات مع الإدارة الأميركية، لأسباب متعددة، يرتبط بعضها بدعم الأخيرة للتنظيمات الكردية على الساحة السورية، وبسبب انتقادات واشنطن لأوضاع حقوق الإنسان في تركيا، ومعارضة توجه تركيا لدعم حركات الإسلام السياسي، وبعض جماعات السلفية الجهادية، وقد تسبب ذلك في اتهامات مباشرة لتركيا من قبل، بريت ماكغورك، المنسق الأميركي لمكافحة «داعش». ولا ينفصل عن ذلك ارتدادات سياسات تركيا الخاصة بدعم العلاقات مع موسكو، سيما في ظل التوجه لشراء منظومة الدفاع الجوي S - 400، فضلا عن التحسن المطرد في العلاقات مع الأنظمة المثيرة للاضطرابات على مسرح إقليم الشرق الأوسط، كقطر وإيران.
وقد أوضحت تطورات السياسة الخارجية التركية في مرحلة ما بعد أحداث 15 يوليو (تموز) 2016، أن أنقرة تتجه إلى نمط جديد من الاستراتيجيات المقرونة بسياسات «القوة الخشنة» في توجهاتها المحلية وانعكاساتها الإقليمية، بعد أكثر من عقد ونيف من اعتماد سياسة «القوة الناعمة»، ليمثل ذلك «نقطة فاصلة» في تاريخها المعاصر، أكدت منذ بداياتها الابتعاد عن الاتحاد الأوروبي بقيمه ومعاييره، لتنسجم مع المقتضيات والمعايير السائدة في إقليم الشرق الأوسط.
ذلك أن السياسة الخارجية التركية، التي قامت على مبادئ فلسفية وقيم نظرية روج لها رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، عبرت عما أطلق عليه «العثمانية الجديدة»، من خلال مد قنوات التواصل متعددة الأبعاد والمستويات بين تركيا والدول التي كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية، عبر «أدوات ناعمة» وتصريحات «عاطفية» مستمرة، وخطوات إجرائية جمعت ما بين الإجراءات السياسية، والمبادرات الثقافية، والاتفاقيات الاقتصادية، بيد أن الإجراءات التركية الأخيرة وتسويقها السياسي رسخ فكرة الطموح التركي لإعادة صوغ السياسة الخارجية التركية، عبر «أدوات صلبة» تتمثل في توجهات وتحركات عسكرية أفضت إلى ترسيخ التمركز التركي داخل الأراضي السورية، والعراقية، والقطرية، وكذلك إلى دعم جماعة الإخوان، المصنفة إرهابيا، بمقتضى قوانين ولوائح الكثير من الدول العربية.
جاء ذلك بالتزامن مع استخدام خطاب توسعي يثير التكهنات بشأن نمط توجهات القيادات التركية. ففي الذكرى الثامنة والسبعين لوفاة مؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، قال الرئيس التركي: «نذكر بالرحمة قائد حرب الاستقلال وبانى جمهوريتنا ورئيسها الأول الغازي مصطفى كمال»، واستدرك قائلا: «نتصدى للذين يحاولون تحديد تاريخ دولتنا بتسعين سنة، ويجب أن نتخذ كل أنواع التدابير، بما فيها مراجعة الكتب المدرسية، بدءا من الابتدائية»، وأكد أنه لا يمكن سجن تركيا في 780 ألف كم.
عكس ذلك أن القيادة التركية، تحاول، حسب تقديرات غربية، استغلال مرحلة السيولة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، لتراهن على تحويل عناصر «الضعف الهيكلي» التي تعتري تماسك الدولة التركية إلى عنصر قوة، عبر الانتقال من مفهوم «الطورانية الأتاتوركية» الضيقة – قطع الصلة مع الدول المحيطة والاندماج، عبر هوية جديدة في تحالفات غربية - إلى «العثمانية الإردوغانية» الواسعة – العودة إلى الذاكرة التركية، عبر إحياء رابطة الإسلام كخيط ناظم لسياسة تركيا الخارجية، وليس الطورانية (العرق) التي تعطي الشرعية للمشروع الوطني الدولتي - وذلك بناء على إدراك ذاتي بالقدرة على إعادة هيبة «الإمبراطورية العثمانية»، وهو معطى سعى لتحقيقه، عبر أدوات مختلفة، قيادات سياسية - إسلامية راحلة كعدنان مندريس، ونجم الدين أربكان.
وثمة تصريحات أيضاً للرئيس التركي السابق، عبد الله غول، حينما كان رئيسا للوزراء، حيث صرح بأن تركيا تخلت عن الموصل لدولة العراق المركزية، وحال ما واجهت هذه الدولة التقسيم، فهناك حقوق لتركيا من المقرر أن تنجم عن ذلك. وفي خطاب له في مدينة بورصة في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2016، قال إردوغان: «لم نقبل حدود بلادنا طوعا». وقال: «يسأل بعض الأشخاص بمنتهى الجهل ما شأن تركيا بشمال العراق أو سوريا أو البوسنة؟ لكن كل هذه المناطق الجغرافية تشكل جزءا من وجداننا». وفي هذا الإطار، نشرت وسائل الإعلام التركية سيلا من الخرائط، تُظهر مناطق السيطرة الواسعة لتركيا في الماضي. وتقدم هذه الخرائط، وفقا للمحلل السياسي نيك دانفورث، فهماً عميقاً لاهتمامات السياسة الداخلية والخارجية الحالية لتركيا.

وكانت مجلة «فورين بوليسي» بدورها قد نشرت خريطة تكشف طبيعة المخططات التركية لـ«توسيع الحدود»، لتشمل مدينة الموصل وكركوك العراقيتين، إضافة إلى مدن سورية بالقرب من حدود تركيا الجنوبية، عبر توظيف علاقات عابرة للحدود القومية. يشار إلى أن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، كان قد طالب في 24 يوليو 2016، بتعديل الاتفاقية الموقعة في مدينة لوزان السويسرية في عام 1923، التي على أثرها تمت تسوية حدود تركيا. وعلى الرغم من أن معاهدة لوزان ذاتها «لملمت أشلاء» الدولة العثمانية، وأضفت على مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه «قدسية» غير مسبوقة، فإن صغر المساحة الجغرافية لوريثة الدولة العثمانية، وانقساماتها المناطقية، والعرقية والطائفية، كان دافعا لأن يشعر الكثير من الساسة والأكاديميين بـ«الغبن التاريخي»، فيصف المؤرخ والكاتب التركي، قدير مصر أوغلو، الاتفاقية باعتبارها تمثل «الهزيمة والمهانة» بالقول: «إن الأتراك بتوقيع معاهدة لوزان تخلوا عن قيادة المسلمين، ورضوا بقطعة صغيرة من الأرض».

هذه المقولات الأكاديمية والتصريحات السياسية جعلت إردوغان رغم ما يبدو من عدم توافقه مع «إرث أتاتورك الثقافي» و«ميراثه الجغرافي»، يستمد تصوراته ومقارباته الخارجية حيال الدول المجاورة، مما قاله أتاتورك ذاته، حينما أشار عام 1923، إلى أن: «حدود أمتنا، تمتد من جنوب خليج الإسكندرونة من انطاكية، وجنوب جسر جرابلس ومحطة السكة الحديدية وجنوب حلب، ثم تسير جنوباً مع نهر الفرات حتى تضم دير الزور، ثم تتجه شرقاً لتضم الموصل، وكركوك والسليمانية».
وفي هذا السياق تعتمد تركيا في تحركاتها الخارجية على ما يمكن أن يطلق عليه «الوكلاء المحليون»، وفي الحالة العراقية ترتبط هذه الأدوار بفواعل محلية عدة، منها القوى التركمانية، وقوات البشمركة الكردية. فقد ارتكزت تركيا على أن وجودها العسكري في مخيم بعشيقة شمال الموصل، وبالقرب من الحدود التركية، على دعوة من مسعود بارزاني رئيس إقليم شمال العراق، والذي ترتبط معه بـ«علاقات مركبة»، وذلك وفق استراتيجية «المنفعة المتبادلة»، وبينما استهدفت تركيا السيطرة والتمدد الإقليمي، فإن القوات الكردية استهدفت دوام السيطرة على المناطق المتنازع عليها مع الحكومة المركزية بعد تحريرها بواسطة القوات الكردية من تنظيم داعش، من دون أن يرتب ذلك أي معارضة تركية.
وتستخدم تركيا أنماطا متعددة من التحالفات لخدمة أهداف الأمن القومي التركي، عبر توظيف بعض الميليشيات العراقية والتركمانية، في محاولة لمنع حزب العمال الكردستاني من السيطرة على جبال سنجار، وتأمينه ممراً برياً يربط بين العراق وسوريا لمرور عناصره، وذلك للحيلولة دون أن يصبح جبل سنجار بمثابة «جبل قنديل ثاني».
وفي هذا الإطار، قامت تركيا خلال الشهور الماضية بحشد قواتها العسكرية على الحدود العراقية – التركية كنعصر ردع غير قابل للتوظيف، وإنما لتأكيد الاستعداد للتحرك العسكري الواسع، حال ما تعرضت قواتها في مخيم بعشيقة إلى أي «عمل عدائي». واستضافت أنقرة أخيرا «مؤتمر قيادات القوى العراقية»، بمشاركة 30 شخصية عراقية، اعتبرت بعض النخب في العراق، أنه يستهدف تصعيد حوافز إنشاء إقليم سني في العراق، حال استقلال إقليم شمال العراق. وعلى جانب آخر، فإن أنقرة تعتمد على دعم الوجود العسكري المباشر على مسرح العمليات السوري، عبر القوى العسكرية التي تتحالف مع تركيا، كالجيش السوري الحر.
ومن جملة ذلك، فقد وظف دائما إردوغان ثنائيات «الخير» و«الشر»، «الالتزام الديني» و«الانحلال الأخلاقي»، وعَبر عن أنه يمثل «الأتراك السود» المحافظين دينيا في مواجهة «الأتراك البيض» بحسبانهم النخبة المتأثرة بالثقافة الغربية أو ما اصطلح على تسميته «الحقيقة» و«الأصالة» في مواجهة «الأمة المزعومة»، وعلى الرغم من نجاح إردوغان في توظيف هذه الثنائيات على مدى السنوات الخالية، فإن ذلك ارتبط على جانب آخر بقدرته الدائمة على الخروج من كل أزمة بحسبانه «شهيدا للتاريخ»، متهما القوى الداخلية والخارجية وقادة ومؤسسات سياسية ومالية ووسائل إعلام دولية، بالتآمر على حكمه، الذي ينطلق من «عقلية الحصار» التي غالبا ما ينجح في جعلها تعمل لصالحه.
ومع ذلك، فإن نظام إردوغان القائم على شخصية الزعيم، يحتاج إلى تدوير زوايا التحرك محليا لاستيعاب المعارضة، وخارجيا لتحسين العلاقات مع دول الجوار، بما يتطلبه ذلك من الابتعاد عن الدول المثيرة للاضطرابات، كإيران وقطر، والتوقف عن دعم الجماعات الإرهابية، كجماعة الإخوان، كما يستدعي ذلك التوقف عن التدخل في شؤون الدول المجاورة، على النحو الذي من شأنه أن يساهم في إعادة وهج «التجربة الإردوغانية»، التي تتصالح مع «تراثها العثماني»، كما تحترم وتصون ميراثها «الكمالي».

* مدير برنامج تركيا والمشرق العربي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.


font change