إنه ليس ربيعًا تركيًّا..

إنه ليس ربيعًا تركيًّا..

[caption id="attachment_55245767" align="aligncenter" width="620"]المظاهرات في الشارع التركي هم تعبير عن عجز المعارضة دستورياً وقانونياً للإطاحة بحكومة أردوغان المظاهرات في الشارع التركي هم تعبير عن عجز المعارضة دستورياً وقانونياً للإطاحة بحكومة أردوغان[/caption]

حملت معظم المقاربات التي جرت حول الوضع التركي في الأيام القليلة الماضية في الإعلام العربي والأجنبي في مغالطات كبيرة مردها القياس على ما جرى ويجري في عدد من البلدان العربية، حيث ربط هؤلاء بين ما يسمى الربيع العربي وما سموه ربيعًا تركيًّا. وإن كان البعض تفهّم ذلك على اعتبار أنّ هناك معطيات موضوعية ساهمت في خلق مثل هذا التصور بعيدًا عن الانتماءات الأيديولوجيّة لدى البعض، ومنها سطحيّة المعرفة بالوضع التركي الداخلي، عدم تغطية وسائل الإعلام التركيّة المهمّة للحدث في بدايته إمّا نتيجة سوء تقديرها لما يجري، أو رغبة منها في عدم إعطائه أهمية كبيرة، فإن آخرين استهجنوا هذه المقاربة.



وقائع ما جرى في ميدان تقسيم




بدأ الأمر باعتراض على مشروع كانت بلدية إسطنبول وافقت عليه (بإجماع الحكومة والمعارضة) في موقع "جزي بارك" يتضمن من بين ما يتضمن إعادة بناء معلم تاريخي من العهد العثماني كان قد أزيل في عهد الجمهورية في عام 1940 من القرن الماضي.
اعترضت مجموعات من أنصار حماية البيئة والخضر على هذا المشروع عند بدء التنفيذ على اعتبار أنّ ذلك من شأنه أن يقلل من الأشجار في المنطقة، ويؤذي البيئة في إسطنبول، وقد جوبهت اعتراضات بضعة مئات من هؤلاء بقسوة من قبل الشرطة التي استخدمت غاز الفلفل الحار، والغازات المسيلة للدموع دون مبرر.
لقد انضم حشد كبير من الشيوعيين واليساريين الراديكاليين المعروفين بقدرتهم على الحشد والتنظيم في حركات الاحتجاج؛ وذلك للاعتراض على أسلوب الشرطة، ثم ما لبث أن انضمت المعارضة السياسية وعلى رأسها الحزب الجمهوري والحزب القومي، فتحوّل الموضوع عند هذا الحد من موضوع يتعلّق بالبيئة وبضعة أشجار إلى موضوع سياسي يهدف إلى تصفية حسابات سياسيّة مع الحكومة.
ثم ما لبث أن تحول إلى اعتراض على قرارات الحكومة الأخيرة بشأن إعادة هذا المعلم العثماني إلى المكان، واحتجاج ضد قرارات الحكومة حول تنظيم بيع الكحول، وقرارات تتعلق بالمنهج الدراسي، وقرارات أخرى رأوا فيها -كما يقولون- توجهًا لـ"أسلمة الدولة"، فدخل الشق الأيديولوجي إلى المعادلة (علماني- إسلامي)، وامتدت التظاهرات إلى عدد من المدن التركيّة الأخرى.



[blockquote]من السذاجة القول بأن المظاهرات ستطيح بحكومة أردوغان، المتظاهرون ليسوا بالحجم أو التمثيل الذي يعتقده من هو موجود خارج تركيا، والآن يمكن القول أنها في طور الانتهاء منذ يوم الأحد الكبير.[/blockquote]




أردوغان يصر.. الحكومة تتراجع




لقد أصرّ أردوغان هنا على موقفه في عدم التراجع، فبلغت المظاهرات أوجها يوم الأحد، وتطورت الأمور وتحوّلت إلى تخريب للممتلكات العامة والخاصة، وتخطٍّ للحدود القانونية، وتجاوزت التظاهرات السبب الأساسي لها، فتخلخلت مكونات المظاهرات، وانسحب منها -على سبيل المثال- الحزب القومي المعارض معللاً انسحابه بانحراف المظاهرات، وتشويه صورة تركيا، ووجود أجندات خاصة.
وقد ترافق ذلك أيضًا مع اتخاذ الحكومة خطوات لاحتواء الموقف على الرغم من خطاب أردوغان العالي، ومنها اعترافها بالاستخدام المفرط للغاز في مواجهة المحتجين وإعلان اعتراضها، وإجراء تحقيقات في وزارة الداخلية، والتأكيد أنه إذا كان الموضوع موضوع أشجار فسيتم زرع آلاف الأشجار كبديل عنها كما صرح بذلك رئيس بلديّة إسطنبول، كما تمّ التأكيد على أنّ حق التظاهر مكفول، ومنح ترخيص لكل من يريد أن يتظاهر، وتم سحب الشرطة من ميدان تقسيم حتى تصبح الكرة في ملعب المتظاهرين، ويتحملون المسؤولية عن أعمالهم.

في مرحلة لاحقة، دخل رئيس الجمهورية على الخط أيضًا للمساهمة في تطويق ما يجري، وتراجعت الحكومة خطوة أخرى مع خطاب نائب رئيس الوزراء "بولنت ارينج" الذي أعلن فيه عن اعتذاره من الدفعة الأولى من المتظاهرين المتمثلة بأنصار البيئة، كما شكرا الأحزاب المعارضة ممثلة بالحزب القومي وحزب السلام والديمقراطية على موقفهم المسئول، تبع ذلك انسحاب الحزب الجمهوري من التظاهرات بعدما اعترف أيضًا بأن التظاهرات أساءت إلى تركيا، وبقي في المشهد بذلك من هم خارج البرلمان، أي متطرفو اليسار والشيوعيون الذين لم يستطيعوا خلال العقد الماضي التأهل إلى البرلمان، وبالتالي ليس لديهم قنوات رسمية للمعارضة، ويفضلون التعبير عن أنفسهم دومًا بمظاهرات واحتجاجات على الشكل الحالي تقليديًّا. وقد تقلصت بعد ذلك التظاهرات إلى أقصى حد ممكن.



حزب العدالة .. تضخم القوة




تقليديًّا وخلال حوالي عقد من الزمان في الحكم، كان حزب العدالة والتنمية يراعي المواضيع ذات الحساسيّة العالية في المجتمع، فلا يتجه إلى استعجال اتخاذ قرارات في مسائل جدلية أو حسّاسة على الرغم من أنه الحزب الوحيد الذي استطاع خلال تاريخ الجمهورية التركية الحديثة الحصول على أغلبية في البرلمان تخوّله القيام بذلك.
فقد كان الحزب يفضّل التروّي وتوسيع دائرة الاستشارات قبل المضي قدمًا، أما إذا كان الموضوع شديد الحساسيّة أو مثيرًا للمشاكل فقد كان يقوم بتأجيله أو وضعه في الدرج، لكن مع إعادة انتخاب حزب العدالة المرة تلو الأخرى، وتقلّص قاعدة المعارضة شعبيًّا وتشتتها وعدم وجود أي برنامج واضح لها، وضعفها سياسيًّا وشعبيًّا، فقد شعر بعض النافذين في الحزب بقدرتهم على المضي قدمًا من دون أخذ حسابات الآخرين في الاعتبار.

[caption id="attachment_55245639" align="alignleft" width="300"]رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان[/caption]
[blockquote]هناك بعض الانتقادات داخل حزب العدالة والتنمية والتي تتم همسًا منذ فترة (حتى قبل التظاهرات الأخيرة) حول طبيعة تعامل أردوغان الشخصية مع بعض المسائل المحددة، والتي تحتاج غالبًا إلى ليونة.[/blockquote]

وبهذا المعنى، فإن المعارضة السيئة والضعيفة ولّدت لدى الطرف الحاكم شعورًا أكثر ثقة بالقوّة والحكم، وتراجعًا في حس الخوف من إمكانية أن يفقد السلطة. وإحدى الملاحظات المأخوذة على حزب العدالة والتنمية أنه وقع ضحية إنجازاته السابقة، ولأنه لا يوجد معارضة بناءة له أو قوية فإن قوته وسلطاته تزداد يومًا بعد يوم مقارنة بالمرحلة السابقة، وقد دفعه ذلك إلى التكاسل وإلى إهمال رأي المعارضين أو الأقلية؛ لأنهم غير قادرين على تغيير المعادلة.
هناك بعض الانتقادات داخل حزب العدالة والتنمية والتي تتم همسًا منذ فترة (حتى قبل التظاهرات الأخيرة) حول طبيعة تعامل أردوغان الشخصية مع بعض المسائل المحددة، والتي تحتاج غالبًا إلى ليونة، لكن ذلك لا يعد خروجًا عن إطار الحزب الذي يلتزمون به بشكل عام، علمًا أنّ الأزمة الأخيرة أظهرت أنّ هناك الكثير من المسئولين العقلاء داخل حزب العدالة والتنمية.



هل سيطيح الشارع بحكومة أردوغان؟




من السذاجة القول بذلك، المتظاهرون ليسوا بالحجم أو التمثيل الذي يعتقده من هو موجود خارج تركيا، والآن يمكن القول أنها في طور الانتهاء منذ يوم الأحد الكبير، فالأعداد في تراجع كبير، وتكاد تكون محصورة في ساعات معيّنة فقط في آخر المساء.
ولا يمكن مما ذكر أعلاه أن نقول إن المعارضة موحدة حول الموضوع حتى، فالأمر يعتمد على المواضيع التي يتم مناقشتها. على سبيل المثال، حزب السلام والديمقراطية (الحزب الكردي في البرلمان) لم يشارك في التظاهرات؛ لأنه ليس لديه مصلحة، ولأن هناك عملية مصالحة جارية في الملف الكردي يقودها حزب العدالة والتنمية.
قانونًا لا تمتلك المعارضة القدرة على إسقاط الحكومة في الشارع؛ لأن في تركيا مؤسسات ديمقراطية تسمح بالتعبير عن ذلك من خلال الأدوات الدستوريّة، ولأن مؤسساتها تعمل بشكل جيد، ولأن هناك فصلاً في السلطات، فإسقاط الحكومة يتم من خلال الطرق الدستورية من خلال حجب الثقة أو تغيير تركيبة البرلمان الذي تتغير الحكومة على إثره.

ويبدو أنّ التحدي السياسي قد تم تأجيله إلى الانتخابات القادمة عندما تحدى رئيس الحكومة معارضيه بأنّهم إذا كانوا قادرين على الحشد، فليحشدوا في صندوق الاقتراع. الأكيد أنّ المعارضة سجّلت عدّة نقاط على حساب حزب العدالة والتنمية في عدد من الملفات الخارجية والداخلية خلال المرحلة السابقة والحالية، لكن هل ستكون هذه النقاط كافية لقلب المعادلة الانتخابية خلال الانتخابات القادمة؟ هذا سيكون جوابه عبر مدى قدرتهم على حشد أنصار لهم، والحصول على دعم الشرائح التي في الوسط، أو المترددة في مقابل شرط تخلي هذه الشرائح عن حزب العدالة والتنمية، لكن المتابعين وإن طرحوا إمكانية تدني شعبية حزب العدالة، إلا أنّ إمكانية أن تفوز المعارضة أو تعزز مواقعها يبدو صعبًا للغاية إن لم يكن مستحيلاً في ظل الأداء الحالي لها.
font change