طه حسين كان يرى

استعادة عصر عميد الأدب العربي بمناسبة ذكرى مولده

طه حسين كان يرى



1 -





‏‎اسم طه حسين صغير كبير، لرجل من عصر هو عصرنا (15 نوفمبر 1889 / 28 أكتوبر 1973) ورغم مرور الأعوام، لم نغادره إلى الآن إلى عصور أخرى قوامها التبشير بالخلاص والتنوير وقهر الظلام المعرفي.
‏‎وطه حسين ولد بعينين مبصرتين، وحين مرض بعينيه في سن التاسعة، «جيء له بحلاق فذهب بعينيه»، كما ذكر في سيرته «كتاب الأيام».
ولم يكن الحلاق غير متطبّب لا يعرف غير خرافات من الطب الشعبي.
‏‎ولم ينتقم طه حسين لفقدان البصر إلا بالبحث عما يقوي حدة البصيرة، وصار دكتوراً لا في الطب كما يشاع ويعرف عن كلمة دكتور، ولكن في باب الأدب.



2 -





‏‎سيرة طه حسين «الأيام» أملاها في ثلاثة أجزاء، صدرت في العربية، وأثارت قراءها العرب والأجانب (قدم ترجمتها إلى الفرنسية الكاتب الفرنسي الكبير أندريه جيد) وتداولتها المناهج الدراسية العربية مركزة على روح المبادرة الإنسانية وعلى الطموح العلمي الذي قاد هذا الفتى الأعمى إلى أن يقهر الظلام، مؤكدًا المعنى العميق للآية الكريمة «فإنها لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصدور».



3 -





‏‎في الجزء الثالث من «الأيام» يحكي الشاب طه حسين عن تفاصيل شدّت انتباهه في رحلته في فرنسا كطالب علم واجهته صعوبات على أكثر من صعيد.
وكان الشاب المصري العربي يقاسي من الوحدة والعزلة، لولا ذلك الصوت الفرنسي للآنسة «سوزان» التي سوف ترافقه مدى الحياة، وتكتب بعد رحيله كتابها الشهير «avec toi» (معك) وتنشره بفرنسا، ثم يتم تعريبه بعد وقت طويل، ويصدر في القاهرة.



4 -





‏‎لم تكن الطرقات وردية أمام طه حسين، ولا يتسع المجال للحديث المفصل عن خصومه ومعاركه معهم، ويمكن تلخيص معاركه بأنها فكرية وسياسية واجتماعية، وتعنى بموضوع واحد هو: العلم نور.
ولعل أشهر المعارك التي خاضها طه حسين هي قصة شكه في نسبة الشعر الجاهلي، والانتحال الذي ناله، وكان هذا عندما أصدر كتابه الحجاجي الشهير «في الشعر الجاهلي» 1926، في تلك السنوات التي كان فيها صدور مثل هذا الكتاب حدثاً علمياً وأكاديمياً.



5 -





‏‎كانت فواتير معارك طه حسين متفاوتة، ولكن أطرف ما في معارك تلك الأيام من أعراس الفكر وحروب من الصراعات الفكرية في عشرينات القرن الماضي العشرين منا، أنها كانت بعيدة عما صار يحصل للمفكر إذا فكر.
فالمفكر الجريء في بداية القرن العشرين يتعرض لعقوبات مثل الطرد من المنابر والجامعات أو في أقصى الحالات يتأذّى من النبذ الاجتماعي كما فعلوا مع كثيرين، وهنا نذكر مثال الطاهر الحداد التونسي عندما أصدر في الثلاثينات كتاباً مثيراً عنوانه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع».



6 -





‏‎في أيام طه حسين لم يكن المفكر يغتال أو يجعلونه يختار المنافي أو يسعون لتطليقه من زوجته، مثل نصر حامد أبوزيد، أو يجربون اغتياله كما حصل مع نجيب محفوظ.



7 -





‏‎كانت معركة طه حسين حربَ أفكار تتقارع وتتصارع على مستوى المقال الصحافي أو على مستوى الأطروحات التي لا يشرحها غير كتاب، فكان الرد على كتابه في الشعر الجاهلي من قبل آخرين، مثل مصطفى صادق الرافعي والخضر حسين وغيرهما، وهذا ما حصل حتى لكتاب الطاهر الحداد المنادي بالعدالة نحو المرأة فقد ردوا عليه بكتاب.



8 -





‏‎استعادة عصر طه حسين هي مراجعة لما كانت عليه المجتمعات العربية من روح اتسمت بالتسامح، ولطف في معاشرة الأفكار والتعامل الحجاجي مع الفكرة التي تدحض الفكرة، وليست الفكرة التي تقتل المفكر، وتغتال المفكر والمجادل.



9 -





لو ولد طه حسين في أيامنا هذه لما جاءه أهله بذلك الحلاق ليداووه، بل لذهبوا به نحو طبيب مختص في أمراض العيون.
‏‎ولو عاش طه حسين في أيامنا هذه، وكتب ما كتب، وفكر ما فكر لكان على رأس قائمة المفكرين الذين ارتكبوا جريرة وجريمة التفكير.



10 -





‏‎غير أن الذي لا يمكن نسيانه هو أن طه حسين كان رجلاً أعمى برتبة جنرال، قاد أجيالاً عربية كثيرة إلى جبهة النور والمعرفة دون أن يكون بحاجة إلى نظارتين، فقد خاطبه نزار قباني في قصيد «حوار ثوري مع طه حسين»، قائلاً:
‏‎آهِ يا سيّدي الذي جعلَ اللّيلَ
‏‎نهاراً.. والأرضَ كالمهرجانِ.
‏‎إرمِ نظّارتيْكَ كي أتملّى
‏‎كيف تبكي شواطئُ المرجانِ
‏‎إرمِ نظّارتيْكَ... ما أنت أعمى
‏‎إنّما نحنُ جوقةُ العميانِ
font change