قراءة لما بعد الانسحاب الأميركي

قراءة لما بعد الانسحاب الأميركي

[escenic_image id="555972"]

ثلاثة وجهات نظر عراقية، المتفائل منها  قلق، و يغلب عليه ميل نحو التشاؤم والخوف الجدي على مستقبل واستقرار العراق، هذه الآراء لخصت جزءاً من مجموعة احتمالات صعبة، وتزداد تعقيداتها كلما اقترب موعد الانسحاب الأميركي، المتوقع أن يترك تداعيات كارثية، إذا استمر الوضع السياسي والأمني على حاله، ما يضع العراق عشية ذلك التاريخ أمام مفترق طرق.

فبالرغم من بعض التحسينات الواضحة، فإن الطبقة السياسية منقسمة على نفسها، والقوات المسلحة ضعيفة والأجهزة الأمنية مخترقة والاستقطاب الطائفي وصل إلى ذروته والحدود الشمالية مفتوحة للعابرين إلى القاعدة، إضافة إلى جوار يراوده الخوف من الوجود الأميركي على حدوده، مثل ما تراوده أحلام بطموحات إقليمية،  يبني حجر الأساس لها، على الأراضي العراقية.

فبالرغم من هذه الإشكالات الخطيرة، تنفذ الولايات المتحدة، عملية خفض لقواتها المنتشرة على الأراضي العراقية لتصل إلى الانسحاب الكامل عام 2011 ، ما يدفع بالمراقبين إلى التخوف من فتح الشهية على الوليمة العراقية، المتروكة للاعبين محليين غير منسجمين، وأقل قدرة على التفاهم، وأكثر ميل إلى التفرد وتحقيق مصالح ضيقة، إضافة إلى لاعبين خارجيين، يملكون أدوات التأثير، عبثوا بالحالة العراقية ما يزيد عن 6 سنوات، مكنتهم من امتلاك تفاصيل معيقة لمشروع النهوض العراقي .

فيما يبقى الرهان على طبقة سياسية عقلانية تتجاوز الانقسامات، وتحتكم لآليات الدستور في اتخاذ القرارات وإدارة الأزمات، وقيام نظام مصالح أميركي عراقي مشترك، يفرض على الولايات المتحدة التدخل من أجل الحفاظ على مصالحها، وسلامة واستقرار حلفائها العراقيين عبر الاتفاقية الطويلة الأمد بين البلدين.

-------------------------------------------------------------------------------------------

بعد سحب القوات: تطابق المصالح يُبقي أميركا في العراق

ما يقال في العلن غير الذي يقال في السر، الحاجة للأمريكيين تمتد لأكثر من عقد..!!

بعبارة أخرى فانه ما لم تقع كوارث مدمرة في صورة حرب أهلية أو انهيار للنظام يؤدي إلى تفكك البلد، وان كانت هذه أمور مستبعدة، فإن المستقبل لما بعد الانسحاب الأميركي من العراق سيبقى مرتبطاً بالعلاقة مع الولايات المتحدة.

التغيرات الدائمة التي تطول الخريطة السياسية للعراق تجعل من الصعب التنبؤ بمستقبله المنظور ناهيك عن مستقبله الأبعد. فالتغيرات المتوقعة التالية بعد نتائج انتخابات مجالس المحافظات مازالت أبعادها تعيد ترتيب توازنات القوى في هذه المحافظات، تتمثل في الانتخابات البرلمانية التي ستُجرى مطلع العام المقبل، ويتوقع أن تكون نتائجها حاسمة بالنسبة إلى تحديد مفاصل أساسية في المستقبل السياسي للبلاد، ومن ذلك مفصل العلاقات بين العراق والولايات المتحدة التي يحددها حالياً اتفاق وضع القوات الأميركية SOFA (صوفا)، أو "اتفاق سحب القوات"، بحسب التوصيف العراقي الذي يأخذ في الاعتبار حساسيات داخلية تفرضها اللياقة السياسية، أو ما يُعرف بالانجليزية بـ political correctness.

المؤشرات تقود إلى أن المستقبل المنظور لن يتطور بمعزل عن التبعات والالتزامات المهمة التي يفرضها اتفاق "SOFA" وأبعاده رغم المواعيد المحددة للانسحاب النهائي من العراق وسريان مفعول الاتفاق. وبعبارة أخرى فإنه ما لم تقع كوارث مدمرة في صورة حرب أهلية أو انهيار للنظام يؤدي إلى تفكك البلد، وهذه أمور مستبعدة فان المستقبل لما بعد مواعيد الانسحاب الأميركي سيبقى مرتبطاً بالعلاقة مع الولايات المتحدة.

بداية هناك مسألة المواعيد، فالاتفاق ينص على موعد للانسحاب النهائي في  31 كانون الأول (ديسمبر) 2011م. وفقاً للاتفاق فإن القوات الأميركية يجب أن تنسحب، كخطوة أولى، من المدن العراقية إلى قواعد أو معسكرات، بحلول 30/6/2009م، لكن الآن تنطلق دعوات إلى إمكان بقاء القوات في "بعض" المدن الموصوفة بـ "الساخنة".

وحتى موعد الانسحاب النهائي الذي ينص عليه الاتفاق الذي لم يعد ثابتاً بعد إعلان الرئيس باراك أوباما موعدا جديداً لـ "انتهاء المهمة القتالية" بحلول 31 آب (أغسطس) 2010، أي قبل الموعد المحدد في اتفاق "SOFA" بأكثر من سنة.

وفي وقت لاحق أوضح الأميركيون أنهم ملتزمون بموعد الانسحاب النهائي كما حدده الاتفاق، لكنه سيبدأ إثر إنهاء "المهمة القتالية"، على أن تبقى في العراق قوات تراوح بين 35 و50 ألف عنصر، دون توضيح مهمتها بدقة. أما وزير الدفاع العراقي عبد القادر العبيدي فقد أعلن قبل عام، أن العراق لن يكون قادراً على حماية أمنه الداخلي قبل 2012م، لكنه أكد أنه سيحتاج إلى فترة قد تصل إلى 2020 م، قبل أن يملك جيشاً قادراً على حماية حدوده.

ولعل تقويم العبيدي يمكن أن يشكل أساساً للاستنتاج بأن المهمة التي سيُعهد بها إلى الـ 35-50 ألف من القوات الأميركية التي ستبقى بعد "انتهاء المهمة القتالية" في 31 آب "أغسطس"2010م، هي تحديداً لضمان أمن حدود العراق من أي مخاطر خارجية محتملة لفترة قادمة، ربما حتى 2020م.

اتفاق " SOFA" يحدد ثلاث سنوات لسريان مفعوله تبدأ بتاريخ توقيعه، لكن مادة مهمة في الاتفاق تنص على إمكان تمديده بطلب من أحد الطرفين، وبموافقة الطرف الآخر. خلاصة الكلام : أن المستقبل المنظور للعراق سيبقى مرتبط بالوجود الأميركي فيه لاعتبارات عملية، أمنية وعسكرية، وسياسية أيضا. المادة 27 من اتفاق "صوفا" تحت عنوان "ردع المخاطر الأمنية" تتألف من فقرتين مهمتين هنا نصهما:

  1. عند نشوء أي خطر خارجي أو داخلي ضد العراق أو وقوع عدوان عليه، من شأنه انتهاك سيادته أو مياهه أو أجوائه، أو تهديد نظامه الديمقراطي أو مؤسساته المنتخبة، وبناء على طلب من حكومة العراق، يقوم الطرفان بالشروع فوراً في مداولات إستراتيجية، ووفقاً لما قد يتفقان عليه فيما بينهما، تتخذ الولايات المتحدة الإجراءات المناسبة التي تشمل الإجراءات الدبلوماسية أو الاقتصادية أو العسكرية أو أي إجراءات أخرى لردع مثل هذا التهديد.
  2.  يوافق الطرفان على الاستمرار في تعاونهما الوثيق في تعزيز وإدامة المؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات السياسية الديمقراطية في العراق، بما في ذلك وفق ما قد يتفقان عليه، التعاون في تدريب وتجهيز وتسليح قوات الأمن العراقية، من أجل مكافحة الإرهاب المحلي والدولي والجماعات الخارجة عن القانون، بناء على طلب من الحكومة العراقية".

يُعيدنا ما سلف إلى بداية هذا المقال. إنه من الصعب تخيل أن العراقيين، عبر جماعاتهم السياسية والاثنية والطائفية، ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء مفعول اتفاقهم مع أميركا، والانسحاب النهائي لقواتها من بلادهم. ينبغي الأخذ في الاعتبار أن التصريحات العلنية في هذا الخصوص شيء والمواقف الحقيقية شيء آخر، فالعراق يبقى بحاجة إلى أميركا لمستقبل منظور لا يقل عن عقد مقبل ليس فقط لأنه لا يملك جيشاً قادراً على حمايته من جيرانه-"الأشقاء"- وغيرهم، بل لأنه لن يكون قادراً بعد على حل مشاكل داخلية رئيسية من شأنها لو تفاقمت أن تقود إلى كوارث تهدد وجوده.

لا يعني هذا الطرح –طبعاً- أن أميركا هي التي ستحل مشاكل العراقيين نيابة عنهم، لأن هذه مسؤولية العراقيين وحدهم، لأن التحديات كبيرة ومعقدة على صعد عدة، خصوصاً على صعيد التوافق الوطني، فهذا التوافق غير موجود. والموجود "حكومة ائتلافية" غير منسجمة، لكن لا وجود للشراكة الفعلية في إدارة الحكم، والخوف أن يستمر الواقع طالما استمر عجز الجماعات العراقية عن الاتفاق على أجندة التوافق الوطني، ومفهوم الشراكة في الحكم، وهو أمر مطلوب وضروري للوصول إلى مرحلة النضوج الديمقراطي الذي يسمح بتطبيق مفهوم الحكم على أساس الغالبية والأقلية في الإطار الدستوري البرلماني الاتحادي.

ومع افتراض أن الجماعات العراقية لن تسمح بوقوع كوارث تهدد وجود البلد، فان العملية السياسية الحالية ستستمر في إطار البرلمان والتداول السلمي للسلطة، وفي السياق تبقى الغلبة لإدارة الأزمات والخلافات استناداً إلى الآليات الدستورية القائمة. هذه المرحلة قد تستمر على مدى مستقبل منظور يتجاوز سريان مفعول "SOFA"، من هنا الحاجة إلى أميركا باعتبارها القوة الوحيدة القادرة على عدم السماح للقوى الخارجية بالتدخل في تحديد مستقبل العراق، ويمكن الافتراض أن المصلحتين العراقية والأميركية تتطابقان في هذا الشأن.

كمران قراداغي - مستشار سابق للرئيس العراقي جلال طالباني

--------------------------------------------------------------------------------------

العراق وتحديات الانسحاب الأميركي

مخاطر الانسحاب بين انقسامات داخلية وأجهزة أمنية مخترقة ومشاريع إقليمية متربصة

إن أي انسحاب أميركي من العراق لا يأخذ طبيعة التداخلات المحلية والإقليمية هذه بالنسبة للعراق، ولا يرتب الأوضاع العراقية بما يمكن العراقيين من الوقوف بوجه كل هذه المخاطر التي تشكلها هذه التداعيات، لذلك سيكون مدمراً وسيخلق أوضاعاً مأساوية.

مع اقتراب تنفيذ استحقاقات الانسحاب الأميركي من العراق، المتفق عليها رسمياً والذي سيبدأ في يونيو "حزيران" المقبل، بدأت مؤشرات الوضع الأمني في العراق تبرز على أرض الواقع المعاش في هذا البلد، لترسم من خلال الأوضاع الأخيرة التي شهدت انهيارات أمنية خطيرة أودت بحياة مئات العراقيين، ملامح مستقبل مشكوك في استقراره مع اختلاط الترقب الإقليمي، الطامع والمترافق مع هشاشة الأوضاع العراقية، التي رسمتها طائفية تغلغلت في مرافق الدولة العراقية وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية.

فانسحاب أميركي من العراق لا يترافق مع ترتيب جميع الأوضاع السياسية والأمنية، لتكون قادرة على تحمل أعباء مرحلة جديدة صعبة في كل تداخلاتها المحلية والأجنبية، التي زجت بالإرهابيين إلى هذا البلد مستغلة الانفلات الأمني، الذي شهدته الحدود العراقية مع الجوار خلال السنوات القليلة الماضية، سيشكل أمراً خطيراً خاصة مع ترافقه مع الخلافات السياسية الراهنة بين القوى العراقية، التي استطاعت أن تنفذ من خلال خلافاتها  قوى قادمة من خارج الحدود، حاملة أجندة خاصة بها لا تتفق ولا تتناغم مع أهداف العراقيين، وتطلعاتهم نحو مستقبل يطوي صفحة ويلات الماضي، التي عاشها العراقيون في ظل النظام الدكتاتوري السابق .

فعلى امتداد الشهرين الماضيين، ومع المباشرة بعمليات تنفيذ الاتفاقية الأمنية العراقية الأميركية، وبدء تسلم القوات العراقية من نظيرتها الأميركية، للعشرات من المواقع والمهمات العسكرية، فقد تأكدت الأطراف المتربصة بالأوضاع العراقية سواء منها الداخلية والخارجية، من جدية تنفيذ الانسحاب وخاصة بعد تأكيدات الرئيس الأميركي الجديد باراك اوباما، على السير قدما في إخراج قواته من العراق، فتحفزت تلك الأطراف لتكون لاعباً مؤثراً في هذه الأوضاع، من أجل تحقيق أهداف ذاتية خاصة بها، تنجز لها ما تريده في العراق.

فقد أكدت تلك التفجيرات أن الأوضاع العراقية مازالت هشة أمنياً وسياسياً وحتى اقتصادياً، وأن الخلافات مازالت تفرق بين الأطراف الرئيسية في البلاد، حول العديد من القضايا المهمة التي يمكن أن تحدد مصير العراق حاضراً ومستقبلاً، وهي خلافات يتطلب الأمر الانتهاء منها وحلها بشكل نهائي، قبل تنفيذ الانسحاب الأميركي درءاً لتفجرها نزاعاً بين الفرقاء السياسيين، سيقود العراق إلى أوضاع تزجه باقتتال بين الإخوة، الذين ظلوا يعملون بكل جهدهم على امتداد السنوات الست الماضية لتجنبها، والحفاظ على وحدة العراق أرضاً  وشعباً.

فبعد التفجيرات الأمنية التي شهدها العراق قبل أيام ووصفت بأنها كبوة أمنية، فإن القوى المتحفظة على التجربة الجديدة في العراق التي شكلت نموذجاً لدول المنطقة كلها التى أخذت تشعر بخطورتها على أوضاعها، فبدأت تدفع سياسياً وإعلامياً من أجل تحويل تلك الكبوة إلى انهيار أمني شامل، فتكررت التفجيرات الأخيرة لتدق ناقوس خطر أوضاع جديدة، قد يدخل العراق في أتون تداعياتها التي ستحرق المسيرة التي بدأت مؤخراً  والتي تشهد نوعاً من الاستقرار والتوجه نحو الأعمار والإصلاح .

ولعل التطور الأكثر خطورة في هذه الأوضاع، هو تهاون قادة ومسئولون أمنيون وأجهزة أمنية، اخترقها الفساد الإداري والمالي والطائفي والحزبي حتى توسعت وولاءاتها ورغباتها بعيداً عن الأهداف الوطنية، لتنحصر بتلك الولاءات الفئوية الضيقة التي تقدم مصالحها الضيقة على المصالح الوطنية العامة، للوطن بكل مكوناته القومية والطائفية والدينية .

وهنا يكمن الخطر الأكبر، حين تنفرد هذه القوى الأمنية بعد الانسحاب الأميركي من العراق بأوضاع البلاد الأمنية، لتسخرها لأهدافها المتضاربة، الناتجة عن تنوع القوى والأحزاب التي تنتمي إليها، وبشكل سيحول الساحة العراقية من حالة وئام واتفاق إلى تنافر وتطاحن، سيعيد العراقيين إلى المربع الأول الذي شهد في أعوام 2005 و6 و7 حرباً طائفة حزبية، كادت أن تقود إلى إحراق العراق أو تقسيمه على الأقل .

إن هذا الوضع الذي سيخلقه الانسحاب الأميركي قبل إتمام السيطرة الوطنية على الأجهزة الأمنية والعسكرية، سيقود العراق إلى أوضاع شبيهة بتلك التي سقط في أتون حربها الأهلية لبنان، خلال سبعينات القرن الماضي، والتي دمرت بنياته التحتية وشرعت فرقة أبنائه طائفياً ودينياً، وهي حرب مازال اللبنانيون يعيشون أثارها الكارثية حتى الآن، وغير قادرين على التخلص من تداعياتها برغم مرور  حوالي 30 عاماً على انتهائها .

ومن المؤكد أن أطرافا مازالت متربصة بالعراق، منذ التخلص من نظامه السابق عام 2003، وعملت على تغذية كل ما من شأنه أن يمنع تحقيق أمنه واستقراره، ستتخذ من هذه الأوضاع ذريعة لتدخل سافر مؤذ في شؤون العراق، من خلال عمليات استقطاب لهذا الفريق العراقي أو ذاك، وبما يحقق لها أهدافها في هذا البلد، خاصة وان بعض هذه الأطراف ضالعة أصلاً بالتدخل في الشؤون العراقية، منذ سنوات عدة، ولإضفاء شرعية على تدخلها في الشؤون العراقية، فتلك الأطراف الإقليمية ستتخذ من موضوع الحفاظ على أمنها ودرء المخاطر عن شعوبها، ذرائع لتدخلاتها تلك التي ستزيد الأوضاع العراقية تعقيدا واشتعالاً.

ومن المؤكد أن هذه الأطراف ولكي تغطي على تدخلاتها هذه، أو إضفاء نوع من المشروعية على عبثها بالأوضاع العراقية، فأنها ستلجأ إلى استقطاب قوى محلية تغطي على تحركاتها المعادية للعراقيين، وهو ما سيزج بأبناء البلد الواحد في آتون صراع الرغبات الخارجية، لتكون أداتها المنفذة لتلك الصراعات، وما يتخفى وراءها من أهداف خبيثة . ويبدو أن هذا السيناريو قابل للتطبيق ومهيأ للتعامل مع هذه التدخلات الخارجية، نظراً للتركيبة الطائفية التي بنيت عليها الدولة العراقية والمنحازة لهذا البلد الإقليمي وذلك الأخر، خاصة وان المنطقة تعيش أصلا تداعيات صراعات الرغبات الإقليمية حالياً، بكل ما يمكن أن تقود له من شرور ستحيط  بالعراق، الذي سيكون مسرحا للصراع الإقليمي، الباحث كل طرف منه عن مطامع وغايات خاصة به، بعيداً عن أهداف العراقيين وتطلعاتهم للأمن والاستقرار والأعمار والازدهار وبناء دولة القانون والمؤسسات .

إن أي انسحاب أميركي من العراق لا يأخذ طبيعة التداخلات المحلية والخارجية، هذه بالنسبة للعراق ولا يرتب الأوضاع العراقية، بما يمكن العراقيين من الوقوف بوجه كل هذه المخاطر التي تشكلها هذه التداعيات، سيكون مدمراً وسيخلق أوضاعا مأساوية جديدة، لبلد دخلت القوات الأميركية إليه قبل ست سنوات لإنقاذه من ظروف مشابهة، وهو أمر يجب أن يتصدى له القادة العراقيون والأميركيون، والتحرك نحوه بحذر وذكاء ينقذ البلاد من مخاطر لن تحرق إذا ما تحققت أصابع العراقيين وحدهم وإنما معهم كل الضالعين في الشأن العراقي .

مصطفى الكاظمي - كاتب وسياسي عراقي

-----------------------------------------------------------------------

العراق بعد الانسحاب الأميركي

تغير الموازين و اختلاف الوقائع بين انسحابين  "جزئي وكامل"

بعض مظاهر مرحلة ما بعد الانسحاب أخذ يطفو على سطح المشهد العراقي، تمثل في تصاعد العنف  وعودة الاضطراب إلى الساحة السياسية العراقية .. وخلاصة هذه المقالة هي : أن الانسحاب يقوم على معادلة لها أطراف ثلاثة لكل له أجندته الخاصة. الطرف الأمريكي وهو اللاعب الرئيسي الذي يسعى لتأمين سلامة ما بعد الانسحاب بالمصالحة التي تتقاطع مع أجندة الطرفين السلطوي والمعارض، فيما يتربص الإيرانيون وقادة الحزبين الكرديين بالفريسة العراقية.

الانسحاب بين مرحلتين

لابد من التميز بين انسحاب جزئي يفترض أن يتم من المدن بحلول "يونيو"حزيران المقبل، وبين انسحاب كامل  يفترض أن يكتمل في نهاية عام 2011م, هذا التميز مرده رؤية القوى المعارضة للاحتلال والتي تتباين مواقفها منه - لأسباب واسعة- من الاختلاف بعضها ذاتي وأخرى موضوعي. اختلاف مواقف القوى المعادية للتواجد ألاجني والمعادية بالأصل للعملية السياسية ولكل أشكال السلطة القائمة ووسائل الوصول إليها بما في ذلك الانتخابات التي جرت بعد التغيير في 2003 .

هذا الاختلاف في الرؤى يقود إلى اختلاف النتائج المترتبة على الانسحاب الجزئي من المدن، والانسحاب الشامل من العراق. ففي حالة أن يكون الانسحاب شاملا ، فإن موقف هذه المعارضة المقاومة يضعف بشكل كبير كونه بسقط من يدها ذريعة المقاومة التي تستفيد منها لتعبئة ليس جزء مهم من الشعب العراقي فقط، بل أيضا من الكثير من الدعم المعنوي وربما المادي الذي تحصل عليه من دول عربية أو على الأقل من أبناء الدول العربية، كونها مقاومة مشروعة لاحتلال أجنبي لأرض عربية. الانسحاب الشامل يحول المعارضة العراقية للعملية السياسية إلى شأن داخلي من وجهة نظر الحكومات العربية ويسحب أي دور مارسته أو يمكن أن تمارسه الجامعة العربية في اطار المصالحة الوطنية، ويدفع أو لنقل يضطر الحكومات العربية إلى تشديد قبضتها على الحدود لمنع الدعم المادي والعسكري الذي تقدمه شرائح من أبنائها  للمعارضة الحالية للوضع في العراق .

 فمن الوهلة الأولى يبدو أن المعارضة العراقية الحالية قد لا تكون متحمسة للانسحاب النهائي في العام 2011، قبل أن تتمكن من الوصول إلى حالة من القوة الكافية التي تمكنها من ملئ الفراغ الذي يترتب على الانسحاب الكامل، ومن الإطاحة بالنظام القائم بأي وسيلة كانت. فالمقاومة التي ستتحول إلى مجرد معارضة داخلية وشأن داخلي عراقي إذا ما تم الانسحاب الكامل الآن وستفقد العديد من مكامن القوة والدعم، لذا نجدها تعلن من المواقف غير ما تبطن فهي تعتبر الاتفاقية التي أبرمتها السلطة الحالية ناقصة، ولا تلبي طموح العراقيين  في الجلاء الكامل، كما أنها بدأت بتصعيد عمليات العنف الموجه لكل العراقيين بهدف إفشال خطط الرئيس الأمريكي الجديد بالانسحاب من العراق بصورة كاملة في نهاية 2011. وإلا كيف تفسر التصعيد ألعملياتي العسكري ضد العراقيين، إذا لم تكن ذات أهداف تتصل بتأخير رحيل قوات الاحتلال؟

 التفسير الوحيد الممكن هو أن المقاومة العراقية الحالية لا تعتقد أنها قادرة على تقوية نفسها وقدراتها القتالية بنفس سرعة تطور قوة وركائز العملية السياسية والنظام السياسي الذي تمخض عنها، فالانتخابات البلدية الأخيرة ونسب المشاركة فيها وكذلك فوز قائمة "دولة القانون" في اغلب النتائج دلت على أن مزاج الناخب العراقي  يتجه أكثر فأكثر إلى من يوفر الأمن والاستقرار في ظل حكم القانون وان إفشال العملية الساسة لا يمكن أن يتم بمعزل عن التصعيد الأمني.

المصالحة وسيلة الأمريكان لإدامة الاستقرار

ويبدو أن هذا التوجه للناخب العراقي الذي يتوافق مع الآمال الأمريكية في رؤية عراق لا يخضع للهيمنة الإيرانية، قد بدد بعض.الارتياح غير المعلن الذي أبداه الأمريكيون أثر الانتخابات الأخيرة إذ عاد القلق من أن هذه النتائج لا تزال هشة وعرضه للتغير، إذا ما صعدت المقاومة العراقية أعمال العنف بعد الانسحاب من المدن وبما يفشل الخطط الأمريكية للانسحاب الكامل في نهاية 2011 حيث أن عودة العنف الطائفي يمكن أن يفشل النجاحات الانتخابية التي حققتها قائمة دولة القانون، من هنا سارعت الإدارة الأمريكية الجديدة للضغط على رئيس الوزراء المالكي لسد الطريق على من تعتقد الإدارة الأمريكية أنه يقف وراء التصعيد الأمني الذي يستهدف تعطيل الانسحاب الكامل ومقدمته الانسحاب الجزئي من المدن. ومن هذا المنطلق بدأت تمارس الضغط لتسريع خطوات المصالحة مع البعثيين الذي تعتقد الإدارة الأمريكية أنهم الأكثر تأثيرا في الأمن والاستقرار.

وبالفعل فقد وجدنا رئيس الوزراء، الذي كان معروفاً عنه في إطار حزبه "حزب الدعوة "، أنه يمثل جناح الصقور، يطرح أفكاراً  اعتبرت معتدلة فيما يخص بالمصالحة مع البعثيين، ولكن سرعان ما أدركت بعض القوى المؤتلفة مع "حزب الدعوة" في إطار كتلة "الإتلاف الشيعية" , أن طرح المصالحة مع البعثيين يستهدف دحر القوى التابعة لإيران في الانتخابات البرلمانية القادمة في نهاية العام الجاري. وهذا ما دفعها لشن حملة شعواء ضد هذا الطرح التصالحي، كما بدأت بتوجيه التهديدات الخفية للمالكي وتحريض المقربين إليه لدفعه للتراجع والعودة إلى معاداة البعثيين. لقد وجد المالكي نفسه أمام خيارين: أما أن يفقد حلفائه، آو يفقد جزءاً من النجاح الذي كان حققه في الانتخابات الأخيرة، مفضلاً الخيار الأخير على أن يصافح أعداء الأمس القريب.

إشكالية الانسحاب

وعند هذا الحد أصبح الانسحاب الأمريكي من العراق إشكالية لكل الأطراف، الطرف المقاوم والمعادي للعملية السياسية والذي سيفقد عنوانه كمقاومة مشروعة تحظى بتعاطف محلي وإقليمي ودولي، والطرف المؤيد والمُطلق للعملية السياسية والذي كان يعتمد في الحصول على الدعم من الطرف الأمريكي باعتباره نواة لنظام ديمقراطي تعددي يحترم حقوق الإنسان، وقد يضطر للتحول إلى نظام تسلطي يتبع أساليب القمع بأقسى صورها لقمع المعارضة في مرحلة ما بعد الانسحاب للقضاء عليها عندما يصل الصراع إلى مرحلة الخيار بين البقاء لهذا الطرف أو ذاك، وأخيراً الطرف الأمريكي الذي لا يريد ترك العراق لقمة سائغة للنفوذ الإيراني ويجد نفسه غارقاً في العجز على أجبار من ساعدهم في المجيء إلى سدة الحكم لإتباع الطري الأسهل نحو الاستقرار بعيدا عن النفوذ الإيراني.

إلى أين؟

مسئولون عسكريون أمريكيون كانوا أعلنوا أثر اشتداد العنف وعودته في الموصل وديالى مؤخراً عن احتمال بقاء القوات في هاتين المحافظتين إلى ما بعد تاريخ الانسحاب المتفق علية في نهاية شهر حزيران، إلا أن الحكومة العراقية سارعت بالإعلان عن عدم رغبتها باستمرار تواجد القوات الأجنبية إلى ما بعد نهاية حزيران. الأمر الذي اضطر معه ناطق رسمي أمريكي أن يحفظ ماء الوجه بالإعلان عن عدم نية الحكومة الأمريكية تمديد مدة البقاء بالمدن، وهكذا فان التصعيد العسكري من قبل المعارضة المقاومة أصبح زادها والوقود الذي تعتبره ضرورة لا غنى عنها لإسقاط (حكومات الاحتلال) حسب تعبيرها.

بل أن البعثيين التابعين لتنظيمات "عزت الدوري" أعلنوا أصلاً رفضهم لفكرة المصالحة لإدراكهم وقناعتهم التامة من أن وقود عودتهم للسلطة هو الحملات الشعواء والاضطهاد اليومي الذي يتعرض له فكر وتاريخ حزب البعث، وهو ما تؤكده الشواهد التاريخية في العراق والتي تثبت أن الأحزاب التي كبرت وتوسعت شعبياً هي تلك التي تعرضت للاضطهاد والملاحقة، كالحزب الشيوعي العراقي في حقبة العهد الملكي وحزب البعث في الحقبة القاسمية وحزب الدعوة في الحقبة البعثية.

 من هنا فلم يتوان أنصار تنظيمات عزة الدوري عن كشف بعض عناصرهم المتخفية في قيادات الصحوة لخلق تصعيد في ملاحقة البعثيين وأيضاً دفع الحكمة واستفزازها لضرب قيادات الصحوة التي كان لها الفضل في ردم الهوة الطائفية، وذلك بهدف كسب الشارع وإفشال المالكي في الانتخابات القادمة وبما يسهل فوز عناصر ضعيفة تزيد من اضطراب الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية.

التصعيد الأمني يأتي - أيضا- من قبل بعض الأطراف في الإتلاف الشيعي التي باتت تعرف ثقل التيار الذي يحن لأيام وحقبة ما قبل 2003، حيث باتت تشعر بالحاجة إلى تفجير الصراع الطائفي الذي يمكن أن يكون أداة فوزها الوحيدة في الدورة الانتخابية القادمة، لذا فقد نشهد عودة  التصعيد والاستقطاب الطائفي بشكل خطير خلال الأشهر القادمة مما سيضطر الحكومة أمام هذه التطورات إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات الوقائية الأمنية وزيادة عديد إفراد الشرطة والجيش وتحسين مستويات التسليح والتجهيز في المواجهة مع القوى المعادية للاستقرار، مما سيضيف المزيد من الأعباء المالية على الموازنة التي تعاني من العجز أصلاً وهو ما قد يضطرها لوقف أي زيادات في الرواتب كانت قد أعطتها في بداية العام الحالي بحيث يمكن أن ينعكس ذلك على شعبية المالكي أمام السخط الذي سيجتاح حوالي ثمانية ملاين عراقي يستلمون معاشات ورواتب.

المتربصون بالفريسة

وفيما يجري أطراف معادلة الانسحاب الأمريكان والحكومة العراقية والمعارضة المقاومة حساباتهم كل على انفراد يقف قادة الحزبين الكرديين والإيرانيين متأهبين لجني إرباح دخولهم مشاركين بصبر ودهاء على الصراع الجاري والذين نؤو بأنفسهم عنه إلا بما تفرضه الحدود الدنيا لجني الثمار، وهنا سيكون الندم هو الحصيلة التي سجينيها ثلاثي أطراف معادلة الانسحاب كمحصلة لأخطاء لا يراها المنغمسون في صراعات  السلطة

همام الشماع - أستاذ في جامعة بغداد

font change