بين الشفقة والعار... حيوات غالية تُهدَر

نحو مليون شخص في العالم يقدمون على الانتحار سنوياً، بمعدل شخص واحد كل 40 ثانية

بين الشفقة والعار... حيوات غالية تُهدَر

*الانتحار ظاهرة تؤرق المجتمعات وعلماء النفس والاجتماع







بيروت - ميراي برق:

في قاعات البحث ينشغل علماء النفس والاجتماع بالسبب وراء اللحظة التي يقرر فيها إنسان التخلص من أهم ما يملك، حياته. وفي عيادات الأطباء يمكنك أن تعثر على حكايات تتخفى وراء هذه الأنفس الكسيرة والأرواح المرهقة.. أما في الأسرة والشارع فكثيرا ما يتوقف الكلام تماما لأن المنتحر يكون قد فارق الحياة.



في الغالب يكون الانتحار بسبب اكتئاب حاد، أو اضطرابات نفسية قد تودي بصاحبها، لكن ليس ذلك فقط؛ فالعوامل المتعدّدة المشتركة تؤلف شبكة مترابطة تؤدي بالشخص لفعل الانتحار، منها: البيئة التي ترعرع بها، والمجتمع الذي ينمو فيه إذا كان يعاني من حروب، كما أن هناك أفكارا أو عقائد تشجع على قتل النفس، مثل عقيدة الفناء الهندية أو مذهب المارمون الأميركي، الذي يمارس أتباعه طقس الانتحار الجماعي، وجميعها عوامل اجتماعية وداخلية (نفسية)، قد تؤدي إذا تضافرت في مكان ما وزمان ما قد تؤدي إلى قتل المرء نفسه عمداً.


خوف أم قوة؟




بعض الناس يرى، ولا نعرف لماذا، أن قتل النفس أو أخذ قرار الانتحار قوة؟ لدرجة أن كثيرين من معارفه يتخذونه قدوة. ويرى علماء نفسيون أن هذا التفسير خاطئ تماماً، فالإنسان الذي يقدم على الانتحار يكون قد بلغ حالة يأس شديد، وبالتالي قرّر إنهاء حياته لأسباب كثيرة يعرفها المعالجون، بمعنى أن الأشخاص الذين حاولوا الانتحار وفشلوا أو كانوا يعانون من اضطراب معيّن أقدموا على الانتحار لاحقاً. فالانتحار هروب وضعف في الشخصية، وانعدام في التماسك النفسي، وانعدام للتفاؤل والأمل...
أغلب الناس يقلقون من الموت ويخافونه ويتجنّبونه، لذلك فالمنتحر شخص مختلف عن أغلبية الناس، رغم العدد الكبير من محاولي الانتحار أو من المنتحرين، حسب منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة التي ذكرت أن ما يقارب 800 ألف إلى مليون شخص سنوياً يقدمون على الانتحار، بمعدل شخص واحد كل 40 ثانية.

أما في الدول العربية فهناك 6 أشخاص من كل 100 ألف شخص يقدمون على الانتحار، ولكن هذه الدراسة ليست دقيقة لأن المجتمعات العربية تعتبر قتل النفس عاراً، لذلك يقوم أهل المنتحر بإخفاء طريقة الموت، ولا بدّ أن نشير إلى تحريم العقيدة للانتحار، ما يجعل الانتحار أقل من باقي الدول. وفي لبنان، ما زال هذا القانون مرعياً، أي أن من يقدم على الانتحار ينال العقوبة المنصوص عليها فيه. فلبنان مثل الدول العربية في هذه المسألة، والرادع الأقوى هو العقيدة الدينية إسلامية كانت أم مسيحية، تلعب دوراً فعالاً بردع المرء عن الانتحار رغم وجوده بنسب ضئيلة.
أما في الدول الأوروبية فقد كان الانتحار جريمة يُعاقب عليها القانون، فلو فشلت عملية الانتحار كان الجاني يُسجن، أما اليوم فقد أصبح الانتحار والموت الرحيم من الاختيارات الذاتية والحرية الشخصية.
المنتحرون الذين يعانون من اضطرابات نفسية، نسبتهم 29 في المائة. وجميع التقارير الطبية تؤكد وجود اضطرابات نفسية. وهذه العبارة هي تفسير وليست تبريراً لقتل النفس. فالمنتحر يمرّ بأزمة. وهذه الأزمة كانت الدافع لقتل النفس. المعالجون النفسيون يستخدمون هذه العبارة كمحاولة للتوعية للحدّ من الانتحار. فالإرادة والوعي ركيزتان أساسيتان للحدّ من الانتحار.



الموقف الاجتماعي: شفقة أم عار




لو كان الانتحار مبرراً لما كان محرماً في الأديان السماوية ولما اعتبرته المجتمعات عبر التاريخ عاراً، خصوصاً في الدول العربية. أما في الدول الغربية فالأشخاص يشعرون بالشفقة والتضامن تجاه المنتحر، أكثر من انتقاده أو انتقاصه لفعلته، وهذا سبب جوهري في تشجيع الظاهرة؛ فالمجتمع عندما ينتقد ظاهرة يمنع انتشارها.
من العوامل الداخلية الذاتية التي يشعر بها الفرد المكتئب غالباً، الفصام، أو أولئك الذين يدمنون المخدّرات أو المهمشون أو المشردون أو المنبوذون من مجتمعاتهم، وجميهم يائسون. أما الفنانون الذين يقدمون على الانتحار فإنهم لا يشعرون بقيمة الوجود.
أكثر المقدمين على فعل الانتحار تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً، أي قبل اكتمال النضوج والشخصية، بسبب سرعة تأثرهم بالآخرين والبيئة.
وهناك محرّض لهذا الفعل بطريقة غير مباشرة كالمسلسلات. فقد لوحظ قيام أطفال يابانيين بتقليد شخصيات كرتونية كالطيران وشنق النفس وسجّلت حوادث عدة بينت أن سببها تقليد أبطال أفلام كرتونية. والأسوأ عندما يشاهد المراهق في الأفلام أن الانتحار هو أسهل الحلول. فعلى الأهل واجب الرقابة الشديدة على الدراما التي يتابعها أولادهم. فانتحار الأطفال ظاهرة جديدة في المجتمع العربي بعدما كانت الدراسة السابقة تؤكد أن الطفل لا يُقدم على الانتحار. لا إحصاءات دقيقة موجودة، ولكن الأزمة موجودة، هو منتشر بشكل قوي وملحوظ ويشكل ظاهرة اجتماعية. نتيجة الضغوط النفسية على الأطفال، وهي في معظمها للأسف في دور الأيتام والمدارس، عندما يشعر الطفل أنه منبوذ من زملائه... ومن البرامج والمسلسلات التي يتابعونها دون رقابة رشيدة من الأهل.
النسبة الأدنى في حالات الانتحار عموماً توجد في لبنان وسوريا وفي السعودية، ويجب الاعتراف بتزايد هذه النسبة في الأعوام الأخيرة في لبنان، بسبب الصعوبات المتزايدة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية كقلة فرص العمل والغلاء وقلة المشاركة السياسية والفساد واستحالة الإصلاح.



الأسباب عدة والموت واحد




تتعدد أسباب الانتحار، لكن أبرزها الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها على الناس، من قلة الدخل، أو الإصابة بحالة إفلاس، والبطالة عن العمل. وهناك أيضاً الأزمات العاطفية، أو الأزمات النفسية بسبب انفصام الشخصية، أو النبذ، بالإضافة إلى المشكلات الأسرية، حيث يرى أحد الزوجين أن الانتحار هو الحل، والمشكلات الاجتماعية بسبب التبرؤ من أحد أفراد الأسرة أو عزله، وكذلك الأزمات الصحية كإصابة أحد المرضى بمرض السرطان أو نقص المناعة فيقرر الانتحار تخفيفاً للآلام واختصاراً لسيرة الألم...
واجه السرطان بالموت
لم يكن يعرف سامر أنه مصاب بالسرطان حتى أثبتت الفحوص إصابته بالمرض العضال.
يروي صديقه ناجي أن أعراضاً عدة بدأت تنال منه، بداية من قلة الشهية، للدوخة، وفقدان القدرة على الحركة، وأوجاع بالرأس ونزيف دم من العينين والأنف والأذنين. حتى قرّر زيارة طبيب صحة عامة في مستوصف البلدة. هذا بدوره نصحه بمراجعة طبيب مختص. ما أقلقه أكثر. نصحه الطبيب المختص بإجراء عدة فحوص منها أخذ عينة للتأكد. كانت النتيجة إيجابية أي أنه مصاب بورم خبيث في الدماغ، وحيث يستحيل التدخل الجراحي بسبب موضع الورم. بدأ بالعلاج. جرعات وأدوية كثيرة. أوجاع لا حصر لها. ولا يملك المال لمتابعة آلامه. خطر له أن ينتحر. نهاية المسيرة كفن ومدفن. فلتكن الآن. تدبر طريقة موته بخفة ورشاقة ورحمة. يتابع ناجي متأثراً. أنا شخصياً أعذره. رحمه الله.


تعرّى عبر الفيس وابتزوه




مالك طفل عمره 17 عاماً. كثيراً ما تغزّل به كل من يراه. عيناه، بسمته، محياه الجميل... تروي أمه التي لن تفك الحداد عنه مدى العمر، تقول إنه أدمن على مواقع التواصل. ما إن يعود من الثانوية، ويدرس دروسه حتى يقفل غرفته على نفسه ساعات مديدة. وبصعوبة يفتح للأسرة عندما يدعونه لشرب القهوة أو تناول الطعام معاً. بعد فترة لاحظنا أنه تغير. خف أكله. زاد شحوبه من السهر. وقلت شهيته. ويبدو شارداً ولم نعرف ما السبب؟ وكلما سألناه يغير الموضوع وإذا أجاب كان جوابه مفككاً.
قالت زاد قلقنا عليه. وحاولنا أن نرصد تصرفه ونستمع إليه في غرفته لعلنا نعرف. بقيت غرفته مقفلة طيلة يوم كامل. ظنناه ذهب إلى أخته بزيارة لتغيير جو. اتصلنا بها قالت لا لم يأت. دققنا الباب مرات ومرات. لم يفتح لنا. اتصلنا بأصدقائه كلهم. قالوا إنهم لم يروه منذ أيام. قررنا كسر الباب. وكانت المفاجأة. مالك جثة هامدة منذ وقت لم نعرف متى، يبدو أنه مضى عليه يوم كامل. ولحسن الحظ أن الطقس في الجبل بارد، فلم يتأثر جثمانه خلال هذه الفترة. يا ولدي - وتجهش بالبكاء... ثم تتابع: وجدنا رسالة قرب جهاز الكومبيوتر يودعنا بها ويطلب أن نسامحه، فقد طلبت منه إحدى صديقاته أن يتعرى لها وأغوته بممارسة الجنس. وبعد أن صوّرته بالفيديو عبر برنامج خاص. زفّت له «البشرى»، بأن الفيديو كان رائعاً، لكنها لن تعطيه إياه أو تلغيه إلا لقاء 4 آلاف دولار... وإلا ستنشره... تساءل من أين يأتي بالمال؟ إذن لا بد من فضيحة... فقرر الانتحار خجلاً من عيوننا وعيون أصدقائه...


فاتن زواج قبل العرس




أما فاتن، فكانت تحلم أن تتزوّج جارها ورفيق صباها حبيب. قوي اهتمامهما المتبادل، وكانت النتيجة أن فقدت عذريتها..
بعدها لاحظت أنه اختفى... تضيف: صرت أفكر أنه خانني بعدما نال ما يرغب مني؟ وأحيانا كنت أبرر له أنه خجل مما فعلنا. وأحيانا... وأحيانا... قررت أن أواجهه... وأحمّله مسؤولية ما حصل... لماذا قبل مني؟ لماذا غرّر بي؟ فهو كرجل ينبغي أن يكون أعقل وأحكم؟ أنا متيمة به جداً... ماذا أفعل؟
حاولت لقاءه. لم تنجح. تقول: لم تبق طريقة للقاء. فكرت أن أبتدع طريقة لزيارتهم وأفهمه أني سأكون حاملاً ويجب أن يتحمل المسؤولية التي يتهرّب منها. ذهبت إلى بيتهم. زرتهم وحادثت أهله كجيران وأسررت لهم فكرة أني سأتزوج قريباً، النصيب عالباب.
لم تبدُ نتيجة مما فعلت. قررت أن أنتحر. إذ بدأت عوارض الحمل.
قررت الانتحار وفكرت بالطريقة الأسرع الأخف، بالسكين أحزّ شرايين يدي لكنني لم أكمل. بدأ النزيف وتم نقلي بإسعاف إلى المستوصف بحالة عاجلة وتم إنقاذي. بعد يومين فتح حبيب الشباك. أفهمته أنه السبب. وأني حامل. وسأخبر أهلي.. أفهمني أنه يعتذر. كان مضطراً للسفر إلى المدينة بحثاً عن عمل. ووعدني بزيارة. وبسرعة بدأ موعدي مع الفرح والزفاف. والحمد لله. الآن أعيش معه.
font change