انحسار الأزمة المالية العالمية

الاقتصاد يعمل بأقصى طاقة... لكن الانتعاش قصير الأجل

انحسار الأزمة المالية العالمية



القاهرة: حسين البطراوي


* التشريع الضريبي الأميركي.. حوافز استثنائية مؤقتة للاستثمار... زيادة عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة... ورفع سعر الدولار على المدى الطويل.
* البنك الدولي: نمو الاقتصاد العالمي 3.1 % عام 2018... وصندوق النقد: 3.9 %.
* تصعيد القيود التجارية وزيادة التوترات الجيوسياسية تؤدي لإضعاف الثقة... والنشاط الاقتصادي وتراجع الإنتاجية والاستثمار وزيادة أعمار العمال يؤثر على 65 % من الناتج المحلي العالمي.
* ارتفاع معدل النمو في السعودية إلى 1.2 %... وانخفاض معدل النمو في الصين إلى 6.4 %... وتركيا تتراجع إلى 3.5 %... والصراعات الجيوسياسية وأسعار النفط أسباب تراجع النمو الاقتصادي.




يعد عام 2018 أول عام منذ الأزمة المالية العالمية يعمل فيه الاقتصاد العالمي بأقصى طاقته أو يكاد. لكن مع انحسار البطء في النمو الاقتصادي، من الضروري أن ينظر صناع السياسات إلى ما هو أبعد من أدوات السياسة النقدية والمالية لتحفيز النمو على المدى القصير. فلا يزال النشاط الاقتصادي العالمي يزداد قوة. وتشير التقديرات إلى نمو الناتج العالمي بمعدل 3.7 في المائة في 2017، أعلى بمقدار 0.1 نقطة مئوية مما كان متوقعا في الخريف، وأعلى بمقدار نصف نقطة مئوية مقارنة بعام 2016.
وقد شمل تحسن النمو نطاقا واسعا، مع ارتفاعات واضحة تجاوزت التوقعات في أوروبا وآسيا. ورفع صندوق النقد الدولي تنبؤات النمو العالمي لعامي 2018 و2019 بمقدار 0.2 نقطة مئوية ليصل إلى 3.9 في المائة. ويعكس هذا التعديل زيادة زخم النمو العالمي والتأثير المتوقع لتغييرات السياسة الضريبية التي أقرتها الولايات المتحدة مؤخرا. فيما توقع البنك الدولي أن يكون معدل النمو العالمي في حدود 3.1 في المائة.

السياسة الضريبية



وتوقع «النقد الدولي» أن تؤدي تغييرات السياسة الضريبية في الولايات المتحدة إلى تحفيز النشاط الاقتصادي، حيث يأتي معظم التأثير قصير الأجل في الولايات المتحدة مدفوعا باستجابة الاستثمار للتخفيضات الضريبية على دخل الشركات. ومن المقدر أن يكون الأثر على النمو إيجابيا في الولايات المتحدة حتى نهاية 2020. إذ يسجل معدلا تراكميا يصل إلى 1.2 في المائة حتى نهاية ذلك العام، مع وجود نطاق من عدم اليقين حول هذا السيناريو المركزي.
ونظرا للطبيعة المؤقتة التي تتسم بها بعض بنود حزمة السياسات الضريبية المقررة، فمن المتوقع أن تؤدي إلى خفض النمو لبضع سنوات بدءا من 2022. وتساهم آثار هذه السياسات على الناتج في الولايات المتحدة وشركائها التجاريين بنحو نصف التعديل التراكمي لتنبؤات النمو العالمي على مدار الفترة 2018 - 2019.

تطورات سلبية



تبدو المخاطر المحيطة بتنبؤات النمو العالمي متوازنة إلى حد كبير على المدى القصير، لكن كفة التطورات السلبية لا تزال هي الأرجح على المدى المتوسط. فمن الناحية الإيجابية، قد يحدث تعافٍ دوري أقوى من المتوقع على المدى القريب مع الدعم المتبادل بين انتعاش النشاط وتحقيق أوضاع مالية أكثر يسراً.
ومن الناحية السلبية، تشير تقييمات الأصول وفروق علاوات العائد شديدة الضيق على الاستثمارات طويلة الأجل إلى إمكانية حدوث تصحيح في الأسواق المالية، مما يمكن أن يضعف النمو ويؤثر على الثقة. وقد يكون أحد العوامل المسببة هو ارتفاع التضخم الأساسي وأسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة بمعدلات أسرع من المتوقع مع تسارُع معدل الطلب.
وإذا استمرت قوة المزاج العالمي السائد وظل التضخم مكبوحا، يمكن أن تستمر الأوضاع المالية التوسعية على المدى المتوسط، مما يتسبب في تراكم مواطن الضعف المالية في الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة على السواء. وهناك مخاطر أخرى قد تتسبب في تطورات سلبية، وهي السياسات الانغلاقية، والتوترات الجغرافية - السياسية، وعدم اليقين السياسي في بعض البلدان.


فرصة للإصلاح



ويتيح الانتعاش الدوري الحالي فرصة مثالية للإصلاحات. وتشمل الأولويات المشتركة بين كل الاقتصادات تنفيذ الإصلاحات الهيكلية لدعم الناتج الممكن وتوسيع نطاق النمو ليصل إلى مختلف شرائح السكان. وفي مناخ يسوده التفاؤل في الأسواق المالية، يصبح ضمان الصلابة المالية ضرورة حتمية. ويشير ضعف التضخم إلى استمرار تراخي النشاط في كثير من الاقتصادات المتقدمة مما يتطلب استمرار السياسة النقدية التيسيرية. غير أن تحسن زخم النمو يعني أن تصميم سياسة المالية العامة ينبغي أن يركز بصورة متزايدة على مراعاة الأهداف متوسطة الأجل – وهي ضمان احتفاظ المالية العامة بأوضاع قابلة للاستمرار وتعزيز الناتج الممكن. ويظل التعاون متعدد الأطراف عاملا حيويا لضمان التعافي العالمي.


المخاطر



من المخاطر البارزة على النمو تشديد شروط التمويل العالمية مقارنة بالشروط التيسيرية الحالية، إما في الأجل القريب وإما فيما بعده. وفي الأجل القريب، من المرجح أن يحافظ الاقتصاد العالمي على زخمه الحالي ما لم يحدث تصحيح في الأسواق المالية التي شهدت تحركا صعوديا مستمرا في أسعار الأصول ودرجة تقلب بالغة الانخفاض، وهو ما لم يتأثر كما يبدو بالسياسات المتبعة أو عدم اليقين السياسي في الشهور القليلة الماضية. بل إن هذا الزخم قد يحقق ارتفاعا غير متوقع على المدى القصير إذا استمر الدعم المتبادل بين الثقة في آفاق الاقتصاد العالمي والأوضاع المالية الميسرة.


السياسة النقدية



[caption id="attachment_55263677" align="alignright" width="300"]ليام فوكس – وزير الدولة لشؤون التجارة الدولية في بريطانيا ليام فوكس – وزير الدولة لشؤون التجارة الدولية في بريطانيا [/caption]

أما رد فعل عائدات السندات الأطول أجلا والدولار الأميركي إزاء تغير السياسة الضريبية في الولايات المتحدة فيبدو محدودا حتى الآن، وتتوقع الأسواق حاليا تشديد السياسة النقدية بوتيرة أكثر تدرجا مما أشار السيناريو الأساسي في تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي». ويمكن أن يحدث التصحيح في الأسواق المالية مدفوعا بعوامل مثل ظهور علامات على ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة، حيث تؤدي الدفعة التي يتلقاها الطلب إلى فرض ضغوط خافضة لمعدل البطالة الذي وصل إلى مستوى بالغ الانخفاض بالفعل. وإذا اقترن ارتفاع الضغوط التضخمية باعتماد الاحتياطي الفيدرالي وتيرة أسرع في رفع سعر الفائدة الأساسي مقارنة بسيناريو التوقعات الأساسية، يمكن أن يساهم ذلك في زيادة اتساع فروق علاوات العائد على الاستثمارات طويلة الأجل في الولايات المتحدة، وزيادة قوة الدولار الأميركي، وانخفاض أسعار الأسهم. ومن شأن تشديد الأوضاع المالية العالمية أن يسفر عن انعكاسات على أسعار الأصول والتدفقات الرأسمالية في العالم، مما يتسبب في درجة عالية من التعرض للعسر المالي في الاقتصادات التي تواجه احتياجات كبيرة لإعادة تمويل الديون الإجمالية وتتحمل التزامات دولارية غير مغطاة.
وعلى المدى المتوسط، لا تزال التوقعات محاطة بمخاطر كبيرة تتمثل في احتمال تراكم مواطن الضعف إذا استمرت الأوضاع المالية الميسرة، وإمكانية اعتماد سياسات انغلاقية، وبعض العوامل غير الاقتصادية.


السياسات



هناك هدفان مشتركان للسياسة يربطان بين الاقتصادات المتقدمة والأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. أولا، الحاجة إلى زيادة نمو الناتج الممكن – من خلال إصلاحات هيكلية لزيادة الإنتاجية، وخاصة في الاقتصادات المتقدمة التي تعاني من شيخوخة السكان، وزيادة المشاركة في القوى العاملة – مع التأكد من توزيع ثمار النمو على نطاق واسع. ثانيا، حتمية تعزيز الصلابة، بما في ذلك التنظيم المالي الاستباقي، والقيام، عند الحاجة، بإصلاح خلل الميزانيات العمومية وزيادة الهوامش الوقائية في المالية العامة. ويكتسب العمل في هذا الصدد أهمية بالغة في ظل أسعار الفائدة المنخفضة ودرجة التقلب المحدودة مع احتمال إجراء تعديلات مربكة في المحافظ الاستثمارية وانعكاس مسار التدفقات الرأسمالية. وتتيح مرحلة الصعود الدوري الجارية فرصة فريدة لإجراء إصلاحات هيكلية وإصلاحات في الحوكمة.

الاقتصادات المتقدمة




[caption id="attachment_55263680" align="alignleft" width="300"]الفرنك السويسري- العملة القانونية في سويسرا الفرنك السويسري- العملة القانونية في سويسرا[/caption]

وعلى خلفية الأولويات المشتركة، يختلف مزيج السياسات الأمثل من بلد إلى آخر ويتوقف على اعتبارات دورية وعلى حيز السياسات المتاح.
ففي الاقتصادات المتقدمة حيث يقترب الناتج من مستواه الممكن، لا تزال ضغوط الأجور والأسعار ضعيفة مما يدعو إلى اتباع مسار حذر وقائم على البيانات عند استعادة السياسة النقدية العادية. غير أن تسريع وتيرة استعادة السياسة العادية قد يكون ضروريا حيثما كانت البطالة منخفضة ويُتوقع لها مزيد من الانخفاض، كما هو الحال في الولايات المتحدة، وذلك إذا ارتفع التضخم إلى مستويات تفوق التوقعات الحالية. ومن المرغوب استمرار السياسة النقدية التيسيرية في الاقتصادات المتقدمة التي لا تزال لديها فجوات في الناتج ولا يزال التضخم دون المستوى الذي يستهدفه البنك المركزي. وفي الحالتين، ينبغي أن تركز سياسة المالية العامة على الأهداف متوسطة الأجل – بما فيها الاستثمارات العامة لدفع الناتج الممكن ومبادرات زيادة معدلات الانخراط في القوى العاملة حيثما وُجِدت فجوات – مع ضمان إمكانية استمرار ديناميكية الدين العام وتخفيض الاختلالات الخارجية المفرطة. وإذا كان ضبط أوضاع المالية العامة مطلوبا، ينبغي ضبط وتيرته بدقة لتجنب أي آثار حادة معوقة للنمو، مع توجيه السياسة نحو تحسين جودة خدمات الصحة العامة والتعليم، وحماية محدودي الدخل، ومن بينهم المتضررون المحتملون من التحول الهيكلي.


الأسواق الصاعدة



في اقتصادات الأسواق الصاعدة ساعد تحسن أطر السياسة النقدية على خفض التضخم الأساسي، مما يتيح المجال لاستخدام السياسة النقدية في دعم الطلب إذا ضعف النشاط الاقتصادي. أما سياسة المالية العامة بوجه عام فهي أكثر تقيدا بالحاجة إلى إعادة بناء الاحتياطيات الوقائية بالتدريج، وخاصة في الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية التي تعتمد على السلع الأولية. ومع فسحة الوقت التي أتاحها الصعود الدوري في أسعار السلع الأولية مؤخرا، ينبغي أن يتجنب صناع السياسات إغراءات تأجيل الإصلاحات وتعديل الموازنات إلى وقت لاحق. ويمكن لمرونة سعر الصرف أن تقوم بدور مكمل لمرتكزات السياسات المحلية بالحيلولة دون استمرار عدم الاتساق بين الأسعار النسبية، وتسهيل التكيف مع الصدمات، والحد من تراكم الاختلالات المالية والخارجية.


البلدان منخفضة الدخل



هناك تعقد كبير تنطوي عليه تحديات السياسة التي تواجه البلدان منخفضة الدخل، حيث تتضمن أهدافا متعددة تتسم بالتضارب في بعض الأحيان. وتشمل هذه الأهداف دعم النشاط على المدى القصير، وتنويع اقتصاداتها ورفع ناتجها الممكن للحفاظ على التقدم نحو أهداف التنمية المستدامة، وبناء الاحتياطات الوقائية لتعزيز الصلابة، وخاصة في الاقتصادات المعتمدة على السلع الأولية والتي تعاني من ضعف الآفاق المتوقعة لأسعارها، وتواجه مستويات دين مرتفعة ومتزايدة في كثير من الحالات. وينبغي أن يستمر تركيز مبادرات السياسات على توسيع القاعدة الضريبية، وتعبئة الإيرادات، وتحسين إدارة الديون، وتخفيض الدعم غير الموجه بدقة إلى المستحقين، وتوجيه الإنفاق نحو مجالات ترفع النمو الممكن وتُحَسِّن مستويات المعيشة للجميع (البنية التحتية والصحة والتعليم). ومن شأن الجهود الرامية إلى تعزيز أطر السلامة الاحترازية الكلية وزيادة مرونة أسعار الصرف أن تحسن تخصيص الموارد وتحد من مواطن الضعف وتعزز الصلابة.


المخاطر مستمرة



فيما يقول موريس أوبستفلد، المستشار الاقتصادي ومدير إدارة البحوث في صندوق النقد الدولي، إنه على القادة السياسيين وصناع السياسات أن يتذكروا أن الزخم الاقتصادي الحالي يعكس حشدا من العوامل التي لا يرجح أن تدوم طويلا. وقد يبدو أن الأزمة المالية العالمية قد غادرتنا بالفعل، ولكن دون تحرك عاجل لمعالجة معوقات النمو الهيكلية، وتعزيز احتوائية النمو، وبناء الصلابة وهوامش المناورة التي تتيحها السياسات، فسيحدث الهبوط الاقتصادي التالي في وقت أقرب مما نتصور وستكون مواجهته أكثر صعوبة.
وأضاف أنه لا تزال أوروبا وآسيا أهم المصادر لتَسارُع إجمالي الناتج المحلي حتى الآن، مع تحسن الأداء أيضا في الولايات المتحدة وكندا وبعض الأسواق الصاعدة الكبرى، ولا سيما البرازيل وروسيا اللتان شهدتا انكماشا في 2016. وتركيا. وسيستمر جانب كبير من هذا الزخم على المدى القصير. وسيساهم التشريع الضريبي الأميركي الأخير مساهمة ملموسة في نمو الاقتصاد الأميركي على مدار السنوات القليلة القادمة، وذلك في الأساس بسبب ما ينص عليه من حوافز استثنائية مؤقتة للاستثمار. وسيكون لهذه الدفعة التي يتلقاها النمو على المدى القصير آثار إيجابية، وإن كانت مؤقتة، على الناتج في البلدان الشريكة تجاريا للولايات المتحدة، ولكن من المرجح أيضا أن تؤدي إلى زيادة عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة، ورفع سعر الدولار الأميركي، والتأثير على التدفقات الاستثمارية الدولية.
ومرة أخرى نجد أن التجارة بدأت تنمو بمعدلات أسرع من الدخل العالمي، مدفوعة جزئيا بزيادة الاستثمارات العالمية، كما بدأت أسعار السلع الأولية تتحرك في اتجاه صاعد، مما يعود بالنفع على البلدان التي تعتمد على تصدير هذه السلع.
وفي الوقت الذي تعود فيه الاقتصادات إلى مستوى التشغيل الكامل، تظل ضغوط التضخم مكبوحة ونمو الأجور الاسمية ضعيفا. ومن الملاحظ أن الأوضاع المالية ميسرة إلى حد كبير، مع رواج أسواق الأسهم وانخفاض تكاليف الاقتراض الحكومي طويل الأجل وضِيق فروق العائد على سندات الشركات وجاذبية شروط الاقتراض بالنسبة للأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية.


تفسير الانتعاش



ويفسر «موريس» الانتعاش الحالي في الاقتصاد بقوله: «لم يكن الانتعاش الجاري من قبيل الصدفة. فقد بدأ يترسخ في منتصف 2016 ويرجع الفضل في جانب كبير منه إلى السياسات الاقتصادية الكلية التيسيرية التي دعمت مزاج السوق وعجلت بالتعافي الطبيعي».
فالسياسات النقدية ظلت طويلا، ولا تزال، محتفظة بطابعها التيسيري في البلدان الكبرى، وهو ما ترتكز عليه الأوضاع المالية العالمية الميسرة حاليا. ورغم أن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يواصل رفع أسعار الفائدة بالتدريج، فقد حافظ على منهجه الحذر وجاءت استجابته حكيمة لاضطرابات أوائل 2016 حين أرجأ زيادات أسعار الفائدة التي كانت متوقعة آنذاك. وبدأ البنك المركزي الأوروبي يوقف بالتدريج عمليات شراء الأصول واسعة النطاق، والتي ساهمت بدور حيوي في إنعاش النمو في منطقة اليورو، ولكنه أشار أيضا إلى أن زيادات أسعار الفائدة احتمال بعيد.
وبالإضافة إلى ذلك، تحولت سياسة المالية العامة في الاقتصادات المتقدمة على وجه الإجمال من سياسة انكماشية إلى سياسة تكاد تكون محايدة على مدار السنوات القليلة الماضية، بينما قدمت الصين دعما كبيرا من المالية العامة منذ تباطأ النمو فيها في منتصف العقد، مما أحْدَث تداعيات إيجابية لدى شركائها التجاريين. وفي الولايات المتحدة بالطبع، توشك سياسة المالية العامة على اعتماد وجهة توسعية إلى حد كبير، وهو ما يستتبع آثارا معقدة على الاقتصاد العالمي.


مخاطر محتملة



ويضيف أن الانتعاش يواجه مخاطر متوسطة الأجل من المرجح أن تزداد بمرور الوقت. فالاقتصادات المتقدمة تقود الانتعاش، لكنها ستعود، بمجرد سد فجوات الناتج لديها، إلى معدلات النمو الأطول أجلا التي لا نزال نتوقع أن تكون أدنى بكثير من معدلات ما قبل الأزمة. فبينما نتوقع أن يبلغ النمو في الاقتصادات المتقدمة 2.3 في المائة في 2018، يفيد تقييمنا للنمو الممكن في هذه المجموعة بأنه لن يتجاوز ثلثي هذا المعدل على المدى الأطول. ويشكل التغير الديموغرافي وانخفاض نمو الإنتاجية تحديين واضحين يدعوان إلى استثمارات كبيرة في الموارد البشرية والجهود البحثية. وتواجه البلدان المصدرة للوقود آفاقا غائمة إلى حد كبير وعليها استكشاف السبل الممكنة لتنويع نشاطها الاقتصادي.
وتشير التنبؤات إلى أن النمو يتجه إلى التباطؤ في أكبر اقتصادين وطنيين يدفعان النمو حاليا وفي المستقبل القريب. فالصين ستخفض التنشيط المالي الذي اعتمدته في العامين الأخيرين، كما أعلنت السلطات أنها تنوي كبح النمو الائتماني لتقوية نظامها المالي المثقل بالأعباء. وتمشيا مع هذه الخطط، يُتوقع انخفاض النمو المستقبلي مع استمرار الصين في جهودها الضرورية لاستعادة توازن الاقتصاد.
أما في الولايات المتحدة، فأي تأثير يحدثه التخفيض الضريبي على الناتج في اقتصاد يكاد يصل إلى مستوى التشغيل الكامل سيأتي جانب منه على حساب انخفاض النمو لاحقا، عندما ينتهي العمل بحوافز الإنفاق المؤقتة (وخاصة للاستثمار) ويظهر تأثير زيادة الدين الفيدرالي مع الوقت.


تركة الديون



ومع أهمية الأوضاع المالية الميسرة والدعم المقدم من المالية العامة لتحقيق التعافي المنشود، فقد أدى ذلك إلى تكوين تركة من الديون لدى الحكومة، وفي بعض الحالات لدى الشركات والأسر، في الاقتصادات المتقدمة والصاعدة على السواء. ولا تزال معدلات التضخم وأسعار الفائدة منخفضة حتى الآن، ولكن حدوث ارتفاع مفاجئ عن المستويات الحالية، ربما بسبب تطورات السياسة المسايرة للتقلبات الدورية، من شأنه تشديد الأوضاع المالية عالميًا وتحفيز الأسواق على إعادة تقييم مدى استدامة الدين في بعض الحالات. وستكون أسعار الأسهم المرتفعة معرضة للخطر أيضا، مما يزيد من مخاطر التعديلات السعرية المربكة.


حركة الهجرة



رغم تصاعد النمو في أوروبا وآسيا وأميركا الشمالية، فهناك أخبار أقل إيجابية عن كل من الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء التي يشكل ضعف اقتصاداتها الكبرى عبئا معوقا للنمو فيها. وهناك حركة هجرة خارجية كبيرة تسبب فيها النمو المنخفض، الناشئ جزئيا عن الظواهر الجوية المعاكسة المصحوبة بصراعات أهلية في بعض الحالات. وهناك مظاهر تحسن بارزة في بعض اقتصادات أميركا اللاتينية الكبرى ولكن استمرار الانهيار الاقتصادي في فنزويلا سيظل عبئا على النمو الكلي في المنطقة هذا العام.


لحظة مثالية



لعل أكبر المخاطر الراهنة هي احتمال التراخي. فقد تبدو هذه الآونة لحظة مثالية في الاقتصاد العالمي، لكن صناع السياسات الحكماء عليهم النظر إلى أبعد من الأجل القصير. كذلك فإن انتعاشا بهذا الاتساع هو لحظة التحرك المثالية لمواجهة مجموعة من التحديات متعددة الأبعاد. ويشمل ذلك مواجهة المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي العالمي، ومنها التهديدات الإلكترونية؛ وتعزيز النظام التجاري متعدد الأطراف؛ والتعاون في مجال السياسات الضريبية الدولية، بما في ذلك مكافحة غسل الأموال؛ وتشجيع النمو القابل للاستمرار في البلدان منخفضة الدخل. أما ما يشكل ضرورة ملحة للغاية فهو مكافحة الضرر البيئي الذي يتعذر تداركه فيما بعد، وخاصة ضرر التغير المناخي.


البنك الدولي





يتوقع البنك الدولي نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.1 في المائة عام 2018 بعد أن شهد عام 2017 أداءً أقوى من المتوقع، مع استمرار الانتعاش في الاستثمارات والتصنيع والتجارة، واستفادة البلدان النامية المصدرة للسلع الأولية من ثبات الأسعار، غير أنه يحذر من أن هذا الانتعاش يعد إلى حد كبير قصير الأجل.
أما على المدى الأبعد، فإن تراجع وتيرة النمو المحتمل، وهو مقياس لسرعة توسع الاقتصاد عند التوظيف الكامل للعمالة ورأس المال، يعرض للخطر ما تحقق من مكاسب في تحسّن مستويات المعيشة والحد من الفقر في جميع أنحاء العالم.
ومن المتوقع أن تهدأ وتيرة النمو في البلدان المتقدمة بشكل طفيف ليسجل 2.2 في المائة عام 2018، وذلك مع إلغاء البنوك المركزية تدريجيًا إجراءات التكيف ما بعد الأزمة المالية، وبعد أن ارتفعت الاستثمارات إلى ذروتها. وتشير التقديرات إلى أن معدل النمو في بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية إجمالاً سيرتفع إلى 4.5 في المائة عام 2018، بفضل استمرار الانتعاش في النشاط الاقتصادي بالبلدان المصدرة للسلع الأولية.
وقال جيم يونغ كيم، رئيس مجموعة البنك الدولي، إن «انتعاش النمو العالمي الواسع النطاق أمر مثير للتفاؤل، لكن الوقت لم يحن بعد للشعور بالرضا. هذه فرصة عظيمة للاستثمار في رأس المال البشري والمادي. فإذا ركز صانعو السياسات حول العالم على هذه الاستثمارات الرئيسية، يمكنهم زيادة القدرة الإنتاجية في بلدانهم، وتعزيز مشاركة القوة العاملة، والاقتراب من هدفي إنهاء الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك».


نمو الإنتاجية



يرجع ضعف النمو المحتمل مستقبلا إلى سنوات من تراجع نمو الإنتاجية والاستثمار، وزيادة أعمار القوة العاملة على مستوى العالم، ويؤثر على اقتصادات تشكل ما يربو على 65 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. ومن دون بذل الجهد اللازم لإعادة تحفيز النمو المحتمل، فقد يمتد التراجع إلى العقد المقبل، وربما يؤدي إلى ضعف متوسط النمو العالمي ربع نقطة مئوية، ومتوسط النمو في بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية نصف نقطة مئوية على مدار تلك الفترة.
ويقول المدير الأول لاقتصاديات التنمية بالبنك الدولي، شانتايانان ديفاراجان: «يؤكد تحليل محددات التراجع في النمو المحتمل أننا لسنا مكتوفي الأيدي حياله... فمن شأن الإصلاحات التي تعزز جودة التعليم والرعاية الصحية، وتحسن أيضًا مستوى خدمات البنية التحتية أن تعزز النمو المحتمل بصورة ملموسة لا سيما في بلدان الأسواق الناشئة والبلدان النامية. غير أن بعض هذه الإصلاحات ستواجه مقاومة من جماعات قوية سياسيا».


التمويل العالمي



لا تزال مخاطر آفاق النمو تميل إلى الجانب السلبي. فقد يؤدي تشديد مفاجئ في شروط التمويل العالمي إلى انحراف التوسع عن مساره. وقد يؤدي تصعيد القيود التجارية وزيادة التوترات الجيوسياسية إلى إضعاف الثقة والنشاط الاقتصادي. من ناحية أخرى، يمكن أن يتحقق نمو أقوى من المتوقع في الكثير من البلدان الضخمة اقتصاديا، مما يساعد على توسيع نطاق الانتعاش العالمي.
وأوضح مدير مجموعة آفاق اقتصاديات التنمية في البنك الدولي، أيهان كوسي، أنه «مع عودة معدلات البطالة إلى مستويات ما قبل الأزمة وزيادة إشراق الصورة الاقتصادية في البلدان المتقدمة والعالم النامي على حد سواء، فمن الضروري أن يدرس صانعو السياسات توجهات جديدة للحفاظ على استمرار الزخم اللازم للنمو. وعلى وجه التحديد، أصبحت الإصلاحات التي تزيد الإنتاجية أمرًا ملحًا مع تزايد الضغوط على النمو المحتمل من السكان الذين يتقدم بهم العمر».


الشرق الأوسط



[caption id="attachment_55263674" align="alignleft" width="300"]طارق قابيل- وزير التجارة والصناعة المصري طارق قابيل- وزير التجارة والصناعة المصري[/caption]

يتوقع البنك الدولي أن يقفز معدل النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى 3 في المائة عام 2018 مقارنة بـ1.8 في المائة عام 2017. مدفوعا بالإصلاحات التي تشهدها المنطقة، وسط توقعات بتخفيف القيود المالية مع ثبات أسعار النفط، ومن المتوقع أن تدعم تدفقات السياحة المواتية النمو في البلدان التي لا تعتمد على الصادرات النفطية.
لكن قد يؤدي استمرار الصراعات الجيوسياسية وضعف أسعار النفط إلى تراجع النمو الاقتصادي. ومن المتوقع أن يرتفع معدل النمو في المملكة العربية السعودية إلى 1.2 في المائة عام 2018 من 0.3 في المائة عام 2017. في حين تشير التقديرات إلى أن معدل النمو في مصر سيرتفع إلى 4.5 في المائة في السنة المالية 2018 من 4.2 في المائة السنة الماضية.


شرق آسيا



أما شرق آسيا والمحيط الهادي، فتوقع البنك الدولي أن ينخفض معدل النمو في المنطقة إلى 6.2 في المائة عام 2018 من نحو 6.4 في المائة عام 2017. مشيرا إلى أن التباطؤ الهيكلي في الصين يعادل انتعاشًا دوريًا معتدلاً في باقي المنطقة. وأصبحت المخاطر التي تواجه آفاق النمو أكثر توازنًا. ومن شأن تحقيق نمو أقوى من المتوقع في البلدان المتقدمة أن يؤدي إلى نمو أسرع من المتوقع في المنطقة.
على الجانب السلبي، فإن التوترات الجيوسياسية المتنامية، وزيادة السياسة الحمائية على مستوى العالم، وحدوث تشديد مفاجئ وغير متوقع في الأوضاع المالية العالمية، والتراجع الأكثر حدة من المتوقع في البلدان الرئيسية، بما فيها الصين، تمثل جميعًا مخاطر سلبية على آفاق النمو الإقليمية.
ومن المتوقع أن ينخفض معدل النمو في الصين إلى 6.4 في المائة عام 2018 من 6.8 في المائة عام 2017. وتشير التوقعات إلى ارتفاع معدل النمو في إندونيسيا إلى 5.3 في المائة عام 2018 من 5.1 في المائة عام 2017.
أوروبا.
وفي أوروبا وآسيا الوسطى، من المتوقع أن يتراجع معدل النمو في المنطقة إلى 2.9 في المائة عام 2018 من 3.7 في المائة عام 2017. وتشير التوقعات أيضًا إلى استمرار التعافي في شرق المنطقة، مدفوعًا بأداء البلدان المصدرة للسلع الأولية، والذي يقابله انخفاض تدريجي في الجزء الغربي نتيجة لتراجع النشاط الاقتصادي في منطقة اليورو.
وتمثل حالة عدم اليقين السياسي المتزايد وانخفاض أسعار النفط مجددًا مخاطر تسجيل نمو أقل من المتوقع. ومن المتوقع أيضًا أن يتوسع اقتصاد روسيا بنسبة 1.7 في المائة عام 2018. دون تغير عن معدل النمو المقدر عام 2017. أما في تركيا، فإن التقديرات تشير إلى أن النمو سيتراجع إلى 3.5 في المائة هذا العام من 6.7 في المائة في العام الماضي.


أميركا اللاتينية



أما أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، فيتوقع البنك الدولي أن يرتفع معدل النمو في المنطقة إلى 2 في المائة عام 2018 من نحو 0.9 في المائة عام 2017. وتشير التوقعات إلى أن الزخم الذي يدفع النمو سيتزايد مع زيادة قوة الاستهلاك والاستثمار الخاص، لا سيما في البلدان المصدرة للسلع الأولية. كما أن المزيد من عدم اليقين بشأن السياسات، أو الكوارث الطبيعية، أو تشديد السياسة الحمائية التجارية في الولايات المتحدة، أو زيادة التدهور في أوضاع المالية العامة المحلية قد تدفع النمو خارج مساره. أما في البرازيل، فمن المتوقع تسجيل ارتفاع في معدل النمو إلى 2 في المائة عام 2018 من 1 في المائة عام 2017. وتشير التقديرات إلى أن النمو في المكسيك سيرتفع إلى 2.1 في المائة هذا العام من 1.9 في المائة العام الماضي.

جنوب آسيا



وفي جنوب آسيا، من المتوقع أن يرتفع معدل النمو في المنطقة إلى 6.9 في المائة عام 2018 من 6.5 في المائة عام 2017. كما أنه من المنتظر أن يظل الاستهلاك قويًا وأن تتعافى الصادرات، أما الاستثمار فيمضي على طريق الانتعاش بفضل إصلاح السياسات وتحديث البنية التحتية. ومن شأن التباطؤ في جهود الإصلاح، أو الكوارث الطبيعية، أو زيادة التقلبات المالية العالمية أن تبطئ وتيرة النمو.
ومن المتوقع أن تسجل الهند زيادة في معدل النمو إلى 7.3 في المائة في السنة المالية 2018-2019 من 6.7 في المائة في السنة المالية 2017-2018، التي تبدأ في 1 أبريل (نيسان). أما في باكستان، فمن المتوقع أن يرتفع معدل النمو إلى 5.8 في المائة في السنة المالية 2018-2019 من 5.5 في المائة في السنة المالية 2017-2018 التي تبدأ في يوليو (تموز).

أفريقيا جنوب الصحراء



توقع البنك ارتفاع معدل النمو في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء إلى 3.2 في المائة عام 2018 من 2.4 في المائة عام 2017. وسيعتمد تحقيق معدل نمو أقوى على ثبات أسعار السلع الأولية وتنفيذ الإصلاحات اللازمة. لكن قد يتراجع معدل النمو نتيجة لانخفاض أسعار السلع الأولية، وارتفاع أسعار الفائدة العالمية أكثر من المتوقع، وعدم بذل الجهد الكافي لتحسين ديناميكية الدين. وتشير التوقعات إلى أن معدل النمو في جنوب أفريقيا سيرتفع إلى 1.1 في المائة عام 2018 من 0.8 في المائة عام 2017. أما في نيجيريا، فمن المتوقع أن يرتفع معدل النمو إلى 2.5 في المائة العام الحالي من 1 في المائة العام الماضي.


font change