ما تبقى من رئيس لما تبقى من سوريا

دعاية انتخابية لبشار الاسد..وكان البرلمان السوري حدد موعد انتخابات الرئاسة، بحيث تقام بالخارج في 28 مايو الجاري، على أن تجري داخل سوريا في الثالث من يونيو المقبل

ما تبقى من رئيس لما تبقى من سوريا

صورة نادرة، وبالطول الكامل، للدولة الحائرة، وللسقوط المدوي الذي فاجأ غرور أصحابه. كان كل شيء «تمام». كل شيء يسير كما خطط له. لا أحد كان يشك، ولو للحظة واحدة، بأن هذا الشعب الذي غسل بالرعب والخوف يمكن أن يحمل غير سلاح الهرب والنوم والصمت. فقد كان كل شيء «تمام»، دخل الخوف إلى الشخصية وغيّر كلمة السر، وأصبح بإمكان مطلقي الأوامر أن يتعرفوا حتى على الرسالة قبل أن يكتبها المواطن المخترَق. لم يكن حتى جورج أورويل يتخيل سيرة بهذا الشكل. تغيرت كلمة السر، والمواطن المخترق يكتب الرسائل إلى نفسه فقط خشية اعتراض الرسالة. كتب السوريون إلى أنفسهم كثيرا، فظن مطلق الأوامر أن كل شيء «تمام».

الأرض الصلبة التي كانت تقدر على حمل خطوات الفيل أو الجبال المتحركة، ظهرت رخوة، وبصمت. قدرت رسائل المواطن المخترق، والتي كتبها السوري إلى نفسه فقط، أن تحول الأرض الصلبة إلى رمال متحركة، إلى اهتراء سرّي صامت يشبه اهتراء الأنا التي بدت بلا ملامح. وعندما لم تعد تلك الأرض قادرة على حمل نملة أو ذرة رمل، وانخسفت تحت أقدام مطلق الأوامر، مخترق كلمة السر، قفز إلى أعلى الشجرة (قاسيون مثلا) وتحصن بالارتفاع هربا من الأرض الرخوة. وهناك في الأعالي، في صمت الحجر الشامي المرتفع ما بين المزة وحي المهاجرين وأطراف القلمون، جلس مخترق كلمة السر يتأمل انقلاب الأدوار: من كان يخاف حتى من كلمة «مفرزة المخابرات» أصبح مقتحما للبناء نفسه.

لا يعرف إلا القليل من الناس عن الخوف السوري هذا. كان كثير من السوريين يخافون فكرة الموت، التي هي في الأصل خوفٌ من السلطة. لا أحد يعلم حقيقة هذا الواقع. أبشع خوف هو الذي تحسه في وطنك، الخوف من الموظف، الخوف من أستاذ المدرسة، الخوف من الأستاذ الجامعي، كله محصلة خوف منهجي تأسس بذكاء وتعقيدات لا تنتهي، لتتوج الشخصية المرعوبة وتنهيها سلفا فتصبح معدة لتغيير كلمة السر، ويكون الاختراق أبديا.

إلا أن الرسائل التي كان يكتبها السوري لنفسه (أكثر من 30 عاما) جعلت صندوق رسائله المخترق فارغا، فظن مطلق الأوامر أن «العدوّ مُعدّ الآن للذبح» وهي غلطة الشاطر، كما قيل، فأصبح صندوق الرسائل الفارغ صندوقا للذخيرة. فهرب مطلق الأوامر إلى أعلى الشجرة: قاسيون مثلا..
في أرض الأحياء التي تبقى منها بعضها، وبعضٌ من أهلها، سيندم الذين ماتوا، على موتهم. ماتوا بالتوقيت الخاطئ، ماتوا قبل أن ينتقلوا إلى الصندوق الثالث، على اعتبار صندوق الرسائل أولا ثم صندوق الذخيرة ثانيا، ثم صندوق الانتخابات ثالثا. من دون صندوق ثالث سيندم الميت السوري على موته، سيقول: أنا في الصندوق الرابع يا أحبتي، أنتم في صندوقكم الثالث، وأنا في صندوقي الرابع، سبقتكم وكان موتي عبقريا كرسائلي التي كنت أكتبها لنفسي. آخركم الصندوق الثالث، وآخري هو تلك العلبة الخشبية المستطيلة التي كانت أحنّ علي من شاشة التلفزيون ومن إدارات الدولة ومن مطلق الأوامر.

هرب مطلق الأوامر إلى أعلى الشجرة، جبل قاسيون مثلا، وربط الصندوق الثالث بحبل وجعله يتدلى من أعلى الجبل إلى الصالحية وقنوات والعفيف والمزة وشارع الحمراء والميدان. لا يستطيع مطلق الأوامر مواجهة كاتب الرسائل إلى نفسه، ملامحه في الأصل عصية على الرسامين والملوّنين الذين حلّوا المشكلة بالانتباه إلى تضخم بعض أجزاء الوجه أو الهيكل العظمي. ومن حبل يتدلى من أعلى الشجرة، قاسيون مثلا، يرسو صندوقٌ ثالث، وما على المارين المتبقين إلا أن ينتخبوا ما تبقى من رئيس، مطلق الأوامر ومخترق كلمة السر. يقول مخترق كلمة السر: ما تبقى من رئيس أفضل من فراغ دستوري. فراغ دستوري؟ هو أكبر من الفراغ الذي يعيشه المقتول السوري في صندوقه الرابع؟! ثم يا لهذه الرفاهية التي غابت حتى عن أغنى وأعظم المدن: مخترق كلمة السر خائف من الفراغ الدستوري، وأين يمكن أصلا وجود فراغ في هذا المكان الذي يغص بالجثث والنادمين على موتهم؟! أرضٌ ملأى بالشهداء والقتلى، أو بالقتلى والشهداء، أين يمكن الإحساس بالفراغ؟ في ما تبقى من سوريا حتى الفراغ قُتِل. فكيف أحس مطلق الأوامر بـ«فراغ دستوري»؟ ولن تجد سببا إلا كونه لجأ إلى أعلى الشجرة، قاسيون مثلا..

الصندوق الثالث يهجم على الصندوق الرابع. الورقة التي ستحل في الثالث ستُخرج النادم على موته من الصندوق الرابع. وبينما يتمسك الرابع بموته كبرياء وغسلا لعار خوفه، ستعمل الورقة في الصندوق الثالث على نبش الرابع والتشهير بما فيه. الورقة ستدحرج الجثة النادمة، تحت شمس يونيو (حزيران). وسيموت من جديد من مات في الأشهر الـ36 الأخيرة. كل ورقة ستدخل الصندوق الثالث ستنبش قبرا في الصندوق الرابع. سيعاد انتخاب مطلق الأوامر، بحفّاري قبور، إذن. الناخبون حفّارو قبور، والفائز في أعلى الشجرة، قاسيون مثلا، سيعيد اختراق كلمة السر لموتاه. كل صوت بجثة، وكل نعم بكفن، وكل غياب دستوري وأنتم بخير.

من صندوق الرسائل، إلى صندوق الذخيرة، إلى صندوق الموتى، إلى صندوق الانتخابات، تتنقل روح السوري ويعاد تدوير موتها. ووحده في أعلى الشجرة، قاسيون مثلا، ما تبقى من رئيس، لما تبقى من جمهورية. منتصرٌ يعلن هزيمة الموتى ويعيد تدوير موتهم ليتمتع بانتصاره مجددا. منتصرٌ لم يتبق منه إلا قدرته على التخفي كي لا ينتخب السوريون إلا شبحا، وكي لا يكون على الموتى إلا أن ينتخبوا أمواتا مثلهم.. سينتخبونه بالمناظير الليلية، لأنه لا يظهر إلا في الليل. وسينتخبونه بخرائط «غوغل» لأنه يشار إليه بالسهم الأحمر في أعلى الشجرة، قاسيون مثلا. وسينتخبونه بالقطن الأبيض لأنه لم يعد لديهم إلا أكفانهم التي سيقتطعون منها جزءا، ومن خلف الستار الانتخابي طبعا، ويدلون بأصواتهم لانتخاب قاتلهم!
 
font change