كلام في "الربيع العربي"

كلام في "الربيع العربي"

[caption id="attachment_55242449" align="aligncenter" width="620"]رسم حائطي يعلن نهاية الجماهيرية ومولد دولة ليبيا رسم حائطي يعلن نهاية الجماهيرية ومولد دولة ليبيا[/caption]




من أجمل الكلام الذي قيل في معنى الربيع (الفصل)، لا الربيع (الثوروي) قول الشاعر التشيلي الشهير ريكاردو بابلو نيرودا:
»لكم أن تقطفوا كل الأزاهير، وتبيدوا جميع الورود، لكنكم لا تستطيعون إيقاف الربيع«.
كنا نتمنى أن يكون ربيعا عربيا حقيقيا بعد أن تخلصت بلدان عربية معيّنة من مستبدين من طراز رفيع.

لقد قطف المنتفضون في البلاد العربية، كل الأوراد، وأساؤوا استعمال القوة، وقتلوا وكسّروا ودمروا وخربوا، وانتقموا بلا وازع من ضمير ومن دون رحمة ولا شفقة. لكأنك تشاهد أجنادا مغولية أو فايكانغية جاؤوا لعالم متحضر فجأة، وأخذوا يعبثون به، وينشرون الدمار في كل مكان.
وأنت تنظر لهذه الفوضى العارمة والدمار الماثل، لا يسعك إلا أن تتحسر على ما آلت إليه الأمور في هذه البلدان التي اجتاحها هذا »الصقيع«.

قطف هذا »الصقيع« الذي يسمونه »ربيعا« كل الأزاهير، وقضى على ربيع كانت بدايته عظيمة. خرب هؤلاء الفوضويون انتفاضة الملايين الهادرة، وأنهوها بمذابح انعكست انعكاسا سيئا على صورة العرب وشوهتها تشويها مروعا.
انتفاضة بنغازي في ليبيا كانت رائعة، أوقدتها أمهات الذين سجنوا ثم قتلوا ظلما في »أبوسليم«. وعلى الرغم من أن ليبيا نارها تحت الرماد منذ عام 1977، إلا أن هذه الحادثة التي قتل فيها أكثر من ألف ومائتين دفعة واحدة في يوم واحد، بل في ساعات معدودات، أججت الانتفاضة. فأسر الضحايا كان إضرابهم واضحا منذ عام 1996، كل يوم سبت، يبحثون عن العدالة لأبنائهم، إلا أن النظام حاول إغراءهم مرارا، لكنهم ظلوا مضربين، مطالبين على الأقل بجثت أبنائهم لا غير، لكن النظام تغاضى عن ذلك وتجاهل هذا الأمر.

كان بإمكان الانتفاضة الليبية أن تكون مضرب الأمثال، لو أن المنتفضين تحلوا بشيء من أخلاق العصر الحديث، وأظهروا للعالم شيئا من التحضر، ونأوا بأنفسهم عن العنف الذي لم يكن ضروريا بأي حال من الأحوال. ومهما تكن الذريعة، فإن طريقة الانتقام التي اعتمدت كانت بكل المقاييس طريقة وحشية أساءت كثيرا لجوهر الانتفاضة وحجتها القوية في التخلص من الاستبداد، وإزالة النرجسية المقيتة، وإعادة البلد المخطوف المرهق إلى أهله.

لقد كانت فرصة عظيمة لبلد كان يسعى معظم أفراده للخلاص من ربقة الرجل الواحد وحكمه، الذي كان الناس فيه يصبحون ويمسون في هذه الرقعة من العالم على قرارات مزاجية. ولكن المنتفضين ضيعوا الفرصة الذهبية، وأوقعوا البلاد في »حيص بيص«، وأعادوها إلى زمن الناقة الجرباء.. ناقة البسوس.
هؤلاء الفوضويون الذين أساؤوا كثيرا للإسلام، وفضلوا الروح الانتقامية، وضعوا البلد من دون أن يدروا في مهب الريح.. في ثارات وقودها الناس والحجارة.. في مصائب كان البلد في غنى عنها، ويحتاج الآن إلى قرون لوأدها.. وكانت الفرصة سانحة لدفنها في وقتها، وإنهائها في مهدها، لكن الفوضويين كانوا هم الغالبين.

كان التخلص من نيرون العصر الحديث في ليبيا، حلما بعيد المنال، يطمع إليه معظم الليبيين، فالرجل كان قد وصل إلى مرحلة من التضييق على الليبيين بشكل لم يكن مطاقا، وكان يتعمد هذا الأمر في إصرار لا حدود له، وأطلق العنان لأولاده لفعل ما يشاؤون. وبخاصة بعد أن هادن الغرب وسلم أسلحته الفتاكة لهم.
ولكن أن تتخلص ليبيا من الاستبداد والتسلط، لتقع في براثن الأسود والضواري، وهيمنة القبائل، وشريعة الغاب، فهذا أمر لا يستأهل أن يضيع فيه الليبيون ثلاثين ألفا من أبنائهم، وكانوا قد ثاروا لـ1200 سجين، ولم يصلوا إلى ما كانوا يطمحون إليه.

قلبي على ليبيا الذي أضاعها الفوضويون..
كان قدر ليبيا أن يتسيّدها الفوضويون في عام 1969، لكنها تمكنت بعد هذه المعاناة من أن تتنفس الصعداء برهة في فبراير (شباط) 2011، إلا أنها مع الأسف انتهت إلى النهاية نفسها.
لماذا نسعى إلى التغيير إذا كان هدفنا الدمار؟
لماذا نطمح إلى التغيير إذا كانت نفوسنا مثل أنفس الذين كانوا قبلنا في الحكم؟
لماذا نريد التغيير إذا كنا نحمل الأحكام والمقاييس والأفكار؟ ماذا جنينا من هذا التغيير؟
ما فائدة هذا التغيير إذا أغرقنا بلداننا في مزيد من الفوضى، وحولناها إلى صراع قبلي مدمر؟
بعض البلدان حباها الله بالخير العميم، لكنها تتعامى عن هذا، وتخلق لنفسها الصعاب.

الفوضويون في ليبيا ساقوا بلدهم إلى المجهول، وأوقدوا نيرانا للحرب، وحتى وإن هدأت هذه النيران تحت الرماد، فإن بركانها سيثور يوما ما.
قلوبنا مع الأجيال المقبلة، لقد ورثها »الربيع العربي« مصائب لا حدود لها.
ماذا يريد أصحاب هذا »الصقيع« الذي يسمونه ربيعا؟
أمام هذه الصورة المأساوية الملطخة التي يلفها السواد من كل جانب، ينبغي أن يجلس الناس على طاولة الحوار، فلعل معجزة ما تنبجس من أفكار العقلاء!

يقول الشاعر علي الرقيعي مناجيا ليبيا:
أحن إليك وفي خاطري ألف رؤيا...
سأسردها مرة في الليالي عليك...
إذا ما رجعت إليك...
وأختمها أنا:
لأني أحن إليك..
فلا تجعلي اليأس يا بلدي..
يُمدّ يديه إليك...
خذيني إليك.. وداوي جراحك..
فإني منذ عشرين عاما..
أحن إليك...
وأطمح أن أكتب الشعر بين يديك...
font change