السعودية... تحرك استباقي

المملكة و«العمق الاستراتيجي» الأفريقي

السعودية... تحرك استباقي

[caption id="attachment_55263153" align="aligncenter" width="1200"]خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (غيتي) خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (غيتي)[/caption]


أنقرة - محمد عبد القادر خليل*


* دعوة خادم الحرمين الشريفين، لقمة سعودية - أفريقية في المملكة خلال 2018 جاءت في إطار عام لتوجهات جديدة تقضي بإزالة الحواجز وتعزيز إجراءات بناء الثقة، وتدشين التحالفات العابرة للأقاليم
* تصاعدت مظاهر التنسيق السعودي – المصري. وقد قامت الدولة المصرية من جانبها بالتركيز على الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي، عبر تشكيل الأسطول الجنوبي.
* ثمة تنسيق ثلاثي (سعودي - مصري - إماراتي) لاستكمال التحولات الجيواستراتجية التي أوجدتها عاصفة الحزم بقيادة المملكة العربية السعودية.
* الاهتمام السعودي بقارة أفريقيا يظهر نمط إدراك قيمة هذه العلاقة، وهذا العمق الاستراتيجي، وجدوى تعزيزه اقتصادياً وتجارياً وسياسياً.
* شهدت الكثير من البلدان الأفريقية حركة مكثفة، بالتزامن من قبل كل من الدوحة وأنقرة لتعزيز استراتيجيات المحاور الإقليمية.




ثمة توجه سعودي لتكثيف الحركة باتجاه المناطق الحيوية للأمن القومي الخليجي، وفق مقاربات تتسق علميا مع نظرية سياسية تنسب إلى الأكاديمي التركي، ورئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو، كان قد أطلق عليها نظرية «العمق الاستراتيجي»، وهي تقوم على فكرة التداخل والتفاعل المكثف على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي مع أقاليم جغرافية محيطة، بعضها يبدو بعيدًا، غير أن تأثيرها في غالب الأحيان متداخل على نحو مركب.
وفيما واجهت السياسة الخارجية التركية صعوبات وتحديات في تطبيق عملي يناظر رواج «النظرية الأكاديمية»، فإن التوجهات السعودية حيال توثيق العلاقات مع «العمق الأفريقي»، جسدت النظرية، وعكست الارتدادات الإيجابية لنمط السياسات التي تبنتها القيادة السعودية حيال القارة الأفريقية، سيما بعد دعوى الملك سلمان بن عبد العزيز، لقمة سعودية - أفريقية في المملكة في عام 2018.
الدعوة السعودية بدت جادة في إطار عام لتوجهات جديدة تقضي بإزالة الحواجز، وتعزيز إجراءات بناء الثقة، وتدشين التحالفات العابرة للأقاليم. عبَّر عن ذلك مشاركة وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، في افتتاح القمة الأفريقية الأخيرة بأديس أبابا، ليوجه الدعوة للقادة والزعماء الأفارقة، توازى معها إجراء الكثير من اللقاءات الثنائية على هامش القمة. وقد ارتبط التوجه السعودي حيال القارة الأفريقية بعدد من المحركات.
ارتبط أولها باعتماد الرياض سياسة خارجية مؤسسية تعتمد الانفتاح على الكثير من النظم الإقليمية، سيما تلك التي تحظى بأهمية جيواستراتيجية، دفعت عددا من القوى والفواعل إلى تكثيف الخطى باتجاهها.
فيما يرتبط ثانيها بأن المملكة حينما تتحرك حيال الدول الأفريقية، فإنها تدرك أن هذه العلاقات تراوحت بين الاهتمام السياسي والانصراف النسبي، غير أن المستجدات الدولية والإقليمية، والاستقطاب العربي – الإيراني، والتوتر الخليجي – القطري، يستدعي التحرك بفاعلية لإعطاء دفعة كبرى للعلاقات مع «العمق الأفريقي».
ثالثها يتأسس على ما شهدته العلاقات السعودية مع الكثير من الدول الأفريقية بالفعل، خلال السنوات الأخيرة، من تطورات إيجابية على صعيد التفاعلات المشتركة على المستويات الاقتصادية والتجارية والسياسية والأمنية، بما أتاح للمملكة فرص الدخول في شراكات كبرى ومشروعات استثمارات ضخمة، لم تنفصل عما لاقته التحركات السعودية من استعداد لدى القيادة والنخب الأفريقية، سيما في ظل المكانة الدينية والأدوار القيادية للسعودية.
وعلى الرغم من أن الاهتمام السعودي بالقارة السمراء لم ينقطع على مدى عقود خلت، فإن التطورات الإيجابية التي شهدتها العلاقات المشتركة منذ وصول الملك سلمان إلى الحكم، قد تجلت مظاهرها في نمط المواقف التي تبنتها الكثير من بلدان القارة حيال الأزمة الخليجية – القطرية، إذ استدعت سبع دول أفريقية سفراءها من الدوحة، أو قطعت علاقاتها معها، فيما فضلت جمهورية جيبوتي تقليص مستوى تمثيلها الدبلوماسي.
هذا الموقف انسجم مع طبيعة الاتجاهات التي تبناها الكثير من بلدان أفريقيا حيال السياسات التي تنتهجها المملكة، في إطار مواجهة ظاهرة الإرهاب ومروجيه وداعميه من الدول، سيما بعد انطلاق «عاصفة الحزم» في اليمن، وتشكُّل التحالف العربي - الإسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية، بما أوضح أثر استراتيجية بناء علاقات سياسية، وروابط أمنية، وأطر مؤسسية مع دول القارة الأفريقية.

[caption id="attachment_55263161" align="aligncenter" width="1107"]ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس جمهورية جنوب أفريقيا جاكوب زوما يفتتحان مجمعاً صناعياً لإنتاج القذائف العسكرية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس جمهورية جنوب أفريقيا جاكوب زوما يفتتحان مجمعاً صناعياً لإنتاج القذائف العسكرية[/caption]

السعودية ودوافع التوجه نحو أفريقيا




ارتبطت المحركات السعودية بشأن إعادة تأطير العلاقات مع الدول الأفريقية بالكثير من العناصر التي تتعلق بالرؤية الذاتية لنمط أدوار المملكة القيادية، كما تعلقت، على جانب آخر، بطبيعة الفراغ الذي حاولت بعض دول الجوار للمنطقة العربية استغلاله لخدمة سياستها، التي لا تحقق المصالح العربية، إن لم تكن تهددها.
فثمة قوى وفواعل إقليمية سعت، خلال السنوات الخالية، للتأثير على المواقف والاتجاهات السائدة في القارة السمراء، عبر تدعيم العلاقات السياسية والتجارية مع الكثير من البلدان الأفريقية. وفي هذا الإطار، اتخذت الدولة التركية إجراءات متواصلة من أجل تعزيز حضورها متعدد الأبعاد على مسرح العمليات الأفريقي، على نحو أفضى إلى آلية انعقاد القمة التركية – الأفريقية دوريا، ومن المقرر أن تشهد أنقرة انعقاد القمة الثالثة العام المقبل.
تبنت تركيا اقترابا استهدفت به تعظيم روابطها التجارية مع دول القارة الأفريقية، واستطاعت فعليا مضاعفة حجم التجارة بين تركيا وأفريقيا من أقل من ثلاثة مليارات دولار قبل عشر سنوات، ليتجاوز 25 مليار دولار. كما غدت الخطوط الجوية التركية تصل إلى نحو 51 وجهة أفريقية، وتمتلك تركيا نحو 44 بعثة دبلوماسية في القارة الأفريقية، ويدرس أكثر من خمسة آلاف طالب أفريقي في تركيا على نفقة الحكومة التركية.
يتداخل ذلك مع تزايد قيمة المساعدات التركية، عبر برامج إغاثية مختلفة في أفريقيا، وتحوز الوكالة التركية للتعاون والتنسيق TAKA ستة عشر فرعا في أفريقيا، تنفذ الكثير من المشاريع، مثل حفر آبار مياه، وتأسيس عيادات، وتدريب الفلاحين، وإعادة بناء المباني التاريخية في عدد من دول القارة الأفريقية.
تقوم أيضا بعض من مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الإغاثية بتقديم مساعدات إلى ذوي الحاجات. وقد أفضى ذلك إلى إعلان الاتحاد الأفريقي في عام 2008. تركيا شريكة استراتيجية له. وعقدت أول قمة تركية أفريقية في إسطنبول في العام نفسه، ثم عقدت قمة تركية - أفريقية ثانية في مالابو وغينيا الاستوائية عام 2014.
أوجد ذلك منافسة تركية مع الدولة الإيرانية التي تحاول بدورها تعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية، عبر برامج سياسية، واقتصادية، ودينية، تقوم على نشر المذهب الشيعي في الكثير من البلدان الإسلامية، سيما تلك التي تتضمن أقليات شيعية. ولعل هذا ما يفسّر قيام طهران بترقية مستوى تمثيلها الدبلوماسي في القارة الأفريقية، بصورة ملحوظة في أكثر من 30 بلداً أفريقياً خلال السنوات العشر الأخيرة.
أدوات طهران وأساليبها تأتي عبر برامج غير حكومية ومبادرات رسمية. فمعظم المنشآت الخيرية تبقى بمعزل عن الحكومة، بيد أنها تتميز بإمكانيات اقتصادية، وعلى رأسها مؤسسات، المستضعفين، والشهيد، والإمام الرضا، والخامس عشر من خرداد، بحسبانها مؤسسات معفاة من الضرائب، وتؤدي أدوارا في خدمة السياسات الإيرانية.
يكشف ذلك عن أن القارة الأفريقية حظيت باهتمام متعدد المستويات من قبل السلطات الإيرانية، على نحو جعلها تتمتع بصفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي. وتتبع طهران مقاربات كثيرة للتغلغل والنفاذ في القارة السمراء، عبر زيارات متوالية وعالية المستوى، من خلال حلقات متصلة لمجموعات من الدول الأفريقية، في إطار جولات إيرانية على نحو دوري. فعلى سبيل المثال، قام الرئيس السابق، محمود أحمدي نجاد، بأكثر من ست جولات لدول غرب أفريقيا.
هذا في حين حاولت طهران اتباع استراتيجية منتظمة بشأن إقامة المعارض التجارية في أفريقيا. وقد عقدت قمة أفريقية - إيرانية عام 2010 تحت اسم منتدى التقارب الفكري بالعاصمة طهران بمشاركة زعماء 40 دولة أفريقية.

في هذا السياق، يشير مخطوط خريطة إيرانية مذهبية طائفية إلى أن «إيران تتجه إلى أفريقيا تبشيرا واستثمارا»، فيما يؤكد بيتر فام، مدير مجموعة Africa Center البحثية، التي تتبع Atlantic Council أن إيران لا تستهدف بمعاركها في الشرق الأوسط محض تقوية تمددها في المنطقة، بل وضعت خططا منفصلة لتثبيت تمدد نفوذها في أفريقيا ذات الثقل الاستراتيجي والجغرافي والكثافة السكانية.
وقد عملت طهران خلال السنوات الخالية على التغلغل تدريجيا في القارة الأفريقية، عبر استغلال الأقليات الشيعية، والتي تبلغ ما بين 5 إلى 10 في المائة من مجموع السكان المسلمين، كما تنتهج عملية «التشيع»، عبر البعثات العلمية، والمؤسسات التعليمية الخاصة، والمراكز الثقافية، والحوزات العلمية، وجمعيات الهلال الأحمر ومؤسسات المجتمع المدني.
يقول بيتر فام إنه في الوقت الذي انشغل فيه العالم بمفاوضات البرنامج النووي الإيراني، كانت طهران تعمل على التمدد داخل الكثير من الدول الأفريقية، عبر بعثات شملت مسؤولين رسميين، ورجال أعمال، ودبلوماسيين، وعسكريين، وكذلك مجموعات من رجال الدين.
مركز ستراتفور للدراسات الأمنية والاستخباراتية ذكر بدوره أن «إيران كانت تنقل أسلحة عبر طريق يبدأ من ميناء عصب الإريتري، ويمر شرقا حول الطرف الجنوبي من بحر العرب في خليج عدن إلى مدينة شقراء التي تقع على ساحل جنوب اليمن، ومن هناك تتحرك الأسلحة برا إلى شمال مدينة مأرب شرقي اليمن، وبعدها إلى محافظة صعدة على الحدود السعودية - اليمنية».
مقابل ذلك، شهدت الكثير من البلدان الأفريقية حركة مكثفة، بالتزامن من قبل كل من الدوحة وأنقرة لتعزيز استراتيجيات المحاور الإقليمية، بما يشمله ذلك من محاولة تغيير مقاربات الكثير من الدول الأفريقية حيال تطورات المنطقة العربية. وقد تجلى التحرك التركي – القطري مؤخرا في القارة الأفريقية، من خلال التركيز على العوامل الاقتصادية، والدوافع الآيديولوجية لإعادة توجيه السياسات السودانية، سيما بعد الاتفاق التركي – السوداني بشأن شبه جزيرة سواكن.
وفيما قام الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بزبارة السودان وتونس وتشاد، مؤخرا، فإن أمير قطر، تميم بن حمد، قام بزيارة بعض عواصم الساحل الأفريقي وغرب القارة. زيارتان قطرية وتركية في ذات التوقيت، وبالاستراتيجيات الاتصالية ذاتها، ينذر ذلك، وفق بعض التقديرات، بمرحلة جديدة من العمل المشترك بين الدولتين لتحقيق مصالحها في مواجهة القوى العربية المعتدلة.
يوضح ذلك تحركات قطر وتركيا المتزامنة حيال السودان، والتي تشير إلى تزايد احتمالات تشكل محورا ثلاثيا بين الدول الثلاث التي تتبنى مقاربات داعمة لجماعات الإسلام السياسي، متمثلة في جماعة الإخوان المسلمين.
وعلى الرغم من نفي وزير خارجية السودان نية الخرطوم الدخول في محاور إقليمية، فإن الخطوات التي شهدتها علاقات السودان بتركيا وقطر خلال الأشهر الأخيرة توضح أن ثمة تحالفًا ثلاثيًا في طور التشكل، وقد يمتد ليشمل إثيوبيا، وربما إيران.



المملكة وأفريقيا... استراتيجيات الاندماج والتكامل الاستباقي




تحركات المملكة الاستباقية حيال أفريقيا تأتي انطلاقا من طبيعة التطلعات القيادية لإعادة صوغ مستقبل العلاقات السعودية مع دول القارة السمراء، عبر مسارات كثيرة لمواجهة القوى الإقليمية التي حاولت استغلال مسرح العمليات الأفريقي، من أجل التأثير سلباً على المصالح العربية.
سعت المملكة إلى تعزيز العلاقات مع مختلف الدول الأفريقية، سواء كتوجه استباقي أو تحرك وقائي. يأتي في هذا الإطار محاور التحرك السعودي، والتي ترتبط أحد أهم عناصرها بالمساعدات الإنسانية التي تعد منطلقا من مبادئ وثوابت دينية في السياسة الخارجية للمملكة، ويعد الصندوق السعودي للتنمية بمنزلة الجهاز الأساسي المعني بتقديم المساعدات الإنسانية والتنموية للدول الأفريقية في القطاعات الصحية، والتعليمية، والاجتماعية، والبنية التحتية.
كما يأتي ذلك في إطار المبادرات التي تطلقها المملكة للعمل الجماعي غير محدود الأطراف لمواجهة الصراعات، والعمل على مجابهة التحديات والتهديدات، وفي مقدمتها ظاهرة الإرهاب، وقد تجسدت مجهودات المملكة خلال عام 2017 في استضافة ثلاث قمم دولية متزامنة (السعودية - الأميركية، والخليجية - الأميركية، والإسلامية - الأميركية).
يرتبط ذلك، على جانب ثان، بمكانة المملكة الدولية والإقليمية والعربية، وعلى المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، باعتبارها أحد أعضاء مجموعة العشرين، و«دولة قائداً» في إطار التحالف العربي – الإسلامي لمكافحة الإرهاب، والتحالف الدولي لمحاربة التنظيمات الإرهابية.
يتعلق ذلك، على جانب ثالث، بنمط الأدوار القيادية التي تضطلع بها المملكة، في إطار قيادة القمم العربية – الأفريقية، ولا ينفصل ذلك، على جانب رابع وأخير، بالتحركات المناوئة التي اتخذتها بعض البلدان الأخرى في أثناء انعقاد القمة الأفريقية الأخيرة التي حاولت من خلالها القيادة المصرية إصدار إدانة أفريقية واضحة للسياسات القطرية الداعمة، والعناصر المؤيدة للجماعات التي تصنف بحسبانها جماعات جهادية وتنظيمات متطرفة.
تعنى المملكة أيضا بمواجهة السياسات التي تتبناها طهران لنشر «التشيع السياسي»، والعمل على تشكيل جماعات مذهبية متمايزة عن محيطها. وفي هذا الإطار، تشير اتجاهات سعودية إلى أن طهران توجهت خلال السنوات الخالية إلى نشر مراكز ثقافية أحادية الفكر.
لم يأت ذلك في إطار السعي وحسب لبث الطائفية، بل شمل أيضا محاولات لتأسيس أذرع سياسية، وإنشاء نسخ أفريقية من «حزب الله» اللبناني. ويُذكر في هذا السياق «حزب الله» النيجيري، الذي يعد من أكبر مناصري فكر الثورة الإيرانية، وبسبب ذلك دخل في صدامات كثيرة مع الدولة، في محاولات لإرساء قواعد نظام ولاية الفقيه في نيجيريا.
ويبدو في هذا السياق أن المملكة العربية السعودية، وإن كانت تأخذ في حسبانها نمط التحركات التركية، وأهداف التوجهات الإيرانية، فإنها على جانب آخر تؤسس تحركاتها المكثفة حيال العمق الأفريقي على طبيعة الأدوار الدولية المنوطة بالمملكة ذاتها، وذلك لاعتبارات الدور القيادي ولحسابات المصالح الاقتصادية، والتي وقفت في جملتها وراء محركات الجولات التي نفذها وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، في أكثر من دولة أفريقية، والتي جاءت في إطار السعي لتوثيق الحضور السعودي على مسرح العمليات الأفريقي.
جاءت هذه الزيارات أيضا لملء الفراغ الذي تحاول القوى الإقليمية استغلاله لتحقيق مصالحها الضيقة. وتعبر التحركات السعودية عن عمل ممنهج يستهدف توثيق العلاقات، عبر إيجاد هياكل مؤسسية لضمان توطيد الروابط المشتركة، وتشكيل مجالس تعاون استراتيجي، وآليات مؤسسية للقاءات دورية متعددة المستويات.
استطاع الوزير عادل الجبير من خلال هذه الجولات والزيارات التي شملت لقاءات مع مسؤولين لدول كجنوب أفريقيا، وزامبيا وأوغندا، وكينيا، وإثيوبيا، وبوركينا فاسو، وبنين وغيرها - استطاع تأسيس قنوات تواصل دائمة، بدا أنها تمثل امتداداً للقاءات المكثفة التي أجراها مع الزعماء الأفارقة في أديس أبابا في أثناء القمة الأخيرة للاتحاد الأفريقي.
أبرزت خطى الجبير مسعى المملكة لتعزيز شراكاتها مع دول قارة أفريقيا في مختلف المجالات دون تحديد سقف جغرافي أو زمني. ولوحظ في فترة وجيزة، عقب تلك المباحثات التي قادها الجبير، التغير الذي طرأ على مواقف الدول التي زارها، جراء الاعتداء الإيراني على البعثات الدبلوماسية السعودية في طهران.
الساحة الأفريقية، بناء على ذلك، قد تمثل نطاق تحرك حيوياً لتحقيق مكاسب سعودية متعددة المستويات، سيما بعدما تبين أن المشروع الإيراني في أفريقيا لا يرتكز على أسس متينة، ولا يقوم إلا على محاولة استغلال الانشغال العربي بالكثير من القضايا الإقليمية والدولية.



السعودية وأفريقيا... تحركات ملكية ذات أبعاد عسكرية




تشهد القارة الأفريقية ما يمكن أن يُطلق عليه «حرب القواعد العسكرية» في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا، سيما في ظل القواعد العسكرية الأميركية والفرنسية، والصينية، واليابانية، والإيطالية في جيبوتي، علاوة على القاعدة الإيرانية في إريتريا.
وتوجد الإمارات العربية المتحدة بدورها على عدة موانئ في بحر العرب والبحر الأحمر، كما تمركز الجيش التركي في الصومال، لكنه فشل عند محاولته في جيبوتي، والتي تضم قواعد لفواعل دولية كبرى.
ويمثل البحر الأحمر الممر الاقتصادي الأهم في العالم. وخلال الأعوام القليلة الماضية بات السباق محموما على البحر الأحمر الذي يعتبر ممرا لنحو 3.3 مليون برميل من النفط يوميا، كما أنه يشكل المعبر الرئيسي للتجارة بين دول شرق آسيا، سيما الصين والهند واليابان مع أوروبا. وبالإضافة للدول الإقليمية المطلة على البحر الأحمر (الأردن، ومصر، والسعودية، والسودان، وإريتريا، والصومال، واليمن، وجيبوتي، وإسرائيل) دخلت قوى دولية وإقليمية على خط النفوذ في البحر.
لذلك، فالتحرك السعودي في هذا التوقيت يأتي في إطار عمليات إعادة التموضع التي تتبناها المملكة خلال السنوات الأخيرة على ساحات الجوار الجغرافي، وتبدو الساحة الأفريقية محورية في هذا السياق، سيما أنها تحظى بأهمية استراتيجية قصوى للكثير من الفواعل الإقليمية.
دفع ذلك بتحرك المملكة سياسيا واقتصاديا وعسكريا نحو جيبوتي، بما أسهم في نجاح عمليات السفن والبوارج العسكرية لقوات التحالف العربي في تحرير جزيرة ميون اليمنية من سيطرة الحوثيين، فاستعادوا السيطرة على مضيق باب المندب، وتسلمته قوات الجيش الوطني اليمني.
وتسعى المملكة العربية السعودية إلى إنشاء القواعد العسكرية في جيبوتي، كونها تقع على أهم الطرق التي تفضل السفن التجارية العالمية العبور منها. وتستهدف السعودية من هذه الخطوات الوجود في منطقة تعد بمنزلة مدخل التجارة مع دول شرق أفريقيا بفضل موانئها، والأهمية الاستراتيجية.
بالتوازي مع ذلك، تحركت الدبلوماسية السعودية نحو إريتريا، وخلال زيارة الرئيس الإريتري، آسياس أفورقي، إلى السعودية، توصلت معه إلى اتفاق تعاون عسكري، وأمني، واقتصادي لمحاربة الإرهاب، والتجارة غير المشروعة، والقرصنة في مياه البحر الأحمر، وعدم السماح لأي تدخلات أجنبية في الشأن اليمني.
كما تصاعدت مظاهر التنسيق السعودي – المصري. وقد قامت الدولة المصرية من جانبها بالتركيز على الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي، عبر تشكيل الأسطول الجنوبي، تحميه حاملة مروحيات من طراز ميسترال، وإنشاء قاعدة رأس بناس البحرية، وإلى جانبها مطار برنيس الحربي - المدني المُشترك في جنوب شرقي مصر، لتعكس نمط إدراك حجم التهديدات التقليدية وغير التقليدية في اتجاهها الاستراتيجي الجنوبي، والمُتزايدة، بالتوازي مع تزايد المصالح الاقتصادية، والمشاريع التنموية، وأعمال البحث والتنقيب عن الثروات الطبيعية، تمامًا كما هو الحال مع اتجاهها الاستراتيجي الشمالي.
كما دخلت الإمارات بشكل لافت على خط التمركز في البحر الأحمر، حيث أنشأت قاعدة عسكرية في بربرة، عاصمة ما يعرف بجمهورية أرض الصومال، وتمتلك أيضا قاعدة عسكرية في إريتريا، كما تعزز نفوذها في بعض الموانئ على البحر الأحمر في إطار حرب التحالف العربي ضد ميليشيات الحوثي الإرهابية.
بدا من ذلك أن ثمة تنسيقا ثلاثيا (سعودي - مصري - إماراتي) لاستكمال التحولات الجيواستراتجية التي أوجدتها عاصفة الحزم بقيادة المملكة العربية السعودية. وثمة ملمح واضح في هذا السياق يتعلق بنمط التحرك نحو تعزيز التوجه السعودي لدعم أطر التعاون العسكري مع البلدان الأفريقية، والاستنساخ المتكرر للمناورات المشتركة، مثل مناورات «رعد الشمال» التي شاركت فيها دول أفريقية، التي تعتبر من أولوياتها تدعيم مصالحها الأمنية.
وكذلك دعم المشروعات العسكرية المشتركة، والتي افتتح أحدها، ولي العهد، ووزير الدفاع، الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، وجاكوب زوما، رئيس جنوب أفريقيا في محافظة الخرج، وتمثلت في مصنع للقذائف تم إنشاؤه في المملكة بترخيص ومساعدة من الشركة الجنوب أفريقية «راينميتال دينيل».



المحرك الاقتصادي... المصالح المشتركة بين المملكة وأفريقيا




تدرك السعودية أهمية التعاون الاقتصادي مع أفريقيا، كونها مستودعا للثروات الخصبة في مختلف المجالات، بما في ذلك الإنتاج الزراعي، والتعديني، والصناعي، فضلا عن الحركة التجارية والشراكات الاستثمارية ذات القيمة المضافة. ونظرًا لإطلالة الدول الأفريقية على الممرات الملاحية التي تربط قارات العالم، فقد تحركت المملكة من أجل تأمين صادرات دول الخليج إلى العالم، وكذا الواردات من السلع والخدمات، إلى جانب الأهمية السوقية.
والمملكة تسعى في سياستها الخارجية لبناء علاقات متينة اقتصاديا مع الدول الأفريقية، تأسيسا على أن أفريقيا سوق استهلاكية للمنتجات السعودية التي تكتسب الجودة لدى المستهلك الأفريقي، كما يخول للمملكة فرص الدخول في شراكات واستثمارات واسعة بحكم موقعها الجغرافي كبوابة جسر بين قارتي آسيا وأفريقيا.
شرعت السعودية أيضا في الكثير من المشاريع الثنائية مع عدد من بلدان القارة السمراء، على غرار تدشين جنوب أفريقيا والسعودية لمحطة طاقة شمسية قيمتها 328 مليون دولار في محافظة كيب الجنوب أفريقية.
في مثال آخر على التوجه السعودي الاستراتيجي في أفريقيا، كشف ضياء الدين بامخرمة، سفير جيبوتي لدى السعودية، عن توجه رسمي لإقامة خطوط ملاحية مباشرة بين موانئ جيبوتي، وجدة، وجازان لدعم التبادل التجاري بين البلدين، وتعزيز وجود المنتجات السعودية في دول القرن الأفريقي.
يكشف ذلك عن أن المملكة تنتهج تحركات منتظمة من أجل إعادة تأسيس العلاقات مع أفريقيا على ثوابت مؤسسية وروابط تحالفية تقوى على مجابهة التحركات الإقليمية التي تسعى إلى استغلال الساحة الأفريقية لاستهداف المصالح العربية على مختلف المستويات. ويبدو أن المتغير القيادي السعودي اضطلع بأدوار رئيسية في إطار صوغ مقاربات المملكة حيال أفريقيا، انطلاقا من كونها ليست محض ساحة للتحرك، وتحقيق المصالح، ودرء المخاطر، ومجابهة التحديات، وإنما انطلاقا من كونها قارة تمثل عمقا استراتيجيا للمملكة العربية السعودية.
الاهتمام السعودي بقارة أفريقيا يظهر نمط إدراك قيمة هذه العلاقة، وهذا العمق الاستراتيجي، وجدوى تعزيزه اقتصاديا وتجاريا وسياسيا، خاصة في ظل ما يمتلكه الطرفان من إمكانات هائلة.
فالشراكة والتعاون يفضيان إلى فتح آفاق كبرى من النتائج على كافة الأصعدة، بما يتضمنه ذلك من توفير فرصة لمزج وتوظيف الإمكانات السعودية الهائلة في استثمارات الطاقات الأفريقية الكامنة، فضلا عن الاهتمام بقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتفعيل حجم العلاقات والتفاعلات ومؤسسات التعاون المشترك مع المجموعتين العربية والأفريقية، وبالتالي قيادة السعودية مستقبل العلاقات بين الدول العربية والأفريقية.
font change