كركوك وما بعدها

تحولات العراق الداخلية وتوازنات القوى الإقليمية

كركوك وما بعدها

[caption id="attachment_55262068" align="aligncenter" width="1654"] القوات التركية ترفع علم بلادها والعراق على الحدود مع إقليم كردستان
أ.ب[/caption]

أنقرة: محمد عبد القادر خليل*

* تحول مشهد النصر بعد الاستفتاء إلى «هزيمة نفسية»، وفقد الإقليم الكردستاني نحو 40 في المائة من الأراضي التي كان يسيطر عليها، ونحو ثلث عوائده النفطية.
* مسؤولون في الاتحاد الوطني الكردستاني: بارزاني حصد ما زرعه لعناده وإصراره، بناء على حسابات المصالح الشخصية.
* أعلنت واشنطن رفضها للخطوات الكردية أحادية الجانب، والتي تتسم بالتسرع نحو إعلان دولة.
* قدرة تركيا على التصعيد الفعلي حيال الأكراد محدودة، مالم يرتبط ذلك بمواجهة عراقية – إيرانية مع الأكراد، تحصد تركيا ثمنها مجاناً.
* رغم الأدوار التي لعبتها طهران في التحركات العسكرية حيال كركوك، فإن وسائل الإعلام الإيرانية أكدت دعمها لهذا التحرك بالتوازي مع إنكار اضطلاع ميليشيا الحرس الثوري بأي أدوار في هذا الإطار.


انبنت المقاربة الكردية على اقتراب الفرصة، حينما أصر مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، على إجراء الاستفتاء بشأن الانفصال عن الدولة العراقية في وقت تقاسمت فيه الحكومة المركزية والقوى الإقليمية المواقف بشأن رفض التوجهات الكردية الاستقلالية، وما ترتب عليها من نتائج. بيد أن السياسات الكردية التي لقيت رواجاً شعبياً ورسمياً، على حدٍ سواء، تأسست على سيطرة الإقليم على المناطق المتنازع عليها، وفي مقدمتها مدينة كركوك، هذا فضلا عن السعى لاستغلال حالة الانشغال العسكرى لبغداد، التي لا تزال بصدد استكمال مهمة تحرير بقية مناطق العراق من سيطرة تنظيم داعش، بما عكس قلقاً كردياً وتقديراً حاكماً بشأن إمكانية توجه «فوهات المدافع» صوب الإقليم، وقتما تفرغ بغداد من معركة داعش، سعياً لإعادة بسط نفوذها السياسي، وتعزيز موردها الاقتصادي، عبر استعادة المناطق المتنازع عليها.

وبينما كان يتوقع أن يفضي ذلك إلى فوضى أمنية، وصراعات عسكرية، ومواجهات سياسية، فقد استطاعت الحكومة المركزية، من خلال أدوات عسكرية، ومواجهات هامشية، وانسحابات عسكرية لقوات البشمركة الكردية، مفاجئة وغير متوقعة، من أن تفرض كلماتها سريعاً، مستندة إلى طبيعة الانقسامات الكردية التي تزايدت مظاهرها وتجذرت، والتوافقات الإقليمية والدولية التي أجمعت تقريباً على افتقاد الخطى الكردية التريث، واتسمت بالتعجل، وافتقدت الحسابات الدقيقة بشأن مقومات الدولة الكردية، على نحو أفضى إلى تحول مشهد النصر بعد الاستفتاء إلى «هزيمة نفسية»، حسب بعض القوى الكردية، عقب الانسحاب من كركوك، ليفقد الإقليم الكردستاني نحو 40 في المائة من الأراضي التي كان يسيطر عليها، ونحو ثلث عوائده النفطية.

ورغم مرارة الخسائر الجيواستراتيجية، وتحول القيادة الكردية من رمز للاستقلال والانتصار إلى موضع للتساؤل ودعوتها للاستقالة، فإن الأمر المحرك لذلك لم يكن غياب القدرة على تجسيد الإرادة الشعبية في المناطق الكردية، وإنما لما ترتب على ذلك من سياسات أفضت إلى خسارة كركوك، والتي لا ترتبط أهميتها، بما أكد عليه مراراً الرئيس الراحل، جلال طالباني، بشعاره المعروف «كركوك هي أورشليم الأكراد»، ذلك أن المدينة لم تكن تمثل «قيمة روحية» للأكراد وحسب، وإنما ثمة اهتمام ينصب بالأساس على ما تشمله من ثروات نفطية تصعِّب تحقيق الاستقلال السياسي، حال خصمها من رصيد الأكراد الاقتصادي.



التأثيرات المحتملة على العلاقات الكردية – العراقية





خطوات الأكراد المتسارعة نحو الانعزال عن الدولة العراقية بمشكلاتها وتوتراتها ارتبطت بالرغبة في إضفاء الطابعين القانوني والدستوري على ما يحوزونه من مكاسب سياسية واقتصادية، غير أن المحصلة بدت عكسية ومغايرة تماماً، بعدما شن الجيش العراقي، وميليشيا الحشد الشعبى هجمات متزامنة ومنسقة في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2017 على مواقع تمركزات البشمركة، لتتم السيطرة على أغلب المناطق المتنازع عليها خلال ساعات قليلة، بما في ذلك مدينة كركوك، وسنجار، وخانقين، ومخمور. وقد جاء ذلك عبر فرض الوجود العسكري الميداني على الأرض، بالتزامن مع «وضع اليد» على «المواقع المفصلية»، مثل مطار كركوك، والقواعد العسكرية، وحقول وآبار النفط، والمؤسسات الحيوية، والمقار السياسية، والتي كانت بحوزة القوى الكردية منذ تحرير المدينة من قبضة تنظيم داعش عام 2014.
وقد تصاعدت حدة التوتر العراقي – الكردي مع تغير معادلة توازنات القوى الميدانية، وبينما كان في الإمكان أن يدفع ذلك إلى التهدئة، فإنه أفضى إلى تصعيد سياسي ومناوشات عسكرية، بعد تمركز القوات العراقية على تخوم إقليم كردستان. وقد تأجج هذا الوضع عقب صدور مذكرات اعتقال كردية في حق ساسة عراقيين، رداً على توالي مذكرات الاعتقال العراقية بحق قيادات كردية، من ضمنهم كوسرات رسول، رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، والذي صدرت بحقه مذكرة من قبل المحكمة العليا العراقية في 19 أكتوبر 2017.

كما انسحب التشنج السياسي والتصعيد العسكري على التوتر الشعبي بعد سيطرة ميليشيا الحشد الشعبي على كركوك، حيث فر آلاف المدنيين الأكراد والبشمركة إلى أربيل والسليمانية، هذا في وقت تبادل فيه مسؤولو حزبي الاتحاد الوطني (PUK) والديمقراطي الكردستاني (KRG) الاتهامات بـ«الخيانة». فقد اتهم الحزب الديمقراطي الكردستاني أحد جناحي الاتحاد الوطني الكردستاني بالتوصل إلى «اتفاق سري» مع بغداد لـ«بيع الأكراد»، هذا في حين قال مسؤولون في الاتحاد الوطني الكردستاني أن بارزاني حصد ما زرعه لعناده وإصراره، بناء على حسابات المصالح الشخصية، في المضي قدما في إجراء الاستفتاء، رغم تحذيرات أقرب حلفاء الأكراد. كما تبادل الجانبان الاتهامات بشأن «الفساد المالي»، و«نهب النفط» في كركوك، والتسبب في ضياع ملايين الدولارات.

وقد يكون أحد أسباب ذلك إقدام قوات البشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني على إخلاء الأراضي المتنازع عليها في الشمال الغربي، مثل سنجار وبعشيقة، وفي المناطق التي يقطنها المسيحيون في شمالي شرق الموصل. ويبدو أن جزءاً من خسارة الأكراد لن ترتبط وحسب بخسارة ثروات النفط والغاز التي تتضمنها المدينة، وإنما ترتبط أيضاً بخفوت مقومات تحقيق الحلم الكردي بشأن الاستقلال. ويصف بن فان هيوفلن، رئيس تحرير تقرير النفط العراقي، أن ما حدث في كركوك يمثل تحولاً عكسياً نموذجياً، حيث تسببت المواجهة مع داعش في يونيو (حزيران) 2014، في سيطرة الأكراد على المدينة، وأفضت الأحداث الأخيرة إلى استعادة بغداد المدينة من الأكراد، بما من شأنه أن يحمل آثاراً كارثية على اقتصاد الإقليم الكردستاني، ويقوض أركان الطموح الكردي في تأسيس دولة.

[caption id="attachment_55262071" align="aligncenter" width="1476"] مئات من عناصر الجيش العراقي في منطقة الرمادي في الأنبار
أ.ف.ب[/caption]


الارتدادات على العلاقات الكردية – الكردية




شكل المتغير القيادي محدداً مركزياً فيما آلت إليه التوترات العراقية – الكردية، حيث تعززت الوضعية السياسية والصورة الذهنية للرئيس العراقي، حيدر العبادي، في مواجهة مؤيديه وخصومه، على حد سواء، على نحو انعكس في زياراته إلى المملكة العربية السعودية، ومصر، وتركيا، ليبدو وكأن الرجل يعيد صوغ شرعيته الإقليمية. وفي مقابل ذلك، تصاعدت الانتقادات التي نال الكثير منها من شخص رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود بارزاني، والذي أجمعت أغلب التقديرات على كونه «الخاسر الأكبر»، سيما بعد تزايد الانتقادات والمطالبات المتعاقبة بتصحيح «الخلل الدستوري» الناتج عن سيطرته على السلطة، رغم انتهاء ولايته، هذا بالإضافة إلى تعطل عمل البرلمان، وعدم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في الإقليم.

ارتبطت المواقف في هذا السياق بعاملين رئيسيين: تمثل أولهما في غياب الحسابات الدقيقة عن مرحلة ما بعد الاستفتاء وسبل إدارة مستقبل العلاقة بين بغداد والإقليم، سيما بعد نجاح السلطات المركزية في فرض إراداتها، ورفض إجراء أي حوار مع كردستان يقوم على أفكار تتعلق بالمساس بوحدة العراق، أو إعادة السيطرة الكردية على المناطق المتنازع عليها. هذا فيما تمثل ثانيهما فيما أظهرته معركة كركوك من هشاشة الوضع الكردي الداخلي، والذي أثبت أن إمكانية اندلاع صراع كردي – كردي قد تتوازى أو تتكافأ فرصها مع احتمالية تفجر مواجهة عسكرية كردية – عراقية.

أوحى ذلك بأن أكراد العراق عادوا إلى المربع الأول. فمن ناحية، بات هدف الاستقلال يجابه تحديات أعمق، هذا في وقت يجد فيه الأكراد أنفسهم أقرب إلى الصراع العسكري الداخلي، وذلك على غرار ما حدث عام 2003، وربما أيضاً قبل عام 1991، بل وذهبت بعض التقديرات إلى اعتبار أن نتيجة المعادلة الكردية الراهنة قد تغدو الأسوأ، بحسبانها قد تفضي إلى تكرار سيناريو الحرب الأهلية الكردية في الفترة من عام 1994 - 1997.
لم ينفصل ذلك عن تصاعد السجالات السياسية، وتزايد حدة الاتهامات بـ«الخيانة العسكرية»، ليس وحسب بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وإنما داخل الأحزاب نفسها. فقد أقدم الأخير على الإطاحة بعدد من أبرز قياداته، موجهاً للبعض منهم اتهامات تتعلق بـ«بالتواطؤ» مع الحكومة العراقية والسلطات الإيرانية، وكان من بين هؤلاء بافل طالباني - ابن الرئيس العراقي الراحل، وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، جلال طالباني، الذي عينته بغداد سابقاً حاكماً لمدينة كركوك.
وقد ارتبطت هذه الاتهامات بما اعتبر تخاذلاً من قبل البشمركة التابعة للحزب، والتي تقدر بنحو 50 ألف مقاتل، عن مواجهة تحركات الحشد الشعبي بقيادة أبو مهدي المهندس، وهادي العامري، والتي تحركت بالتنسيق مع قائد «قوة القدس» قاسم سليماني، بل وأُشير في هذا السياق إلى التنسيق العسكري مع هذه الأطراف. وقد وجهت قيادات في الحزب الديمقراطي، إلى جناح حزب الاتحاد الوطني المسيطر عليه من قبل، هيرو إبراهيم، زوجة طالباني، وابنه بافل طالباني، وأبنائه: لاهور، وأراز بـ«الخيانة»، مدعياً أنهم «باعوا كركوك إلى الجنرال الإيراني قاسم سليماني وبغداد».

في مقابل ذلك، اتهم لاهور الشيخ زنكي، قائد جهاز مكافحة الإرهاب التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، بارزاني بأن السبب الرئيسي في مشكلات الإقليم ترتبط بالتوقيت الخاطئ للاستفتاء، والذي استهدف تعزيز شرعية بارزاني كرئيس للإقليم، مضيفا أن بارزاني كان يخطط لفرض سيطرته على كركوك وإبعاد بشمركة الاتحاد الوطني عنها قهراً، وذلك على غرار ما اقترفه صدام حسين في 31 يونيو (حزيران) 1996، حينما اقتحم المدينة ونزعها من قبضة الاتحاد الوطني الكردستاني.

وأشار لاهور إلى أن ما جرى في كركوك كان بالتوافق. قائلا: «بينما كنا مشغولين في حماية الشعب الكردي، كان مسعود بارزاني منشغلاً بسرقة النفط وتعزيز نفوذه»، متابعا: «لن ندفع بأبنائنا للموت في سبيل كرسى بارزاني». هذا في وقت ألقت فيه الكثير من الدوائر باللائمة، ليس وحسب على بعض القطاعات داخل حزب الاتحاد الوطني، وإنما أيضاً على رئيس حكومة إقليم كردستان. ففي مقال بعنوان «خسارة حكومة إقليم كردستان في كركوك»، ادعى الكاتب الآشوري، ماكس جوزيف، أن الاستفتاء كان خطأ بارزاني القاتل، وأنه السبب في التداعيات الكارثية التي يعاني منها الأكراد في الوقت الراهن. وقال جوزيف: «كانت حكومة إقليم كردستان مضللة وخسرت، وكانت هذه الدعوة إلى حد كبير دعوة عائلة بارزاني. إن الطمع شيء فظيع، وسيظل يمثل خطيئة بارزاني الكبرى».

ويبدو أن أكبر القوى الكردية الخاسرة في مرحلة ما بعد أحداث كركوك، ليس وحسب، حزب رئيس إقليم كردستان العراق، فتماسك حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بات أيضاً محل شكوك متصاعدة، كما أنه قد يكون إحدى أكبر القوى السياسية الخاسرة في مرحلة ما بعد كركوك. فمن ناحية، يرتبط الحزب، أو قطاع كبير من قادته وقاعدته طائفياً وعشائرياً بإيران، وتنسجم سياساته، إلى حدٍ بعيد، مع مواقف إيران الإقليمية، كما يرتبط ذلك، على جانب آخر، بنمط التقسيم القيادي والصراع الحزبي الذي قد يواجه الحزب خلال المرحلة المقبلة، والذي من شأنه أن يعمق مشكلاته ويضاعف تحدياته، على نحو قد يعيد تكرار تجربة حركة كوران، التي أنتجت حزب «التغيير»، الذي أسسه السياسي الكردي، نوشيروان مصطفى، في عام 2009، بعد استقالته من حزب الطالباني.

وقد أشارت تقديرات أكاديمية في هذا الإطار إلى أن مرحلة ما بعد 25 سبتمبر (أيلول) وما تلاها في 15 أكتوبر من انسحاب كردي من مدينة كركوك، والعودة إلى خطوط ما قبل يونيو 2014، تعيد إلى الذاكرة الأحداث التاريخية التي شهدها الأكراد بعد اتفاق الجزائر بين العراق وإيران عام 1975، وما ترتب عليها من انهيار القدرات العسكرية للأكراد، عقب تراجع الدعم الإيراني للميليشيا الكردية بمقتضى الاتفاق.
فقد ترتب على ذلك حالة من الفوضى ارتبطت بتأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، والذي سرعان ما انفصل جناحه اليساري، ممثلا في حزب الاتحاد الوطني، لتشهد الحالة الكردية تصاعد أنماط صراع القوى، وتفشي مظاهر التفكك والاحتراب الداخلي، الذي لم يتوقف مرحلياً إلا بعد اندلاع الحرب الإيرانية - العراقية، وهو وضع يعتبر البعض أنه مشابه للحالة التي تعايشها القوى الكردية حاليا، والتي قد تؤدي إلى حالة من الفوضى الأمنية والصراع العسكري.

[caption id="attachment_55262072" align="aligncenter" width="1476"] الأكراد أثناء احتفالاتهم بالمضي في الاستفتاء رويترز
[/caption]

التداعيات المحتملة على التوازنات الإقليمية





بدت المقاربات الدولية حيال الصراع العراقي – الكردي متشابهة، حيث الرغبة في تسكين التوتر وتجميده، والحيلولة دون تفاقمه على النحو الذي يضعف أياً من الطرفين. فمعادلة «توازن الضعف» مركزية في السياسات الدولية في الإقليم، وقد أشارت بعض التقارير إلى تسريبات بشأن أطروحات غربية استهدفت استنساخ نموذج تقاسم النفوذ والسيطرة على مدينة كركوك، بما يسمح بتحقيق مصالح الجانبين العراقي والكردي معاً.

وقد بدا ملحوظاً أن المقاربات السياسية في هذا السياق تبتغي إعادة الأطروحات التي قدمت، قبيل الحرب على العراق عام 2003، بشأن تقاسم السلطة والنفوذ في مدينة كركوك بين بغداد وأربيل، بحيث تسيطر الحكومة العراقية على الجزء الغربي، والأكراد على الجزء الشرقي، غير أن تمركز آبار النفط في المنطقة الغربية من كركوك ظل حائلاً وعقبة أمام إمكانيات التوافق بشأن مستقبل مدينة تسبح على ثروات نفطية هائلة. بيد أن الرفض الكردي هذه المرة تعلق بالرغبة في السيطرة على كامل المدينة، بل والتلويح بالسعي إلى أن تغدو عاصمة الدولة الكردية، حال إعلانها، بما استدعى تصاعد حدة التوتر والمواقف الدولية والإقليمية.

فقد أعلنت واشنطن رفضها للخطوات الكردية أحادية الجانب، والتي تتسم بالتسرع نحو إعلان دولة، وقد ارتبط ذلك بطبيعة التعنت الكردي حيال العرض الأميركي، الذي تم تسريبه لوسائل الإعلام لاحقاً، وتضمن تأجيل الاستفتاء، وخوض مفاوضات مع السلطات العراقية، على أن تلتزم الولايات المتحدة الأميركية بدعم الخطط الكردية بشأن إجراء الاستفتاء حال ما فشلت المفاوضات الكردية - العراقية، والتي قد تستغرق نحو عام.

وقد بدا، على جانب آخر، أن الحسابات الكردية بشأن السياسات الإقليمية حيال الأزمة العراقية تفتقد الموضوعية على الصعد السياسية، والاقتصادية، والعسكرية. وعلى الرغم من التوتر الكردي - الأميركى بسبب عدم انصياع بارزاني، فإن هذا التوتر أصبح أكثر حدة وعلانية، في ظل ما ترتب على «مغامرات» بارزاني من إعادة استدعاء النفوذ الإيراني في العراق، وتعزيز نفوذ الحشد الشعبي في المناطق المحررة من قبضة تنظيم داعش.
هذا في وقت خسر فيه الإقليم شمال العراق، أهم ظهير اقتصادي وسياسي، وذلك بعدما صعَّدت القيادة التركية حيال مسعود بارزاني، بالتزامن مع توجه أنقرة صوب تعزيز العلاقات مع بغداد. وقد بدا أن ذلك يرتبط بالكثير من المعادلات الجديدة، من ضمنها قيام الحكومة المركزية بإجراء مناورات عسكرية مع الجيش التركي، في إشارة صريحة لإمكانية العمل العسكري ضد الإقليم، كما أعلن الجانبان عن التوجه لفتح معبر حدودي يحرم سلطات إقليم كردستان العراق من الرسوم الجمركية، التي تحصلها من معبر هابور مع تركيا، كما أعلن الطرفان عن تفعيل خط أنابيب النفط من كركوك إلى الموصل لتجاوز إقليم كردستان، والتي كانت تمرر من مناطق سيطرته إلى تركيا نحو 600 ألف برميل نفط يوميا، تتضمن ما يقدر بنحو 290 ألف برميل من مدينة كركوك.



كركوك... مصالح تركيا بين العراق وكردستان




يبدو أن الموقف التركي من سلطات إقليم كردستان العراق لم يرتبط وحسب بسياسات مسعود بارزاني الانفصالية، وإنما تداخل مع ذلك نمط التنسيق المتصاعد بين الحزب الديمقراطي وحزب الاتحاد الوطني الكردي في سوريا (YPG)، هذا بالإضافة إلى طبيعة التوترات الكردية – التركية المكتومة سابقا جراء عدم اعتراض الأكراد على مشاركة ميليشيا الحشد الشعبي في عمليات تحرير الموصل ومدينة تلعفر، هذا على الرغم من توقف وسائل إعلام تركيا تماماً خلال الفترة الأخيرة عن التصعيد حيال ميليشيا الحشد، والتي اعتبرتها تركيا سابقا ميليشيا تتسم بالطائفية وتمارس الإرهاب، وأنها «ذراع إيران الطولى» في العراق.

ويرتبط مسار القلق التركي بطبيعة المحركات التي دفعت حيدر العبادي إلى عدم التصعيد العسكري مع قوات البشمركة. ذلك أن تركيا سعت إلى تأجيج التوتر العراقي – الكردي، عبر أدوات مختلفة استهدفت إحباط خطط مسعود بارزاني، الذي طرح في 26 أكتوبر 2017، فكرة تجميد نتائج الاستفتاء لتدشين حوار مع بغداد. فعلى المسار العسكري – الأمني، تموضعت المدفعية التركية بالقرب من إقليم كردستان، عبر مناورات في منطقة سلوبي التي تبعد عن حدود الإقليم بنحو كيلومترين، وذلك لإجراء مناورات عسكرية في الفترة من 18 إلى 26 سبتمبر 2017، في رسالة ضمنية قُصد منها الإيحاء بأن تركيا تهدد إقليم العراق الشمالي. تلى ذلك، رفع أنقرة درجة الاستعداد العسكري على الحدود مع العراق.

وفي الاتجاه ذاته، انعقد مجلس الأمن القومي التركي، الذي أكد أن الاستفتاء الكردي غير دستوري. وأوضح البيان الختامي للمجلس «احتفاظ أنقرة بحقوقها في الدفاع عن مصالحها التاريخية، الواردة في اتفاقيات ثنائية ودولية»، لكن البيان لم يوضح طبيعة هذه الحقوق. بيد أن المتحدث باسم الحكومة، بكير بوزداغ، أشار في هذا السياق إلى احتفاظ أنقرة بحقوقها التاريخية المنبثقة من الاتفاقيات الثنائية والدولية.

ولفت بوزداغ، إلى أن هذه الاتفاقيات تنصرف إلى «لوزان 1923»، و«أنقرة 1926»، و«الصداقة وحسن الجوار بين العراق وتركيا في عام 1946»، و«التعاون وأمن الحدود بين العراق وتركيا في 1983»، وهو الأمر ذاته الذي كان قد أكده أكثر من مسؤول تركي، وذلك في رسائل تركية متواصلة لإقليم كردستان والفاعلين الإقليميين والدوليين، ظاهرها أن تركيا ستتبنى كل التدابير لإحباط خطط الأكراد. غير أن مضمونها، إذا ما أُخذ في سياق التصريحات التي صدرت عن قيادات تركية طوال عقود سابقة بشأن حقوق تركيا في أراضي العراق، يكشف أن ثمة استعداداً تركياً لتحويل عبء التصعيد مع كردستان العراق لفرصة، حال ما أفضى إلى انقسام الدولة العراقية.

وتعتبر تركيا أن التصعيد الإيراني - العراقي ضد أكراد العراق على المستوى العسكري قد يكون محتملاً في مرحلة من المراحل، بما يدفع أنقرة إلى الاستعداد لاستغلال تطورات الموقف لإعادة ما تعتبره، حسب مسؤوليها، حقوقاً تاريخية لتركيا في الأراضي العراقية. ويبدو أن استخدام تركيا «دبلوماسية المدفعية» ذاتية الحركة، والتي تبدو على غرار «دبلوماسية البوارج» في القرنين الماضيين، ليست لإثارة تهديدات، وإنما لدفع الأطراف الأخرى نحو تصعيد لن تتورط فيه تركيا إلا بقدر ما يحقق مصالحها.

ذلك أن قدرة تركيا على التصعيد الفعلي حيال الأكراد محدودة، مالم يرتبط ذلك بمواجهة عراقية – إيرانية مع الأكراد، تحصد تركيا ثمنها مجاناً. ولحكومة أنقرة نحو 2000 جندي يتمركزون داخل كردستان العراق، وهناك عناصر بالقرب من الإقليم في مخيم بعشيقة، كما لم تقدم أنقرة على قطع الصادرات أو وقف التبادل التجاري الذي بلغ عام 2014 ما يناهز 12 مليار دولار سنويا. وكذلك لم تعلق أنقرة تحويل الأموال مقابل النفط الذي لا يزال يمرر يوميا عبر الأراضي التركية، ولم توقف عمل البنوك التركية التي تشكل عصب المعاملات المالية في الإقليم.

جملة ذلك تعني أن التصعيد التركي (الشكلي) الغرض منه دفع كل من طهران والعراق للتصعيد، بما يفضي إلى استنزاف القدرات، ويدفع إلى تقديم كل الأطراف تنازلات للجانب التركي، في محاولة لاستمالته. وتشير تقديرات تركية إلى أن حال خروج الوضع عن السيطرة، قد تسعى تركيا إلى حماية الأقلية التركمانية، عبر التدخل العسكري لضمان السيطرة على مدينتي الموصل وكروك، فمن أجلهما نظم حزب الحركة القومية مسيرات وعقد مؤتمرات تحت عنوان «التضامن مع مدينتي كركوك والموصل»، والتي تعتبر أنقرة أن غالبية مواطنيهم الأصليين من التركمان.

وترى تركيا أنه بمقتضى اتفاقية لوزان ومعاهدة أنقرة الموقعة في يونيو 1926 بين بريطانيا وتركيا، والتي تم بموجبها ترسيم الحدود مع العراق، وعلى أثرها تم التنازل عن مناطق شمال العراق المتمثلة في ولاية «الموصل» و«كركوك»، فإن المدينتين تؤولان إلى تركيا إذا ما انفصلت كردستان عن العراق.

ووفق التصريحات التركية، والتي جاء بعضها على لسان الرئيس السابق، عبد الله غول، فإن استمرار المعاهدة مرتبط ببقاء العراق موحداً، فيما يمثل تقسيم الدولة العراقية دافعاً قانونياً لأن تعيد تركيا بسط سيطرتها على كركوك والموصل من أجل الحفاظ على الحقوق التاريخية للدولة التركية والمواطنين التركمان. وبصرف النظر عن تجسيد السلوك التركي للتلويح أو التهديد، فقد حصلت تركيا في النهاية على ما تريده في كركوك، عبر إبعاد الأكراد عن المدينة.

قد يعكس ذلك أن تركيا فعلياً باتت لا تريد التعامل مع بارزاني، غير أن ثمة نتائج غير محسوبة، وقد تشكل هي بذاتها التحدي الحقيقي بالنسبة للجانب التركي. فمسعود بارزاني اضطلع بأدوار مهمة من عملية تحجيم حضور حزب العمال الكردستاني في الإقليم، ومن شأن إضعاف نفوذه أن يزيد من حضور «حزب العمال» في الإقليم، سواء على نحو متعمد أو عدمه. كما قد يتأسس ذلك على أن المواقف التركية حيال الإقليم قد ضاعفت من نفوذ حزب العمال في أوساط الشباب الكردي، خصوصا في المناطق التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني الكردستاني. لذلك، فعلى المدى الطويل، قد لا يبدو أن «الانقلاب الكردستاني» والانهيار الواضح هو النصر الذي تحلم به أنقرة.

[caption id="attachment_55262073" align="aligncenter" width="1476"] عناصر من الجيش التركي على الحدود مع كردستان في حالة تأهب
أ.ب[/caption]

كركوك... مصالح إيران وتحدياتها





بدورها، نظرت طهران إلى معركة كركوك باعتبارها حاسمة لمسار النفوذ الإيراني، ليس وحسب في بغداد، وإنما أيضاً فى عموم المنطقة. فتأسيس دولة كردية تسيطر على مناطق محورية لمصادر الطاقة في العراق قد يشكل عازلاً جغرافياً أمام قدرة إيران على التحرك ميدانياً، كما أنه قد يجلب، حسب الصحف الإيرانية، قواعد التجسس الأميركية والإسرائيلية إلى حدود طهران، ومن شأنه أيضاً أن ينقل المعركة إلى الداخل الإيراني، في ظل تصاعد احتمالات محاولة أكراد الداخل استنساخ تجارب أكراد العراق.

ويبدو أن هذا لا يرتبط وحسب بالموقف الإيراني الداعم للحكومة العراقية على المستوى السياسي، وإنما على الصعيد العسكري أيضاً، حيث أشارت مصادر إلى قيام قاسم سليماني بتوجيه تهديدات مباشرة لمسعود بارزاني بشأن استهداف القوات الكردية، عبر عدد من المحاور التي قد تفضي، ليس وحسب إلى إثارة تهديدات للتمركزات الكردية في كركوك، وإنما أيضاً داخل أربيل، عاصمة الإقليم. وفي أكتوبر 2016، قامت القوات العراقية وميليشيا الحشد الشعبي بالتنسيق مع مجموعات قتالية إيرانية بدخول المدينة، رغم المقاومة الهامشية التي حاولت بعض قطاعات البشمركة أن تبديها في مواجهة هذه التحركات العسكرية.

وعلى الرغم من الأدوار التي لعبتها طهران في التحركات العسكرية حيال مدينة كركوك، فإن وسائل الإعلام الإيرانية قد أكدت دعمها لهذا التحرك بالتوازي مع إنكار اضطلاع ميليشيا الحرس الثوري بأي أدوار في هذا الإطار، وقال علي أكبر ولايتي، مستشار السياسة الخارجية للمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، آية الله علي خامنئي، في 17 أكتوبر 2017، إن إيران «لا تضطلع بأي أدوار في تحرير مدينة كركوك»، مؤكداً دعم طهران للتحركات العسكرية ضد قوات البشمركة في المدينة.

علاوة على ذلك، كتب السفير الإيراني السابق في العراق، حسن كاظمي قومي، في صحيفة «إيران» التي تديرها الحكومة أن «الحقيقة تتمثل في أن بغداد مصممة على الحفاظ على سلامتها الإقليمية، وطالما أن كردستان العراق ليست على استعداد لتعليق العمل بنتائج الاستفتاء، فإن محادثات أربيل وبغداد لن تجدي». وفي إشارة إلى أهمية مدينة كركوك، كتبت صحيفة «شارج» أن «عدم استعداد الجانبين للنزاع العسكري على نطاق واسع أظهر أن كلاً منهما يفضل الحل السلمي.. وإذا كانت إيران أو (قائد قوة القدس)، الجنرال قاسم سليماني، يقوم بدور الوسيط في هذه العملية، فإنه يعتبر خطوة إيجابية، سواء بالنسبة لمستقبل المنطقة أو لمسؤولية إيران تجاه العراق والأكراد».

ومن الناحية الجيوسياسية، فإن إيران تعد - عقب معركة كركوك - صاحبة النفوذ الأكبر في العراق. ففضلا عن كونها تمتلك حضوراً وتأثيراً كبيرين على الحكومة المركزية في بغداد، فقد باتت تسيطر عملياً على الكثير من المناطق، عبر ميليشيا الحشد الشعبي، كما أفضت سياساتها إلى تعزيز الانقسام الكردي – الكردي. وقد ابتعدت تركيا عن مسعود بارزاني، الغريم التقليدي لحليفها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، كما غدت أنقرة أقرب ما تكون، من حيث المواقف السياسية والسياسات العملية، إلى مواقف حكومة العراق المركزية، وتحولت أنقرة بالتبعية إلى «دولة تابعة» للسياسات الإيرانية في العراق.

وعلى غرار أنقرة، فإن طهران قد تحقق مكاسب مؤقتة، ولكنها قد تجني الكثير من الخسائر على المدى الطويل، وذلك بسبب تصاعد الغضب الكردي جراء السياسات الإيرانية التي عززت الشعور بـ«المهانة» لدى بعض القطاعات بسبب تدخلات قاسم سليماني وبعض القيادات الكردية العراقية التي نسقت معه، بما أسهم في تصاعد حدة المشاعر الكردية المعادية لطهران، والتي كانت تتسم العلاقات الكردية معها بقدر نسبي من التوازن، بسبب استضافتها لقطاعات واسعة من الأكراد، حينما تعرضوا لهجمات بالمواد الكيماوية في عام 1988، على يد قوات صدام حسين، وكذلك عام 1991، حينما هاجم صدام المناطق الكردية، عقب حرب الخليج. لذلك، فإن طهران وأنقرة قد تواجهان في نهاية المطاف تراجع القدرة على التأثير في سياسات إقليم كردستان، بما قد يخلق تحديات وتهديدات مستقبلية للجانبين في آن واحد.

* رئيس تحرير دورية شؤون تركية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

font change