تحليل السمات الشخصيَّة والنفسيَّة للقيادة التركيَّة

تحليل السمات الشخصيَّة والنفسيَّة للقيادة التركيَّة

[caption id="attachment_55250336" align="aligncenter" width="620"]رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان .. والرئيس التركي عبدالله غول رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان .. والرئيس التركي عبدالله غول[/caption]

يحلو للكثيرين وصف غول بأنّه عقل لشخصيّة أردوغان العاطفيّة، هذه الوصفة التي تجمع بين الحكمة والشعبويّة حققت إنجازات كبيرة في بداية مشوار الصديقين في المجال السياسي، لاسيما بعد تأسيس خط مستقل عن خط "أبو الإسلام السياسي" في تركيا البروفيسور نجم الدين أربكان.

لقد أتاح أربكان لكلا الرجلين فرصة المشاركة عبر الأحزاب السياسيّة المختلفة التي أسسها في اختبار الحياة السياسيّة بشكل أعمق وأكبر، لكنّ كليهما أيضًا خرجا فيما بعد عن خطّه لما اعتبراه غيابًا للواقعيّة في التعامل مع التطورات في البلاد وغيابًا للبراجماتيّة، وطغيانًا للمنحى الديني على السياسي في الحزب الذي من المفترض له أن يمارس العمل السياسي أوّلاً، ويتجاوز العقبات المتكررة التي تواجهه، لا أن يصطدم بها مرارًا في تكرار رتيب للأحداث، لا يغيّر من واقع الأمر شيئًا في البلاد، ولا يكسر من هذه الحلقة المفرغة.
ويُنقل عن غول أنّه قال في تبرير الانشقاق عن خط أربكان: "في حزب الرفاه كانت هناك مجموعات تطالب بحكم الشريعة. الرفاه لم يمثّل القيم المحليّة السائدة... نحن نؤمن أنّ الحداثة وكون المرء مسلمًا يكمّلان بعضهما البعض. نحن نقبل القيم الليبرالية الحديثة، وحقوق الإنسان، واقتصاد السوق".

في العام 2001، أسس الرجلان مع مجموعة من الشخصيّات من انتماءات مختلفة ومتعددة حزب العدالة والتنمية. وعكس ما هو شائع في العالم العربي من أن حزب العدالة والتنمية هو حزب إسلامي، فإن الحزب يصنّف على أنّه حزب ديمقراطي محافظ من أحزاب وسط اليمين. ومنذ انتصار الحزب في الانتخابات عام 2002 وحتى اليوم، احتل الرجلان مواقع متقدّمة داخل النظام السياسي التركي.

شغل عبدالله غول موقع أوّل رئيس وزراء لحزب العدالة والتنمية في عام 2002، ولكن بعد مضي أقل من نصف عام له في هذا المنصب، وفي إشارة لمدى إخلاصه للمبادئ المشتركة التي تجمعه مع أردوغان، قام غول بالتنحي عن منصبه لصالح الأخير إثر دخوله البرلمان مباشرة، بعدما تمّ رفع الحظر المفروض عليه.

عمل غول بعد ذلك في منصب وزير الخارجية حتى عام 2007، حيث قام أردوغان بدوره برد الجميل له، ودعمه لمنصب رئاسة الجمهوريّة في ذلك العام، وخاض من أجله معركة قاسيّة عندما رفضت الأحزاب السياسيّة المعارضة والجيش بشكل ضمني ترشّحه لأسباب كثيرة؛ من بينها زوجته المحجّبة وخلفيته الإسلامية، ونشر الجيش آنذاك على موقعه الإلكتروني بيانًا مثيرًا للجدل مذكّرًا بدوره كحامي لعلمانيّة الدولة.

لكن منذ العام 2007 وحتى اليوم، حصلت الكثير من التطورات التي استلزمت مواقف مغايرة من الرجلين تجاه قضايا معيّنة، وهو ما أظهر نوعًا من التمايز أو الاختلاف بينهما سواءً على المستوى الداخلي أو الخارجي للبلاد. صحيح أنّ كليهما يتمتع بخلفية دينية إسلامية محافظة معتدلة في المعيار التركي، وكلاهما يتمتع بتحصيل أكاديمي عالٍ، وبخبرة سياسية طويلة. لكن من الواضح أنّ أردوغان متمرس أكثر في المسار الشعبي، فيما غول متمرس أكثر في المسار النخبوي، كما أنّ سفر غول لكل من إنجلترا والسعودية قد وسّع آفاقه ومداركه الثقافية والفكرية مقارنة بأردوغان الذي تميّز بقدرة أكبر على إدراك متطلبات الشارع وأمانيه، والعمل على ملاحقتها حتى تحقيقها.

إن هكذا مميزات تجعل من خلفية الرجلين مختلفة، ولعلّ هذا الاختلاف الذي يخدم التكامل ويشبه التناغم بين القلب والعقل هو ما أهّلهما ليلتقيا على طريق واحد منذ عقود، ولكن ريما هو نفس السبب الذي قد يجعلهما يفترقان مستقبلاً.




الخلفيّة الثقافية والمعرفيّة والإداريّة





رجب طيب أردوغان هو نموذج للإنسان الكادح الذي كان يتوجب عليه أن يشق طريقه بنفسه بين حقل من الألغام والحفر والعوائق الممتدة على طول دربه في الحياة حتى يصل إلى ما وصل إليه اليوم. فهو من بيئة ملتزمة دينيًّا، وأسرة فقيرة ومتواضعة، وعلى الرغم من ذلك، لم يثنه هذا الحال عن تحقيق طموحه. يقال إنّ أردوغان كان يبيع حلقات الكعك بالسمسم المعروفة في تركيا باسم "سميت" في حي قاسم باشا في إسطنبول والأحياء المجاورة، ثم أصبح يعتمد على تحصيل دخله من خلال لعبة كرة القدم عندما أصبح لاعبًا في شبابه.

ويصف عدد ممن التقوا أردوغان بأنّه شخصية كارزميّة، شعبيّة، سريع البديهة، حاد الطباع، يمكن استفزازه بسرعة، شديد القرب من نبض الشارع. طباعه هذه هي في جزء منها نتاج الطريق الصعب الذي سلكه في حياته، والمحطات المهمّة والمفصليّة التي أثّرت به عندما كان شابًا، وعندما أصبح رئيسًا لبلدية إسطنبول (1994-1998) وعندما سُجن بسبب قصيدة ألقاها في العام 1998.

وعلى الرغم من تخرجه في كلية العلوم الاقتصادية والتجارية في جامعة "مرمرة" في إسطنبول، إلا أنّ المرحلة السابقة لهذه المرحلة كانت الأكثر تأثيرًا في سلوكه وطباعه على ما يبدو. فقد اشتهر أردوغان بالخطابة والثقافة العامّة، وهي من نتاج مرحلة الثانوية العامة، حيث مدارس الأئمة الخطباء التي انتسب إليها، أمّا حسّه التنظيمي والإداري ودقّته فقد اكتسبها على ما يبدو من المرحلة الجامعيّة، وطورها في ممارساته العمليّة للمناصب التي تدرّج بها بشكل منتظم ومستمر من مجرّد عضو في لجنة الشبيبة في اتحاد الطلبة الوطني في السبعينات صعودًا حتى وصل إلى منصب رئيس بلدية إسطنبول أكبر بلدية في تركيا عام 1994.


[caption id="attachment_55250330" align="alignleft" width="199"]أردوغان وغول أردوغان وغول[/caption]

[blockquote]في برقية أمريكية سربتها وثائق "ويكليكس" تقول بأن غول بالنسبة للكثير من العلمانيين الكماليين في تركيا يعد شخصًا متسامحًا، ومن الممكن الاحتكاك به[/blockquote]




أمّا تجربته السياسيّة، فقد صقلها خلال تدرجه في المناصب في فرع الشباب في حزب السلامة الوطني في منطقة "باي أوغلو" ثم في حزب الرفاه من ممثل للحزب في المنطقة، إلى ممثل الحزب في المدينة، ثم إلى رئاسة الحزب في المدينة، ثم عضو اللجنة المركزية في الحزب، وظل مع أربكان في مختلف المراحل إلى حين انفصل عنه، وأسس مع آخرين حزب العدالة والتنمية عام 2011.

على الجهة المقابلة، تربى عبدالله غول في جو محافظ على الدين والقيم أيضًا، إلا أنّ والديه كانا على ما يبدو في وضع أيسر وأفضل نسبيًّا من والدي أردوغان من الناحية المالية. ولذلك فقد انكبّ غول في التركيز منذ صغره على متابعة تحصيله العلمي والأكاديمي إلى أن دخل جامعة إسطنبول لدراسة الاقتصاد. تخرّج فيها عام 1974، حيث عمل على الدراسة لسنتين أيضًا في جامعة "اكسيتر" في بريطانيا قبل أن يعود إلى تركيا من جديد لتدريس الإدارة، والمساهمة في إنشاء قسم الهندسة الصناعية فيما أصبح يعرف بعد ذلك بقسم (اي تي يو) بكليّة الهندسة في صاقاريا.

أمضى غول خمس سنوات يدرّس الاقتصاد لطلبة جامعة صاقاريا، وفي عام 1983 حصل على شهادة الدكتوراه من جامعته الأساسيّة، جامعة إسطنبول، لينتقل في نفس العام إلى جدّة في المملكة العربيّة السعودية، ويعمل كاقتصادي في بنك التنمية الإسلامي؛ لتكون بذلك أوّل وظيفة له في اختصاصه بعد حصوله على الدكتوراه. أمضى غول في المملكة العربيّة السعودية ثمانية أعوام حتى عام 1991، كان قد حصل خلالها أيضًا على مرتبة بروفيسور مساعد في الاقتصاد الدولي من جامعة إسطنبول.

وبخلاف أردوغان، فإن مسيرة غول الأكاديميّة والتعليميّة كان لها الأثر الأكبر في صياغة شخصيّته وسلوكه على ما يبدو، ناهيك عن أنّ رحلاته للغرب للتحصيل العلمي أو للشرق للعمل جعلته أكثر انفتاحًا واحتكاكًا مع الخارج، وأكثر فهمًا لطبيعة التنوّع الثقافي والغنى المعرفي، كما أمّنت له وظيفته شبكة علاقات خارجية وزيارات ساهمت في الانتقال من النظري إلى العملي، وفي تكون نظرته العمليّة بعد ذلك.

أمّا مسيرة غول السياسيّة، فهي محض صدفة وغير مخطط لها كما يُنقل عنه. صحيح أنّه أصبح خلال المرحلة الجامعية عضوًا في الاتحاد القومي للطلبة الأتراك ذي الصبغة القوميّة– الإسلاميّة فيما يعرف بخط الفيلسوف القومي الإسلامي نجيب فاضل، إلا أنّ دخوله قبّة البرلمان عام 1991 تحت مظلّة حزب الرفاه كان باقتراح من بعض أصدقائه وأهل قريته "قيصري"، وبقي منذ ذلك التاريخ وحتى أصبح رئيسًا للجمهورية عام 2007 ممثّلاً عن قريته في البرلمان التركي لخمس سنوات متتالية.



كلام الخفاء والوثائق السرية





تكشف لنا بعض البرقيّات الدبلوماسيّة التي نشرتها "ويكيليكس"، -والتي تمّ تصديرها في الغالب عن السفارة الأمريكية في أنقرة إلى واشنطن- بعض الخصائص الشخصيّة والنفسيّة لكل من عبدالله غول ورجب طيّب أردوغان خلال مراحل مختلفة كما يراها هؤلاء الدبلوماسيون.

وتكمن أهمّية هذا التقييم في أنّه يأتي بعيدًا عن الأضواء، ويكتب من قبل دبلوماسيين التقوا بالرجلين بشكل دوري، وقيّموا خصائص الرجلين بعيدًا عن العامّة، فتقييم خصائص الشخص ونفسيّته يعد لدى صنّاع القرار مفتاحًا مهمّا في السياسة والدبلوماسيّة لنجاح التواصل معه، أو ربما لنصب الأفخاخ له! فكيف إذا كان المعني بمنصب رئيس جمهورية ورئيس حكومة.

تشير برقيّة صادرة في 16 تشرين ثاني 2002، ونشرتها "ويكيليكس" إلى أنّ عبد الله غول يفهم العقليّة الأمريكيّة وأولويات السياسة الخارجيّة الأمريكيّة بشكل ممتاز، وهو شخص عقلاني ومنفتح على محاوريه الغربيين والإسلاميين. وتضيف البرقيّة أنّ لديه شخصيّة ملتزمة ومهذّبة ولبقة نابعة من تربيته المتواضعة والورعة جدًا.

وفي مكان آخر تشير البرقيّة نفسها إلى أنّ إيمان غول بالإسلام ثابت كالصخر لا يتزعزع كما هو الأمر ذاته بالنسبة إلى قناعاته. من السهل التعاطي معه في أخذ ورد سياسيًّا أو فكريًّا، ورغم ذلك فهو متمسك بمبادئه وصادق تجاه اعتقاده أنّ على تركيا أن تقبل المرأة المتحجّبة كعضو مشارك في المجتمع بشكل كامل. غول لديه مزاج هادئ، وحضور مماثل لشخصية الرئيس الراحل "تورغوت أوزال".

وفي برقيّة أخرى صادرة في نفس الشهر ولكن عن دبلوماسي آخر، فإن غول يُعتبر حتى بالنسبة للكثير من العلمانيين الكماليين في تركيا شخصًا متسامحًا، ومن الممكن الاحتكاك به. تُتابع، هذه الصفات تعكس أهمية الإسلام في عائلة غول، وهي مصدر للفضيلة ومفتاح للنجاح في السياسة التركيّة، ولتحقيق السلام الاجتماعي في تركيا، فهي تمثّل معنى أن تكون حداثيًّا وفي نفس الوقت تتطلّع للمستقبل مع التزام واحترام القيم الدينيّة والتقاليد.

وتصف برقيّة ثالثة في 29 آب/أغسطس 2007، مباشرة بُعيد انتخاب غول رئيسًا للجمهورية- الرجل، بأنّه يعرف كيف يتحدّث عن الأمور بالشكل الذي يجعل المستمع ينصت إليه. ووفقًا لنفس البرقية، فإن غول، بخلاف أردوغان الذي تطغى عليه العاطفة، شخص حكيم وهادئ وبراغماتي ولكنّه يستطيع في نفس الوقت أن يوصل رسائل قاسية، وأن يحل العقد والمشاكل. فهو شخص يعرف كيف ينجز الأمور، ولكنّه في نفس الوقت لا يحب المواجهات ويسعى للتسوية.

على الجانب الآخر فيما يتعلّق برجب طيب أردوغان، ووفقًا لبرقيّة كتبها السفير الأمريكي في تركيا بتاريخ 20 كانوان ثاني / يناير 2004، ونشرتها "ويكيليكس"، فإن هناك خمس سلبيات في سلوك أردوغان تؤثر بشكل سلبي على قدرته في حكم تركيا بفعاليّة. ويشير السفير الأمريكي إلى هذه الصفات وفق وجهة نظره طبعًا بالقول: الفخر الزائد عن حدّه، طموح جامح ينبع من الاعتقاد بأنّه اختير في مهمة إلهيّة لقيادة تركيا، وجود نزعة تسلّطية تمنع من تواجد مجموعة من المستشارين الأكفاء والماهرين حوله، وتعيق وصول المعلومات المناسبة، وتمنع من تواصل مكاتب الحزب، الحكومة والبرلمان بشكل فعال.

بالإضافة إلى ذلك، تذكر برقيّة السفير الأمريكي أنّ لدى أردوغان رغبة قويّة في البقاء في السلطة مما يجعله يتردد ويماطل في لحظات تستوجب اتخاذ قرارات سريعة وحازمة، مضيفة أنّه لا يولي المرأة الأهميّة المطلوبة.

فيما تؤكد برقية ثانية كتبت في 26 تموز/يوليو 2007، من شخص يبدو على تواصل دائم ومستمر مع أردوغان بشكل يومي أنّ رئيس الوزراء شخص مدمن على العمل، يسعى للكمال، ومنصف جدًا للعاملين معه. وبعيدًا عن التعامل الشخصي معه، فهو إنسان عنيد جدًا.




[blockquote]ذهاب غول للدراسة في بريطانيا ثم العمل في السعودية أكسبه قدرة على فهم جيد للشرق والغرب[/blockquote]





وتشير برقيّة أخرى صادرة عن السفارة الأمريكية في أنقرة بتاريخ تشرين أول 2009، إلى أنّ الجانب العاطفي في شخصيّة أردوغان يؤثّر على قراراته. إذ تنقل الوثيقة عن السفير الإسرائيلي "جابي ليفي" قوله: إن تردي العلاقات بين تركيا وإسرائيل لا يعود إلى حسابات أردوغان السياسيّة، وإنما إلى كراهيته الحقيقيّة لإسرائيل من خلفيته الدينيّة.



تكامل أم تصادم بين الشخصيتين؟





تكشف لنا المعطيات أعلاه عن شخصيّة الرجلين وطريقة تفكيرهما وتعاطيهما مع المسائل عن مفارقة تكمن في أنّه بقدر ما تتيح هذه الصفات التكامل بينهما، بقدر ما قد تتحول في نفس الوقت إلى مصدر للتنافس أو الاختلاف أو التصادم ربما.

على أنّ هناك رأيًا سائدًا يقول: إنّ كلا الرجلين تولّيا خلال المرحلة السابقة المناصب المناسبة لشخصيّتهما. وأنّ هناك انسجامًا إلى حد كبير بين موقع كل منهما الآن في النظام السياسي، والمنصب الذي يمثّله، والوظيفة التي يمارسها بحكم الخصائص الشخصية والمهارات التي تتطلبها، سواء في رئاسة الجمهورية أو في رئاسة الحكومة.

إذ ترتبط تصرفات رئيس الجمهورية بمنصبه، فعلى الرغم من بعض الصلاحيات المهمة والمحدودة التي ترتبط بمنصب رئاسة الجمهورية في تركيا، إلا أنّ هذا المنصب يعدّ إلى حدّ بعيد منصبًا شرفيًّا. فمنصب رئيس الجمهورية يمثّل الجمهوريّة التركيّة بكل مكوّناتها، كما يمثّل رمز وحدة الأمّة التركيّة، ومن واجب الرئيس التركي أن يحرص على تطبيق دستور البلاد وعلى سلامة وتنظيم وتناغم العمل بين مختلف أجهزة الدولة. حتى يحق لمرشح ما أن يصبح رئيسًا للجمهورية، يجب أن يكون قد أنهى تعليمه العالي، وأن يكون قد بلغ 40 عامًا على الأقل، وأن يعلّق منصبه الحزبي أو البرلماني إذا كان لديه حتى يحق له أن يصبح رئيسًا.

هذه المتطلبات تفرض على الشخص الموجود في سدّة الرئاسة أن يكون أكثر دقّة في كلامه، وأكثر توازنا في مخاطبة الأفرقاء السياسيين، وأكثر حكمة في التعامل مع الأزمات، ناهيك عما يتطلبه المنصب من دبلوماسيّة ولباقة وإتقان لعدّة لغات لكونه يعدّ وجه تركيا على العالم الخارجي في المناسبات الاحتفاليّة والرسميّة والدبلوماسية. وهي كلها خصائص تتوافر في شخصيّة عبدالله غول بشكل أكبر من شخصية أردوغان، ولذلك فالمنصب بهذا التعريف يعدّ أكثر ملاءمة لشخصيّة غول منه إلى أردوغان.

وعلى الرغم من أنّ موقع رئاسة الحكومة لا بد له وأن يعكس شيئًا من هذه المفاهيم السامية والمتطلبات أعلاه إلا أنّه يرتبط أكثر بصفته التنفيذيّة التي لا تتطلب من شاغره الحيلولة بين نفسه وبين حزبه، فالمنصب يرتبط بذهنيّة التنافس الحزبي وبمعادلة الفائز والخاسر في الانتخابات في نهاية الأمر، وهو يؤثر ويتأثر بعملية التنافس الحزبي وبالاستقطاب السياسي في البلاد. صحيح أن طبيعة شخصية الرجل الذي يتولى المنصب قد تزيد من بروز هذه الاتجاهات أو انخفاضها، لكن لا يمكن أن تمحوها على الإطلاق، فهي ستظل ترتبط بمعادلة سلطة ومعارضة.

ووفقًا لبعض المقرّبين من غول وأردوغان، فما كان للأول أن ينجح فيما فعله الثاني خلال السنوات الماضية في رئاسة الحكومة لاسيما في الدورتين الأولى والثانية، فالأول لا يحبّذ المواجهات والحزم وهي من صفات الثاني الذي استعملها في عدّة مراحل مفصليّة خلال تلك الفترة، لكنّها سرعان ما تحوّلت إلى عامل سلبي بنظر الكثيرين. كما أنّ خطب الثاني الحماسية سواء عن الداخل التركي أو عن مواضيع خارجيّة يجب أن لا تفصل عن سياسة كسب المزيد من المؤيدين، فيما لا يعتبر الأول مسكونًا بهواجس هذه الحسابات، وبالتالي ليس مجبرًا على اتباع سياسات حماسية أو استقطابيّة.




تنافس على الرئاسة





قبيل اندلاع أحداث "جيزي بارك" في شهر أيار/ مايو عام 2013، كان هناك نيّة لتعديل النظام السياسي التركي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي من شأنه أن يعزز صلاحيات رئيس الجمهورية التنفيذيّة على حساب رئيس الحكومة في خطوة كان يُنظر إليها من قبل كثيرين على أنّها تمهد لترشّح أردوغان لهذا المنصب. وفيما كان مروجو هذا الطرح يقولون إنّ الهدف من النظام الرئاسي أنّه يؤّمن عادة الاستقرار السياسي بعيدًا عن التعطيل والشلل الذي يعتبر صفة الحكومات الائتلافية، كما أنّه يخدم فكرة فصل السلطات بشكل ممتاز، ويعطي زخمًا جديدًا للحركة الاقتصادية بما يؤمّنه من استقرار وسرعة في اتخاذ وتنفيذ القرارات.

لكن هذه المزايا نفسها التي يؤمّنها النظام الرئاسي هي ما كان يخشاه بالضبط المعارضون السياسيون لحزب العدالة والتنمية. إذ يعتقد هؤلاء أنّ هذه المزايا من شانها لو توافقت مع صعود أردوغان إلى سدّة الرئاسة أن تتسبب بكارثة لهم بما يعطيه المنصب من صلاحيات تنفيذية قوية وواسعة لأردوغان. فهذا السيناريو يعني القضاء على أيّة آمال لدى المعارضة التركيّة في التحوّل إلى فاعل أساسي في السلطة، ويعزز موقع أردوغان في النظام السياسي التركي بشكل غير مسبوق.

[caption id="attachment_55250334" align="alignleft" width="300"]ملصق ممزق لأرودغان وغول ملصق ممزق لأرودغان وغول[/caption]

[blockquote]تذكر برقيّة للسفير الأمريكي أنّ لدى أردوغان رغبة قويّة في البقاء في السلطة، وأنه لا يولي المرأة الأهميّة المطلوبة[/blockquote]

تسبب طرح الموضوع آنذاك بجدل كبير في العام 2012 عندما تمّت مناقشته على عدّة مستويات داخل حزب العدالة والتمنية وخارجه. وقد تزامن ذلك مع الترويج عن وجود نيّة لدى الرئيس غول للترشّح مرّة أخرى بعد انقضاء مدّته في منصب الرئاسة التركيّة. وقد عزّز من هذا الاحتمال قيام المحكمة الدستوريّة في أغسطس/ آب من العام 2012 بالسماح له بالترشّح إذا أراد وفق القانون الجديد المعمول به الآن عند انتهاء ولايته الحالية في عام 2014.

في السابق كان انتخاب الرئيس التركي يتم عبر البرلمان ولمدة 7 سنوات، لكن تمّ تعديل هذا القانون خلال تواجد غول في سدّة الرئاسة، فأصبح القانون يقضي بانتخاب الرئيس عبر الشعب مباشرة باقتراع عام لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط. وعندما أثير موضوع إمكانية ترشّح غول للرئاسة مرة أخرى بعد نهاية ولايته، ظهرت إشكالية تتعلق بمدى أحقّيته في فعل ذلك خاصة وأنّه انتخب بناءً على القانون القديم الذي يشير إلى أحقيّة شغله للمنصب لمرة واحدة فقط مدتها سبع سنوات. لكنّ قرار المحكمة أعطى غول ورقة إضافية للمناورة وللمنافسة في لعبة التوازنات السياسيّة القادمة.

وفقًا لاستطلاع رأي "لميتروبول" نشر في سبتمبر 2012، فإن مواجهة بين غول وأردوغان على سدّة الرئاسة ستنتهي بانتصار لصالح الأول بنسبة 51% من الأصوات في مقابل 23% لصالح الثاني. فغول يحظى بميزتين تجعلانه يتفوق على أردوغان في هكذا منافسة. الأولى منصبه كرئيس خلال الفترة السابقة لم يخلق له العداوات والمنافسين، وإنما عزز من الصورة الإيجابيّة السائدة عنه وعن أسلوب تعاطيه مع الأمور، وهذا يسمح له بالحفاظ على قاعدته الشعبيّة الأساسية مضافًا إليها شريحة كبيرة من المعارضة القوميّة والكماليّة. فهناك من سيصوّت له لأنّه مقتنع بشخصيته المعتدلة، ولكن كثيرًا من هؤلاء سيصوّت له لإحداث شرخ مع أردوغان ومنع الأخير من الوصول إلى هذا المنصب.

بعد تظاهرات "جيزي بارك" والاستقطاب الشديد الذي حصل في البلاد، تمّ التخلي عن فكرة النظام الرئاسي -حاليًّا على الأقل-، صحيح أنّ ذلك خفف من حدّة الجدل حول التنافس بين غول وأردوغان على سدّة الرئاسة إلا أنّه لم يلغه.

وفي حين يعتقد من هم من نفس دائرة حزب العدالة والتنمية أنّ غول لن يغدر بصديقه القديم وشريكه في مسيرة تأسيس حزب العدالة والتنمية، ويترشّح في وجهه إذا ما قرر أردوغان الذهاب للرئاسة، على اعتبار أنّ مثل هذه الخطوة ليست من شيمه، وأنّ المسار المشترك والطويل لهما في السياسة لا يسمح له أن يفعل ذلك، يتمنى كثير من أطياف المعارضة أن يترشّح في وجه أردوغان خاصّة أنّه أصبح في الآونة الأخيرة في نظرهم من أشد منتقدي بعض ممارسات الحكومة، وأكثرهم مصداقيّة، وأكثرهم قدرة على مواجهة نفوذ أردوغان في المستقبل.

لكن في المقابل، هناك من يعتقد أنّه ليس هناك من مخاطر كبيرة حال ترشّح أردوغان إلى منصب الرئاسة مقارنة بالسناريو السابق الذي يفترض تحوّل النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي، على اعتبار أنّ مثل هكذا وضع لن يتيح لأردوغان سوى صلاحيات محدودة، وبالتالي لن يستطيع فعل الكثير إذا ما أصبح في هذا الموقع.



سيناريو المبادلة





وبخلاف الرأيين، هناك من يرى إمكانيّة تقدّم سيناريوهات أخرى من بينها سيناريو المبادلة، وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا وتداولًا في أروقة السياسة التركيّة حاليًّا. وفقًا لهذا السيناريو وعند انتهاء ولاية الرئيس الحالي عبدالله في صيف العام 2014، سيقوم أردوغان بالترشّح لمنصب رئاسة الجمهوريّة بعد تقديم استقالته من رئاسة الحكومة، ومن رئاسة حزب العدالة والتنمية أيضًا، ولكن بما أنّ غول ليس نائبًا في الحزب فلا يحق له أن يستلم رئاسة الحكومة، ولذلك فهو إما سيكون في رئاسة حزب العدالة مؤقتًا إلى حين إجراء الانتخابات النيابية المقبلة عام 2015 ليصبح نائبًا وبالتالي يستلم رئاسة الحكومة، أو من الممكن أن يستقيل أحد نواب حزب العدالة والتنمية فور انتهاء ولاية غول في الرئاسة، ويترشح الأخير كنائب مكان النائب المستقيل في انتخابات فرعية، ويصعد مباشرة إلى منصب رئاسة الوزراء دون الانتظار حتى موعد إجراء الانتخابات النيابية.

لكن في حال تسلّم أردوغان لسدّة الرئاسة فهذا يترك أسئلة كثيرة حول مدى قدرته في التأثير على الأشخاص الموجودين في موقع رئاسة الحكومة والحزب، خاصة إذا جاء عبدالله غول رئيسًا للحكومة. ولذلك تشير بعض المصادر إلى أنّ البند الذي تمّ إدخاله مؤخرًا في حزمة الإصلاحات التي أعلنها أردوغان في 30 أيلول/سبتمبر 2013 حول إفساح المجال أمام تطبيق مبدأ الرئيس المناوب في الأحزاب السياسية إنما جاء لإتاحة الفرصة لأردوغان لتعيين مناوبين قريبين منه ومن خطه وتفكيره؛ لكي يوازوا الطرف الذي قد يستلم رئاسة الحزب خاصة إذا كان ذلك الشخص هو عبدالله غول؛ نظرًا لرؤيته وخطّه المختلف نسبيًّا.

ولكن هناك من يشير إلى أنّه وفي حال لم يحصل سيناريو المبادلة لسبب من الأسباب، وتمكن أردوغان من الوصول إلى سدّة الرئاسة، فهناك إمكانيّة بما لديه من بعض الصلاحيات المهمّة وبما لديه من شعبيّة -باعتباره السياسي الأكثر شعبية في تركيا على الإطلاق- وبما لديه من فضل وتأثير على أي رئيس حكومة قادم مستقبلاً، سواء لجهة تسميته أو تزكيته أو تفضيله أو اقتراحه أو دعمه، أن يحوّل عمليًّا وليس تشريعيًّا النظام السياسي التركي الحالي إلى نظام يشبه إلى حد ما النظام نصف الرئاسي إذا أراد ذلك.
font change