استغاثة طرابلس

استغاثة طرابلس

[caption id="attachment_55267824" align="aligncenter" width="1319"]الشعب الليبي يرفع شعارات خلال مظاهرة تطالب بتطهير بلدهم من الميليشيات المسلحة في ساحة الشهداء - طرابلس ليبيا يوم 17 مارس 2017 (غيتي). الشعب الليبي يرفع شعارات خلال مظاهرة تطالب بتطهير بلدهم من الميليشيات المسلحة في ساحة الشهداء - طرابلس ليبيا يوم 17 مارس 2017 (غيتي).[/caption]

طرابلس: عبد الستار حتيتة



* مرت مصر، في السابق، بمثل هذه التجربة. وهي أن يستعين أعضاء في مؤسسات تابعة للدولة، وقادمين من خلفيات «جهادية»، بميليشيات لردع معارضيهم بقوة السلاح.
* يوجد في كل من المجلس الرئاسي ومجلس الدولة قيادات من جماعات متطرفة ومصنفة من بعض الدول الأخرى كـ«تنظيمات إرهابية».
* مسؤول كان حتى أيام قليلة مضت يعمل في مجلس السراج: «الناس خرجوا غير منظمين... المواطنون يتقاذفهم غضب لا يمكن التحكم فيه. هذا خروج اليائسين».
* صبت سطوة الميليشيات الزيت على النار. وخرجت محطات كهرباء عن الخدمة. وفسدت أطنان من الأدوية في الصيدليات.
* مسؤول أمني سابق: «الميليشيات ضد أي عودة للدولة. الميليشيات تريد استمرار الحال على ما هو عليه. لا توجد رقابة على ما لديها من سجون يقبع فيها آلاف الموقوفين».
* تشكو وزارة الداخلية، التي يديرها العميد عبد السلام عاشور، وهي تابعة للسراج، من تردي الوضع الأمني ومن سطوة الميليشيات ومن الفساد.




جرت مناقشة حامية، قبل يومين، بين أحد كبار الضباط من عهد معمر القذافي، وعضو في المجلس الرئاسي الحاكم حاليا في العاصمة الليبية طرابلس. ويعد هذا الجدل واحداً من علامات اختلاف المفاهيم والرؤى في طريقة إدارة الدول بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
سأل الضابط، الذي يشغل موقعا أمنيا كبيرا في مباحث طرابلس، العضو، بصوت زاعق: هل استعنت بميليشيات لقتل المتظاهرين في ضاحية النوفليين، يا سيادة العضو؟ فأجاب العضو المدعوم مجلسه من الأمم المتحدة: هؤلاء المسلحون مسلمون... إخوة لنا، يساعدوننا لمنع الأعداء من إثارة الفوضى في المدينة.
لقد مرت مصر، في السابق، بمثل هذه التجربة. وهي أن يستعين أعضاء في مؤسسات تابعة للدولة، وقادمين من خلفيات «جهادية»، بميليشيات لردع معارضيهم بقوة السلاح.
ومع بعض الفوارق، بدأت خلال الأيام القليلة الماضية، انطلاقا من ضاحية النوفليين في وسط طرابلس، إرهاصات لتنظيم مظاهرات تشبه تلك التي جرت أمام المكتب الرئيسي لجماعة الإخوان المسلمين بالقاهرة في 2013. وأدت لإطاحة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، المنتمي للجماعة.
ويتولى السلطة في طرابلس المجلس الرئاسي بقيادة فايز السراج، وهو رجل ذو توجهات مدنية، ويعاونه مجلس الدولة (الاستشاري)، بقيادة الإخواني المتشدد، خالد المشري. ويوجد في كل من المجلس الرئاسي ومجلس الدولة قيادات من جماعات متطرفة ومصنفة من بعض الدول الأخرى كـ«تنظيمات إرهابية».
وفشل حكم المجلسين - منذ خروجهما إلى النور، بمباركة من الأمم المتحدة، خلال السنوات الثلاث الأخيرة - في إعادة الأمن والخدمات إلى العاصمة. بل ازدادت أوضاع طرابلس سوءا. فهي تعيش في ظلام شبه تام، بعد خروج عدة محطات للكهرباء من الخدمة. وتشهد منذ الأسبوع الماضي، نقصا حادا في الطحين. لقد توقفت معظم المخابز عن العمل. وأغلقت مراكز طبية وصيدليات أبوابها. وتقطعت أوصال شوارعها وضواحيها بالحواجز الإسمنتية والأسلاك الشائكة بين ميليشيات متنافسة ومدججة بالأسلحة الثقيلة.

[caption id="attachment_55267825" align="alignleft" width="594"]رئيس المجلس الرئاسي الليبي ورئيس الوزراء فايز مصطفى السراج (غيتي). رئيس المجلس الرئاسي الليبي ورئيس الوزراء فايز مصطفى السراج (غيتي).[/caption]

في مساء يوم الخميس 19 يوليو (تموز) الجاري، تجمع نحو مائتي شاب غاضب في الشوارع الجانبية لضاحية النوفليين. وبدأت العاصمة تترقب وقوع مشكلة كبيرة. فقد قرر الشبان في هذه الضاحية وضواحٍ مجاورة أخرى، تبكير موعد المظاهرة. وبدلا من أن تكون بعد ظهر يوم الجمعة 20 يوليو، جرى الاتفاق سريعا عبر الهواتف على أن تبدأ المظاهرة في ليل الخميس نفسه، وذلك لتفويت الفرصة على الميليشيات التي كانت تعد عناصرها للتصدي لمظاهرات تلك الجمعة.
ويقول نوري، وهو من سكان النوفليين، ويبلغ من العمر 45 عاما، ولديه متجر صغير لبيع أدوات الهواتف المحمولة: «لم نعد نتحمل مزيدا من الفوضى. لا يوجد خبز، ولا كهرباء. نموت ببطء ومن يعترض يقتلونه... لقد حان الوقت لنرفع أصواتنا. إما أن يسمعنا العالم، أو نموت».
كان أحد الجيران مبتور الساقين من جراء الحرب، يجلس على عتبة بيته المظلم ويشجع الشبان. ونزل بضعة فضوليين وهم يهزون رؤوسهم بالموافقة على التحرك، في هذا الليل، ناحية الساحة المطلة على البحر. وكانت بعض البيوت مضاءة بمولدات كهربائية خاصة.
حين تبصر العيون عن قرب ترى لونها أحمر من شدة الحنق وقلة النوم. وفي نحو الساعة الحادية عشرة ليلا بدأ زحف المتظاهرين في اتجه ميدان الشهداء الذي كان يخطب فيه القذافي في أيامه الأخيرة حيث كان اسمه وقتذاك «الساحة الخضراء». لكن تحرك الميليشيات كان أسرع.
قبل الصدام الذي وقع في تلك الليلة بنحو ساعتين، راقب قادة من جماعة الإخوان ومن الجماعة المقاتلة، ومن المجلسين، الرئاسي والاستشاري، التغير المفاجئ في مزاج المتظاهرين، وكيف أخذوا في الاحتشاد في ضواحي النوفليين والظهرة وفشلوم، تحت جنح الظلام، دون انتظار لمجيء يوم الجمعة. اكتظت سماء طرابلس بسحب من القلق. نزلت قوات نظامية تابعة لمباحث العاصمة التي يديرها الرجل المتمرس في الأمن، رشيد الرجباني.
ويقول أحد مساعدي هذا الرجل الذي يعمل في الأمن منذ ربع قرن: «كنا نريد حماية المظاهرات. هذا واجبنا. لكن طرابلس اختلط فيها الحابل بالنابل. كل فريق لديه ترسانة أسلحة».
فقد انقلبت الأمور رأسا على عقب بشكل سريع. وهتف صوت من الخلف: «لن يسمحوا لكم بالتقدم... هناك ملثمون مسلحون في الطريق». وفي المقابل كان هناك تصميم على المضي إلى الأمام. وارتفعت الهتافات من ناحية «جامع الصقع». الحناجر تردد بقوة: «ارحل... ارحل يا سراج»... ثم تقول كذلك: «يا إخوان يا خُوَّان».
ومثل غالبية شوارع طرابلس، كان الظلام دامسا. ويقول مسؤول كان حتى أيام قليلة مضت يعمل في مجلس السراج: «الناس خرجوا غير منظمين... المواطنون يتقاذفهم غضب لا يمكن التحكم فيه. هذا خروج اليائسين».
ويشير إلى أن مجلس السراج يواجه تمردا من داخله. ويقول: «لقد خرج ثلاثة من نواب السراج التسعة، من المجلس، هم فتحي المجبري، وعلي القطراني، ومن قبلهما، موسى الكوني. كما أن وزير دفاعه، المهدي البرغثي، على خلاف معه منذ شهور. ووزارة الداخلية - كما تعلم - مغلوبة على أمرها».
وزاد الطين بلة في المجلس الرئاسي ظهور تقرير المحاسبة المالية في طرابلس، والذي كشف عن فساد بمليارات الدولارات. وبدا صمت مجلس الدولة ورئيسه الإخواني، مثيرا للريبة من جانب جمهور العاصمة. وصبت سطوة الميليشيات في الأسابيع الأخيرة الزيت على النار. وخرجت محطات كهرباء عن الخدمة. وفسدت أطنان من الأدوية في الصيدليات. ويقول محمود، البالغ من العمر 35 عاما، والموظف في شركة حكومية في العاصمة: «لم تصرف لنا المرتبات منذ شهر أبريل (نيسان). ولا أجد الأنسولين لوالدي المريض بالسكري. ومياه الشرب مقطوعة. هذه ليست حياة».
وشارك محمود في الهتافات المنددة بالحكومة، في عتمة الليل. ومن الجهة الأخرى، حيث تجري مراقبة تجمع المتظاهرين الأكبر في مدخل النوفليين، كان يمكن أن ترى من خلال بصيص كاميرات الهواتف القليلة، كتلة من البشر تتحرك مثل غمامة ضخمة وسط شارع ضيق. وفجأة انطلق صوت الرصاص لتفريق الحشد.
واستمر هدير الهتاف ضد حكومة المجلس الرئاسي وضد جماعة الإخوان. وتلقى ضابط من جهاز المباحث، على جهاز اللاسلكي، إشارات من عدة ضواحٍ.. فقد توجهت قوة من «الردع»، الموالية للسراج، للتصدي لمظاهرات كانت قادمة من ناحية فشلوم. وتتبع قوة الردع الحكومة لكنها تعمل بشكل شبه مستقل.
وفي شارع زاوية الدهماني أحضرت قوة أخرى من قوات تأمين العاصمة، آلية ضخمة، تستخدم عادة في التمهيد لرصف الطرق. وقامت بسرعة بدفع كتلة إسمنتية من الرصيف، وسدت بها الشارع. ورد المتظاهرون بعد قليل بإشعال النار في إطارات السيارات وارتفعت الأدخنة، مع تزايد صوت هتافات «ارحل». وتقدمت كتلة المتظاهرين. وحين وصلت إلى حافة الشارع المؤدي إلى ساحة الشهداء، سمع صوت إطلاق نار كثيف. وصاح ضابط من وراء ساتر مركبته: من أين تأتي النيران؟ من يطلق الرصاص هنا؟ توقفوا... توقفوا.

[caption id="attachment_55267826" align="alignright" width="407"]نائب وزير الداخلية الليبي عبد السلام عاشور (أ.ف.ب). نائب وزير الداخلية الليبي عبد السلام عاشور (أ.ف.ب).[/caption]

وانتشر نبأ إطلاق الرصاص على مظاهرة النوفليين كالنار في الهشيم. وأعادت إلى الأذهان مجازر ارتكبتها ميليشيات في السنوات الأخيرة ضد المظاهرات السلمية في طرابلس. ويقول عبد الله شيبان، وهو مسؤول أمني سابق: «الميليشيات ضد أي عودة للدولة. الميليشيات تريد استمرار الحال على ما هو عليه. لا توجد رقابة على ما لديها من سجون يقبع فيها آلاف الموقوفين من الرجال والنساء منذ 2011 وما بعدها حتى اليوم».
وتمكن خليط من قوات تأمين العاصمة، مع ملثمين مجهولين، من تفريق مجموعات المتظاهرين في شارع الجمهوريـة وضواحي «الحي الصناعي» و«زاويـة الدهماني» و«غوط الشعال» و«فشلوم» و«قرجي» وغيرها. قبل حلول الفجر كان الجرحى ما زالوا يتلقون الإسعافات البدائية من أقرانهم على عتبات البيوت. كان من الصعب العثور على صيدلية مفتوحة. وفي نهاية شارع الجمهورية بدت عناصر من الميليشيات تتأهب لإطلاق النار، من جديد، من وراء الحواجز.
أدرك قادة المظاهرات أن محاولة الخروج ليلا باءت بالفشل. وبالتالي لا خروج في يوم الجمعة. وعلى كشافات بضعة هواتف، خطب أحد الشبان المتحمسين وهو يقف أعلى برميل في ساحة (سيمافرو) داخل ضاحية النوفليين، وقال: «لن نتوقف... موعدنا الجمعة المقبل (27 يوليو)».
ويزيد شيبان قائلا: «هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها تصميما على الاستمرار في التظاهر. هذا تحول خطير لدى الناس. لقد ملوا من غياب الدولة، وتعبوا من تحكم الميليشيات في العاصمة. إنهم يطلقون استغاثة لمن لديه أذنان».
وفي اليوم التالي (20 يوليو) تبيَّن، مع سطوع الشمس، أن مجموعة من الغاضبين المتهورين، كانت قد انفصلت عن مظاهرة حي النوفليين أثناء إطلاق النار على المظاهرة، وحاولوا الوصول إلى منطقتي «بن عاشور»، و«وسط طرابلس»، إلا أن عناصر الميليشيات طاردتهم وألقت القبض على عدد منهم. ولا أحد يعرف مصيرهم.
ويقول مسؤول في مكتب الرجباني: «بدأ في الليلة نفسها التحقيق فيمن قام بإطلاق النار على الناس... نحن كجهاز أمني لم نأمر بذلك. لم نعط الأوامر بضرب المتظاهرين بالرصاص. من قام بهذا ملثمون يتحدثون بلهجات غير ليبية، والمعلومات التي جرى جمعها سريعا من الموقع، تقول إنهم تابعون للحراسة الخاصة بعضوٍ في المجلس الرئاسي ممن ينتمون إلى الجماعة المقاتلة».
وأثناء ذلك مرت سيارات تحمل وزير الداخلية الذي كان في جنوب طرابلس، متوجها ناحية مقر المجلس الرئاسي على البحر. كان التوتر يسود في كل مكان. وتبدو وزارة الداخلية ضعيفة عموما مقارنة بإمكانيات عدة ميليشيات بعضها على ولاء للسراج وبعضها يعمل ضده، والبعض الآخر يتحين الفرص للسيطرة على مربعات جديدة في العاصمة.
وتشكو وزارة الداخلية، التي يديرها العميد عبد السلام عاشور، وهي تابعة للسراج، من تردي الوضع الأمني ومن سطوة الميليشيات ومن الفساد. ويقول ضابط كبير في الوزارة: «نتعرض للتهميش منذ شهور. الميليشيات استولت بالقوة على مقار عدة كانت تتبعنا... سيطروا على المباني وعلى ما فيها من أسلحة ومعدات وأجهزة».
لقد انتقد المجبري والقطراني، علانية، تغول الميليشيات وسيطرتها على العاصمة. وتركا السراج وهو أكثر عزلة من أي وقت مضى. فحتى الميليشيات التي ظل يعتمد عليها منذ دخوله لطرابلس في مطلع عام 2016. أصبحت منقسمة على نفسها، وبعضها على خصومة معه ومع جماعة الإخوان أيضا ممثلة في مجلس الدولة.
وفي أحد أروقة فندق يقع على طريق مطار طرابلس، عقد قادة من جماعة الإخوان اجتماعا على عجل في تلك الليلة. لقد كانت تطغى على الوجوه وعلى طريقة الكلام، مشاعر توحي بالذعر، لأن إحدى الميليشيات الطرابلسية القوية، والتي تعد أكبر راع للنادي الأهلي بالعاصمة، ذي الجمهور (الألتراس) العريض، وقفت مع مطالب المتظاهرين، وهو تحول مثير يخصم من أوراق القوة في المجلس الرئاسي ومجلس الدولة.

[caption id="attachment_55267827" align="alignleft" width="594"]أفراد من الجيش الوطني الليبي الموالي للرجل القوي في شرق البلاد خليفة حفتر أطلقوا قذائف «هاون» خلال اشتباكات مع مسلحين في حي أخريبش بوسط بنغازي في 19 يوليو 2017 (أ.ف.ب). أفراد من الجيش الوطني الليبي الموالي للرجل القوي في شرق البلاد خليفة حفتر أطلقوا قذائف «هاون» خلال اشتباكات مع مسلحين في حي أخريبش بوسط بنغازي في 19 يوليو 2017 (أ.ف.ب).[/caption]

وظل الإخوان يعتقدون منذ شهور أنهم عادوا كقوة ضاربة في العاصمة بسبب متانة التعاون بينهم وبين عناصر الجماعة المقاتلة المنتشرين بأسلحتهم الثقيلة وآلياتهم الحربية، في الضواحي. وكشفت مظاهرات تلك الليلة أن تركز قوات «المقاتلة» المتعاونة مع الإخوان، أصبح محصورا في ضاحية سوق الخميس.
وأشاع بعض زعماء جماعة الإخوان أدبيات في اجتماع الليل المشار إليه، تتحدث عن أن الجماعة لا علاقة لها بما يجري في الضواحي الطرابلسية الغاضبة. وأن المشكلة هي بين أهالي العاصمة، والسراج. لكن ظهر من بين قادة الجماعة أن هناك من يدرك خطورة الوضع في طرابلس، متذكرا في هذا السياق ما حدث للجماعة في مصر إبان حكم مرسي. وكان من بين هؤلاء المتوجسين قيادي إخواني يدعى السباعي، وهو رجل يعيش بعيدا عن الأضواء، لكن لديه خبرة كبيرة في كواليس الجماعة، خاصة أنه عايش أيام انهيار سلطة الإخوان في القاهرة في 2013.
وقال أحد قادة الإخوان في مناقشة عاصفة: «أنتم تقولون إن سبب خروج الناس للتظاهر في الشوارع في هذا الليل، يعود لسياسات السراج، لكن أنا أقول لكم إن سكان طرابلس يعتبرونكم شركاء في قرارات الحكومة التي أدت لتدهور أوضاع المدينة».
ورد قيادي إخواني متشدد من مجلس الدولة: «إذا لم يتم وقف هذه المظاهرات فسوف تصل إلى كل مكان في طرابلس. إذا تشجعت وانتشرت فلن يستطيع أحد أن يتصدى لها. هذه التحركات تؤدي لأعمال عنف وينبغي القضاء عليها في المهد». وكان من بين الحضور في اجتماع آخر قيادي أمني محسوب على الجماعات المتطرفة، ويعمل ضمن منظومة تابعة للمجلس الرئاسي. وأخذ يردد مقولات عن أن المشاركين في المظاهرات «يحاربون الله ورسوله»، والرد عليهم يكون بأن «يقتلوا أو يصلبوا».
ومن جانبه قرر السراج تشكيل غرفـة عمليات داخل المجلس الرئاسي، ودعا لزيادة حالة الطوارئ ومنع التجوال في الضواحي التي تحرض ضد الحكومة. وتعد قوات ضاحية «سوق الجمعة» ذات ولاء كبير للسراج حتى الآن، مع جانب من قوات «تاجوراء».
وفيما بعد، أي يوم الأحد الماضي، أعلن السراج عن صورة قاتمة قد تستمر في طرابلس. وكان يحاول بشكل غير مباشر تهدئة الرأي العام في العاصمة. لكن بعض مستشاريه رأوا أن كلماته بهذا الخصوص أدت إلى زيادة غضب الشارع. ومما قاله إنه «في حال عدم تعاون جميع المناطق والبلديات فإن مشكلة التيار الكهربائي ستتفاقم»، وإنه «إذا لم يتم تنفيذ تعليمات الشركة العامة للكهرباء فإن الشبكة سوف تنهار بالكامل».
وتعاني شبكة الكهرباء من حالة من الضعف منذ سقوط نظام القذافي حتى اليوم. والغريب أن هذه المشكلة عانى منها العراق منذ سقوط نظام صدام حسين حتى الآن. ويتشابه البلدان في أنهما من الدول الغنية بالنفط. ويقول مسؤول في مكتب المهندس مصطفى صنع الله، رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية الليبية للنفط، إن الوقود في ليبيا متوفر لتشغيل جميع محطات الكهرباء، وإن المشكلة تكمن في ضعف الشبكات وعدم جاهزية المحطات، رغم إنفاق مليارات الدولارات على قطاع الكهرباء خلال السنوات السبع الماضية.

[caption id="attachment_55267828" align="alignright" width="300"]أحد أفراد الجيش الوطني الليبي يطلق بندقية آلية خلال اشتباكات مع مسلحين في حي أخريبش وسط بنغازي في 19 يوليو (تموز) 2017 (أ.ف.ب). أحد أفراد الجيش الوطني الليبي يطلق بندقية آلية خلال اشتباكات مع مسلحين في حي أخريبش وسط بنغازي في 19 يوليو (تموز) 2017 (أ.ف.ب).[/caption]

ويقول أحد المشاركين في المظاهرات: «لقد تحملنا ما لا يتحمله الحجر... لا خبز ولا كهرباء ولا رواتب. هذه أبسط حقوق لنا. والضغط يولد الانفجار. بلادنا تصدر البترول والحكومة أنفقت نحو 300 مليار دينار، ولا نجد الطحين ولا أي خدمات. والصيدليات أغلقت أبوابها منذ أسابيع بسبب انقطاع الكهرباء وفساد ما لديها من أدوية في حر الصيف».
وفي المقابل اعتبر عضو في المجلس الرئاسي أن زميله، المجبري، وراء تحريض المتظاهرين. كما اعتبر أن هناك مسؤولين محليين في العاصمة يحرضون ضد اتفاقيات عسكرية واقتصادية وقعتها الحكومة مع الجانب الإيطالي خلال الشهور القليلة الماضية. ويعتبر المتظاهرون مثل هذه الاتفاقيات عودة للاستعمار الإيطالي إلى ليبيا، كما كان الحال في النصف الأول من القرن الماضي.
وفي يوم الجمعة، موعد المظاهرات التي لم تكتمل، بدا أن هناك تفاوتا واختلافا في تعامل «الأمن» مع النشطاء الذين دعوا للخروج في ساحة الشهداء ضد حكومة السراج ومجلس الإخوان. فالفريق الأمني الأول يضم شخصيات غير عسكرية، معظمهم من «المجاهدين السابقين في أفغانستان»، وهؤلاء «مع إطلاق النار على أي مظاهرة ضد الدولة».
والفريق الثاني يضم رجال أمن محترفين كانوا يعملون في نظام القذافي، وهؤلاء مع حماية المظاهرات. وينظر إليهم الفريق الأول باعتبارهم «منحازين للمتظاهرين ومع النظام السابق». ولا يوجد تنسيق يذكر بين الفريقين. وفي كثير من الأحيان يتهم كل منهما الآخر بالتواطؤ.
وبدأ الفريق الأمني «الجهادي» يتخذ إجراءاته... وقرر ملاحقة اثنين من أنصار النظام السابق، قال إنهما يتخذان من غرفة عمليات قرب الحدود مع تونس، مركزا لإثارة الناس في العاصمة الليبية وإطلاق المظاهرات. ويقول مصدر أمني إن هذين الشخصين المعنيين هما شاب يلقب بـ«العيدودي» والثاني بـ«الكوني».
لكن مكتب العميد الرجباني، الذي يعادي المتطرفين بشكل عام، كما كان يفعل نظام القذافي، قدم تقريرا سريعا قال فيه إن مزاعم «الفريق الأمني الجهادي» غير صحيحة، لأن «العيدودي» طالب في كلية الطب، وحاصل على إيفاد للدراسة في بريطانيا، وليس له أي علاقة بالمتظاهرين. وأن «الكوني» موظف معروف بأنه بعيد عن أي أنشطة سياسية أو غير سياسية في طرابلس.

[caption id="attachment_55267829" align="alignleft" width="594"]عمال يملأون مولدات الكهرباء بالوقود في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ف.ب). عمال يملأون مولدات الكهرباء بالوقود في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ف.ب).[/caption]

ومع ذلك جرى التأشير من جانب الفريق الأمني الجهادي على إلغاء ابتعاث طالب الطب، وفصل الموظف المشار إليه، والأمر بإلقاء القبض عليهما. وفوق كل هذا تطورت الخلافات سريعا بين باقي الميليشيات في طرابلس.
ومن المعروف أن هناك ثلاث ميليشيات على الأقل، يعتمد عليها السراج في تأمين العاصمة، لديها اتجاه ديني مختلف عن اتجاه الإخوان. وهذه الميليشيات لم تعد على وفاق كبير مع السراج منذ شهور.
وفي المقابل يوجد تحالف قوي بين جماعة الإخوان والجماعة المقاتلة. وكان هناك تخوف من كل من الإخوان والمقاتلة من أن تنضم قوات التيار الديني المخالف لهما، بقواته، إلى تيار المتظاهرين، وهي قوات «التاجوري»، و«الككلي»، و«كارا». وبالتالي الانقلاب على السراج، في ظل حالة احتقان عامة ضد المجلس الرئاسي ومجلس الدولة.
ويبدو أن الجماعة الليبية المقاتلة، التي أسسها عبد الحكيم بلحاج في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، تعمل في الوقت الراهن بالتنسيق مع الإخوان ومع أطراف في المجلس الرئاسي. ويوجد لها عضو واحد على الأقل يعمل كنائب للسراج في المجلس المدعوم من الأمم المتحدة. كما يوجد لها أعضاء في مجلس الدولة الذي يرأسه المشري.
وفي تنسيق عملي بين الإخوان والمقاتلة، وأطراف في المجلس الرئاسي، جرى الاتفاق سريعا ليلة اندلاع المظاهرات على توجيه قوة من الجماعة المقاتلة لتأمين مقر المجلس الرئاسي ومقر مجلس الدولة. ومع ذلك لم تتوقف مخاوف الإخوان الذين جربوا في مصر طعم المظاهرات التي يمكن أن تعصف بالجميع كما حدث في 30 يونيو (حزيران) 2013.
لقد كانت ليلة طويلة ومعبأة بسحب من الريبة. ولم تبدأ تباشير فجر يوم الجمعة 20 يوليو تظهر إلا بعد أن وقعت أحداث كثيرة خلال ساعات، تمكنت فيها قوات موالية للسراج من سد مداخل وسط طرابلس، وحصر المظاهرات في الأحياء التي خرجت منها. المشكلة أن الشكوك زادت في تلك الليلة تجاه قادة لعدة قوات معتبرة، منها «قوة الردع» و«قوة مديرية الأمن»، وينظر إليهما، من جانب بعض زعماء المجلس الرئاسي ومجلس الدولة، بأنه لا يمكن تركهما ليتحكما في الشارع، لأنهما يمكن أن ينحازا للمتظاهرين.
وتتبع هاتان القوتان وزارة الداخلية اسميا، ويعملان بشكل مستقل إلى حد كبير. وقال قيادي في المجلس الرئاسي: «الوضع بالغ الخطورة وليس مطمئنا ولا ثقـة في عناصر معظم هذه القوات، فهم في نهاية المطاف ينتمون إلى الضواحي التي تريد الخروج في مظاهرات ضد مجلس السراج ومجلس المشري».
وظهرت في تلك الليلة أيضا مواجهة بين ضباط في إدارة مباحث العاصمة، ممن يعملون في موقعهم منذ عهد القذافي، وإدارة الأمن المنافسة التي يهيمن عليها «جهاديون». وحدث ذلك بعد الساعة الواحدة من فجر الجمعة 20 يوليو، حين وردت معلومات تفصيلية لإدارة المباحث عن أن ملثمين غير ليبيين مسلحين يتحدثون بلهجة تونسية وجزائرية، يقومون بإطلاق النار على المتظاهرين في النوفليين. وأن هذه المجموعة تتبع أحد أعضاء المجلس الرئاسي المنتمي للجماعة المقاتلة والمتعاون مع جماعة الإخوان.
وعلى الفور تمت مناقشة هذه المعلومات مع الفرع الأمني الجهادي. وجاءت منه إجابة صادمة للمباحث، وتقول هذه الإجابة إن استخدام السلاح مسموح به لفض التجمهر لأكثر من عشرة أشخاص. وإن المتظاهرين في النوفليين بالمئات.
ومنذ ليل الخميس 21 يوليو، بدأ شباب الضواحي يعدون لمظاهرات جديدة على أن تنطلق بشكل أكثر تنظيما يوم الجمعة 27 يوليو. وبمرور الأيام أخذ النشاط يتزايد مع استمرار تردي الخدمات وانقطاع الكهرباء الذي يستمر لعدة أيام. ونشط الحراك في ضواحٍ أخرى أكثر من السابق، مثل ضاحية تاجوراء التي تتمركز فيها قوات «التاجوري» ومنطقة الحي الإسلامي.

[caption id="attachment_55267830" align="alignright" width="594"]موظف في شركة «جنرال إلكتريك» يثبت كوابل في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ف.ب). موظف في شركة «جنرال إلكتريك» يثبت كوابل في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ف.ب).[/caption]

وفي أكبر تحد من جانب متظاهري الضواحي، للسلطات، تمكن نحو أربعمائة من التجمع في ميدان الشهداء عصر يوم الأحد الماضي، وقاموا بترديد الهتافات المعارضة. واكتفت قوات تأمين العاصمة بمراقبة الموقف حتى موعد انصرافهم مساء. وأعطى هذا تشجيعا لباقي النشطاء للحشد للأيام المقبلة.
وفي يوم الاثنين الماضي زاد عدد المناطق التي تشهد نوعا من الغليان الشعبي، وفقا لتقارير أمنية من مصادر عدة. ورصدت تلك التقارير مناطق محددة من بينها ضواحٍ تقع في وسط طرابلس، وقريبة من مقرات المجلس الرئاسي ومجلس الدولة، ومنها زاوية الدهماني، والظهرة، وفشلوم. أما في جنوب طرابلس فجرى رصد نشاط كبير للداعين للتظاهر، منها ضواحي «حي الأكواخ» و«حي دمشق» و«منطقة صلاح الدين» و«الهضبة على طريق المطار» و«العثمانية»، و«باب بن غشير»، وغيرها. أما في غرب طرابلس فتم رصد ضواحي «غوط الشعال» و«قرقارش» و«قرجي» و«قدح» و«الدريبي».
وعمل منظمو مظاهرات يوم الجمعة 20 يوليو، التي لم تتم، على ترتيبات جديدة ومختلفة ليوم الجمعة 27 يوليو، بحيث يكون الحراك مرنا. ويقول أحد مسؤولي هذا النشاط في النوفليين: «لن نعرض الأهالي الذين يريدون التعبير عن غضبهم لإطلاق النار عليهم من ميليشيات لا تخضع للحساب... ولهذا إذا وجدنا الميليشيات تقف ضدنا، سنعلن عن الدخول فيما بعد في عصيان مدني شامل في العاصمة».
وفي تحرك مقلق للمجلس الرئاسي ومجلس الدولة، شارك قادة لرابطة مشجعي النادي الأهلي في العاصمة الليبية، في اجتماع في «الحي الإسلامي»، في مقر أمام «مصنع التبغ»، بمشاركة قادة في ميليشيا «الككلي»، وذلك لبحث كيفية المشاركة في التحركات المناوئة للسلطات الحاكمة في طرابلس.
وتمتلك قوات الككلي أسلحة ثقيلة منها دبابات ويتركز وجوده في ضاحية أبو سليم. وفي أحدث تطور جرى قبل يومين، قرر المجلس الرئاسي تفعيل خطة قديمة لتأمين طرابلس، لكن وزير الداخلية في حكومة هذا المجلس، قدم تقريرا يقول فيه إن هذه الخطة تصلح في التصدي لمن يسعون لمهاجمة طرابلس من خارجها، وأنها لم تكن أبداً موضوعة للوقوف ضد تحرك الأهالي من داخل أحياء العاصمة نفسها.
font change