الروهينغيا وميانمار... مأزق الديمقراطية وتعصّب التاريخ

البوذيون جعلوا كل بورمي بوذياً...و الطروحات الروهينغية جعلت كل مسلم أراكاني روهينغياً

الروهينغيا وميانمار... مأزق الديمقراطية وتعصّب التاريخ

• لماذا يصر المدافعون عن المسلمين في أراكان على تقديمهم كأقلية ذات هوية مشتركة؟ وهل هذا مُجدٍ؟



[caption id="attachment_55261507" align="aligncenter" width="4928"]مستشارة الدولة الميانمارية أونغ سان سو كيي تجري محادثات مع رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانغ بقاعة الشعب الكبرى في بكين - 16 مايو 2017. مستشارة الدولة الميانمارية أونغ سان سو كيي تجري محادثات مع رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانغ بقاعة الشعب الكبرى في بكين - 16 مايو 2017.[/caption]

دبي – عمر البشير الترابي*


* خلال سبعة قرون، تنقّل الإقليم بين الاعتماد على بورما المركزية، وبعض الممالك المجاورة.
** كان الراخينيون البوذيون يعارضون بشدّة إنشاء منطقة حصرية للمسلمين، مما يعني بالنسبة إليهم فقداناً فعلياً لجزء مما يرونه وطنهم.
* التحالف بين الدين السياسي والسلطة، لا يمكن أن يستمر طويلاً.
* الروهينغيا الآن يرون أنفسهم الهدف الأسهل للجميع، والرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية قدّمت تنازلات للمتطرفين.
* المسلمون لم يكونوا منعزلين في تاريخ ميانمار، ولكن ثقافة العزل تأكل حتى الذاكرة الوطنية الواحدة.
* هذه الحروب التي تجد جذورها في التاريخ، إنما هي نتوء في نفوس لم تتصالح، وذاكرة لم يحسن إدارتها.
* كل ثقافة لا تحارب التطرف داخلها فإنها تخون العهد، وكل ثقافة لا ترغب في ترميم الجراح، وسياسة الذاكرة فهي تخذل منظومة القيم الحقيقية .




حينما نشاهد صور المآسي في ميانمار (بورما)، لا يسعنا - بعد التعاطف مع الضحايا - إلا أن نتساءل: من أين تصدر قوة العنف هذه؟ وهل من سبيل لوقفها؟ ويكون الجواب المفتوح على مداد الورق: لا سبيل لفعل شيء، سوى بفهم المشكلة فهماً لا يجعل تصرفاتنا وقوداً لها. فما هي أزمة الروهينغيا، ولماذا تعصّت على الحل؟ ولماذا نُصرّ على حفز دراسات لسياسة الذاكرة، والتفكير في صيغ حديثة للديمقراطية والمواطنة، تتغلّب على سدود التاريخ الذي يغذّي التعصب؟


في البدء كانت بورما وأراكان




تاريخ ميانمار معقّد، يمكن فهمه بوجود أقاليم أو ولايات، تَغيّر اسمها بتغيّر الظروف السياسية، واسم الدولة ذاته تغيّر، من بورما إلى ميانمار، في مبادرةٍ من قيادة الدولة للتخلص من سطوة العرق الواحد والقومية المسيطرة، لتحقيق الانفتاح على العرقيات التي تحتويها الدولة. ونظراً لاعتبار بعض القيادات للأقليات التي تشعر بأنها لم تحقق فوائد هذا الانتقال، فإنها تتمسك باسم بورما حتى لا تظلم الاسم الجديد، كما عبّر عضو البرلمان السابق شوي مانغ (ممثل بيثو هلوتاو)، بعد أن ألغت لجنة الانتخابات الموحدة ترشيحه في العام 2015، بحجة أن أحد والديه لم يكن موجوداً في بورما قبل الاستقلال، ولكن النائب السابق يؤكد أن والده كان شرطياً في بورما بعد استقلالها من الاحتلال البريطاني لها، وهذا كله يعكس حالة القلق التي تعيشها هذه الدولة.

[caption id="attachment_55261516" align="aligncenter" width="1024"]اللاجئون الروهينغيا بعد عبورهم  إلى البر في بنغلاديش يوم 17 سبتمبر 2017. وقد فر ما يقرب من 400.000 لاجئ روهينغي إلى بنغلاديش منذ أواخر أغسطس أثناء اندلاع أعمال العنف في ولاية راخين - صور الأقمار الصناعية الأخيرة الصادرة عن منظمة العفو الدولية (غيتي) اللاجئون الروهينغيا بعد عبورهم إلى البر في بنغلاديش يوم 17 سبتمبر 2017. وقد فر ما يقرب من 400.000 لاجئ روهينغي إلى بنغلاديش منذ أواخر أغسطس أثناء اندلاع أعمال العنف في ولاية راخين - صور الأقمار الصناعية الأخيرة الصادرة عن منظمة العفو الدولية (غيتي)[/caption]

من هذه الأقاليم: أراكان، الإقليم الذي تجري فيه الاضطرابات التي تشغل العالم اليوم. هاجرت إليه مجاميع من (الراخين) بعد العام 1000 من الميلاد، ولم تستقر تبعية الإقليم آنذاك لجهة محددة. فخلال سبعة قرون، تنقّل الإقليم بين الاعتماد على بورما المركزية، وبعض الممالك المجاورة، كمملكة بنغلاديش أو غيرها من الأمم الهندية، وبين فترات يزعم المسلمون من أهل البلد أن أسلافهم حكموا فيها لفترات متقطعة. ويحفظ الراخيون من الطوائف الأخرى روايات مختلفة، ولكن يتفق الجميع أنه وفي العام 1784 تمّ ضم أراكان إلى مملكة بورما بشكل رسمي بحملةٍ عسكرية قادها الملك بودابيا. هذا التحرك استفز بريطانيا التي تحكم الهند آنذاك، واشتعلت بسببه الحرب الإنجليزية البورمية الأولى في العام 1824، ونتج عن ذلك فصل أراكان عن بورما، واستمرّ ذلك حتى سقطت مملكة بورما ذاتها في العام 1880 في يد بريطانيا، فظَلّا معاً تحت الاستعمار، واستقلّا معاً كدولة واحدة في العام 1948، ولكن بتفوّقٍ لثقافة بورما القديمة، التي حوّلت اسم الإقليم (أراكان) إلى أرخين، وبنيت الحدود الجديدة بعد الاستقلال على ما كان في العام 1824. واشتعلت إشكالية كبيرة في كل الدولة بسبب سوء إدارتها للأقليات كلها، ومن بينها حالة الإقليم في أراكان. ولكن الأخيرة هي الأكثر تعقيداً.



روهينغيا أم مسلمون: حينما يتحوّل الحل التكتيكي إلى جحيم دائم




السؤال الجوهري الذي تعود إليه كل النقاشات التي تحكم الخلافات الحالية في ميانمار، تَلخّص في سياقه القانوني لما جوابه: إن تحديد حق المواطنة عند تأسيس بورما وبعد خروج المستعمر منها اعتمد على معيار وجود أسلافه في بورما قبل دخول المستعمر إلى أراكان في العام 1823. وهي السنة التي سبقت الحرب الأنجلو بورمية الأولى.
في دراسةٍ تناولت «واقع الثقافة الإسلامية في بورما»، يقول الباحث سيف حافظ: «إن اسم الروهينغيا يعبر عن عرقية المسلمين المضطهدين، وهي من العرقيات المتأصلة، ونشأت بعد أن اختلط عدد من القوميات، من العرب والفرس والترك والهنود والمغول، وسكنت منطقة أراكان، وكانوا حكاماً وملوكاً في مملكة أراكان، وتطلق أيضاً على لغتهم». يَعبُر كلام الباحث فوق معنى العرقية دون انتباه. والباحث نفسه يتحدث عن «جماعة مختلطة». الأمر الذي يثير السؤال: لماذا يصر المدافعون عن المسلمين في أراكان على تقديمهم كأقلية ذات هوية مشتركة؟ وهل هذا مُجدٍ؟
يقوم المؤرخ الفرنسي المتخصص في تاريخ الروهينغيا، جاك ليدر «بلفت الانتباه إلى دور التاريخ وكتابة التاريخ الناقصة في التمثيل الراهن للصراع. وهي تدعم الحجّة بأن المسلمين والبوذيين يتمسّكون اليوم بمجموعتين من الهويات، تستبعد إحداهما الأخرى بناء على ادعاءات متنافسة تتعلّق بتاريخ البلد وجغرافيته. ولا تتقاسم الطائفتان رواية وطنية عن أراكان بوصفها موطنهما، إذ لا تقرّ الرواية البوذية بدور المسلمين، ويُتجاهل دور الحضارة البوذية السائدة في أراكان في التاريخ الذي يعيد الروهينغيون المسلمون روايته. وفي حين أن السجل التاريخي البوذي يعود إلى القرن الخامس عشر، فإن تعريف هوية مسلمة محددة ومشروع كتابة تاريخ للمسلمين (من حيث إنهم مجتمع منفصل يدعى الروهينغيين)، حديث إلى حدّ ما».

يُعرَف في الوسط الأكاديمي الدكتور عظيم إبراهيم بأنه دارس مهم تبنّى قضية الروهينغيا، وأصدر في هذا كتاباً مهماً، قدّمه الحائز على جائزة السلام، البنغلاديشي يونس محمود. الكتاب ربما هو أفضل دفاعٍ عن القضية، حاول خلاله أن يبني الدفاع لا على العواطف المبذولة، وإنما على سدّ الثغرات التاريخية التي فرّقت بين الأراكانيين، وبين البورميين من الأقاليم الأخرى. ولكنه كأي متبنٍ لقضيّة ما، لم يستطع تجاوز كل هذه الثغرات. ولكنه نجح في التحذير من إبادة جماعية، اعتماداً على سياق انتشار خطاب الكراهية، وتمَأسُس العنف الديني المشترك، وتحقُّق سيرة متوارثة لهويات منعزلة، وكلها إشارات خطيرة تشير إلى أن الاحتقان يدخل مرحلة من الجدية يجب الانتباه لها. ولكن على نقيضه، يَعتبِر الميّالون للرواية الرسمية أن هذه الجهود التي يبذلها من يزعمون وجود تعمّد لإبادة المسلمين، أنهم يخدمون أجندة «تسييس» القضية، ويحاولون دفع المجتمع الدولي لقبول المهاجرين كمواطنين. وقد يضيفون أن هذه الجهود يجب أن تنصب على إقناع بنغلاديش بقبول الفارين من بورما إلى السواحل البنغلاديشية!

[caption id="attachment_55261518" align="aligncenter" width="1024"]محاولات الروهينغيا اليائسة للوصول بالقوارب من ميانمار عبر الطرق الأكثر صعوبة في جزيرة شاه باري وبازار كوكس بنغلاديش - 16 سبتمبر 2017 (غيتي) محاولات الروهينغيا اليائسة للوصول بالقوارب من ميانمار عبر الطرق الأكثر صعوبة في جزيرة شاه باري وبازار كوكس بنغلاديش - 16 سبتمبر 2017 (غيتي)[/caption]


النقاشات المستمرّة التي يستخدمها المؤيدون لعظيم إبراهيم تّتخذ مداخلها في التاريخ، وتبدأ بمملكة باغان القديمة وما شهدته من هجرات، وذلك سعياً لتأكيد وجود الروهينغيا قبل العام 1823، وهو العام الذي سيُعتبر المحدد الأبرز لحق المواطنة بعد إعلان الاستقلال. وفي باب تثبيت الوجود وتأكيده، يعود إبراهيم لتقارير إنجليزية منذ زمن تشارلز باتون (1791 - 1830)، والتي دلّلت على وجود ثلاثين ألف مسلم موزعين بين عرقيات الروهينغيا في الشمال والكاميين، وهذا يؤدي إلى نفي أن يكون كل المسلمين في بورما من الروهينغيا أو حتى من إقليم واحد. وليس كل المسلمين في بورما يعانون من مشكلات. قد يعضّد هذا الزعم ما يقوله الباحث سيف حافظ، وينقل أن في بورما أكثر من 2290 مسجد حسب التعدادات الرسمية، و5000 مسجد حسب تقديرات المسلمين، وهي مساجد متوزعة على كل الدولة، ومنها المسجد السورتي، والمسجد الصيني ومنقالا وبيت الفيل في مندلي، وجامع تشوليا ومسجد درقا والجامع السُّني البنغالي ومسجد محمد جان في العاصمة القديمة. وهذه المساجد يختلف طراز بنيانها بين المغولي والهندي والصيني وغيرها، ويختلف المسلمون فيها بين الشافعية والأحناف. ويحاول بعض الإيرانيين الحديث عن نِسب متفاوتة للشيعة الجعفرية والإسماعيلية.

وبالعودة إلى أراكان، يلاحِظ جاك ليدر أن ثمن إعادة إنشاء المسلمين (بالضرورة، من أصول ذات أسماء مختلفة، بنغالية وشيتاغونغية وباكستانية، في أراكان) باعتبارهم مجموعة عرقية متميّزة في بورما/ ميانمار، انطوى على إنكارٍ مستمرّ لجذورهم الثقافية والتاريخية في منطقة شمال خليج البنغال الواسعة. وبرفض الأصول الأكثر وضوحاً، ورفض حقيقة تدفّق الهجرة في الفترة الاستعمارية، فإن القادة الروهينغيين فصلوا طائفتهم - لأسباب سياسية - عن سائر الطائفة الهندية في بورما/ ميانمار، لا سيما ذوي الأصول البنغالية الشرقية، وعن المجتمع المسلم العريض في بورما/ ميانمار، وعن أشقائهم في جنوبي شرق بنغلاديش/ باكستان الشرقية. وعند العودة إلى التاريخ الحديث، من الصعب إنكار أن المثقّفين الذين يحملون الهوية الروهينغية المعاصرة، هم دعاة لشخصية فردية حكمت على الطائفة الإسلامية بحالة من العزلة الذاتية.



متى بدأت المشكلة؟ ولماذا تتعمّق؟




المشكلة موجودة في العقلية المتأرجحة والرافضة لتقبل الآخر، والتي أُضيفت إليها إشكاليات متوارثة، فالنسيج المختلف من المسلمين في أراكان، تشكل في الغالب من هجرات متعددة، الأولى قبل الغزو الإنجليزي في 1823 وربما قبل الغزو البورمي في 1784، والهجرة التالية جاءت من الهنود بعد 1823 و1880، وأخيرا كان ما هو بعد احتلال اليابان لبورما العام 1941. وكانت هذه الفترة جوهرية في الذاكرة المشتركة للصراع، لأن البريطانيين جنّدوا بعض المسلمين من أراكان في المخابرات البريطانية لجمع معلومات والقيام بغارات ضد اليابايين والبورميين كما يقول سيف حافظ في رسالته.


[caption id="attachment_55261519" align="aligncenter" width="1024"]لاجئ من الروهينغيا يحاول النجاة بنفسه بعد  انقلاب قارب مع مجموعة من اللاجئين  أثناء محاولتهم الفرار من التطهير العرقي في ميانمار (غيتي) لاجئ من الروهينغيا يحاول النجاة بنفسه بعد انقلاب قارب مع مجموعة من اللاجئين أثناء محاولتهم الفرار من التطهير العرقي في ميانمار (غيتي)[/caption]

حسناً، لماذا حاول المسلمون خلق هوية عرقية؟ يعود هذا لظروف سياسية فرضتها اتفاقية بانغلُنغ (Panglong Agreement) في 12 فبراير (شباط) 1947، المعقودة بين الجنرال أونغ سان والممثّلين عن الأعراق غير البورمية، حينما مُنحت استقلالاً ذاتياً سياسياً ومالياً للمناطق الحدودية التي تسكنها أقليّات الشان والكاشين والتشين العرقية. كما أن دفعة لاحقة لحصص الحقوقيين جرت في دستور 1974، تضمنت إنشاء تقسيمات إدارية منفصلة لاحقة للمون والكارين والكاياه الأراكانيين (الراخينيين)، والاتفاقان اتبعا خطوط الأقليات العرقية حصرياً. وهنا تكمن ملاحظة يكررها الباحثون، وهي أن الاعتراف بالأعراق يشكّل شرطاً لا بدّ منه لبناء أي مشروع سياسي للأقليات في الأطراف. وعليه حاول الروهينغيون الانسجام مع هذه القاعدة، عندما اضطلعت جبهتهم السياسية بمهمة تحقيق الاعتراف بمنطقة إسلامية مستقلّة ذاتياً في شمال أراكان، تشمل ماونغدو، وبوثيداونغ، وجزءاً من ناحية راثيداونغ. يقول جاك ليدر هنا: «وللتوصّل إلى مكانة سياسية منفصلة، كان لا بدّ من إنشاء مؤهّلات التميّز العرقي. وسعت لنيل الاعتراف باعتبارها مجموعة عرقية. وأضيف الدين لأنهم لم يريدوا أن يكونوا جزءاً من ولاية أراكان المنفصلة التي يهيمن عليها البوذيون، وهو طلب نوقش لأول مرة في الفترة البرلمانية». ولكن من ناحية أخرى، كان الراخينيون البوذيون يعارضون بشدّة إنشاء منطقة حصرية للمسلمين، مما يعني بالنسبة إليهم فقداناً فعلياً لجزء مما يرونه وطنهم.

تداخلت هذه العوامل لتشكل عناصر تعقيد، سياسية ودينية، بالإضافة إلى العامل الاقتصادي الذي كان رئيسياً، فبقية سكان الإقليم كانوا ينظرون إلى الهجرات الثلاث كمهدد لمصدر رزقهم وربما هويتهم، كما ذكر في تقارير بريطانية منذ 1908 عن أن استمرار الهجرات سيغير طبيعة الإقليم لصالح الثقافة البنغالية، ثم إن هذا التخوف صار أكثر ضراوة قبل الاستقلال حينما نجح المهاجرون في فرض أنفسهم على سوق العمل. هذا العامل الاقتصادي يتم تجاوزه في النقاشات.



أطوار الأزمة: آجال متناسلة




بين 1948 و1961 كان من الروهينغيا أعضاء في البرلمان، ودعَم بعضهم حزب البرنامج الاشتراكي (Burmese Way to Socialism)، ودخل بعضهم في جامعة رانغون (Rangoon University) في 1961، وبخجل تم التصريح باسمهم في التعداد. يُستشف من ذلك أن التمييز لم يكن ممنهجاً حتى الانقلاب، وحتى إن وُجد فإنه لم يواجه الروهينغيا جميعاً، ولكنّه خصّ المهاجرين الهنود، وكان قانون التسجيل 1951 قد قلل من وتيرة استخراج الروهينغيا للوثائق، أما بعد الانقلاب فقد انمحت الفوارق، وبدأت السياسات التمييزية في التصاعد حتى عام 1974، حين بدأ التهجير القسري، ومُنحت لهم البطاقات التعريفية البيضاء التي تنتقص من مواطنيتهم. كان المحدد الكارثي، هو تضمين شرط أن يكون الأبوان منحدرين من سكانٍ أقاموا في البلاد قبل 1823. وقد أدى سحب الجنسية واستبدالها بالبطاقات البيضاء إلى تقييد التحرك، وأدى القهر إلى هجرات إلى بنغلاديش، وبعد 1977 تم إجراء حملة فردية للتعرف على كل فرد، أسفر عنها هجرة (200) ألف شخص إلى بنغلاديش التي لم تكن أكثر رحمة من بورما، وأصرّت على إعادتهم!
لاحقاً وفي العام 1982 أغلق قانون الجنسية فرص المواطنة الكاملة للروهينغيا. وأوجد ثلاث فئات من المواطنة، لم تكن موجودة من قبل: «المواطنة الكاملة»، و«المواطنة بالانتساب أو الإلحاق»، و«المواطنة بالتجنيس». وجاءت كل فئة من فئات المواطنة مع حزمة مقابلة لها من الحقوق. وكان «المواطن بالانتساب» هو الشخص الذي استوفى بعض المؤهلات، ثم تقدم بطلب للحصول على الجنسية قبل سريان القانون. وكان وضع «المواطن المتجنس» متاحاً للرعايا الأجانب الذين يمكن أن يقدموا دليلاً على أنهم أو والديهم أقاموا في ميانمار قبل الاستقلال، ولمن كان أحد والديه على الأقل قد وفى بمعايير أي من الفئات الثلاث المنشأة حديثاً من الجنسية. ويمكن تجريد هذه الفئة من الجنسية بسهولة نسبياً. وعلى غرار قانون عام 1948، ينص قانون المواطنة على أن «المواطنة الكاملة» ستمدد فقط لمن ينتمون إلى العرقيات الأصلية. لم يكن الروهينغيا من بينها، وربما كان الإصرار على وصفهم بالمهاجرين من بنغلاديش، لتشجيعهم للحصول على المواطنة من الدرجة الثانية، واستصدرت شهادات تسجيل مؤقتة.

[caption id="attachment_55261520" align="aligncenter" width="594"]اللاجئون الروهينغيا ينتظرون المساعدات المطلوبة بشدة في كوتوبالونغ - بنغلاديش. 17 سبتمبر 2017 (غيتي) اللاجئون الروهينغيا ينتظرون المساعدات المطلوبة بشدة في كوتوبالونغ - بنغلاديش. 17 سبتمبر 2017 (غيتي)[/caption]

سُمح للروهينغيا بالمشاركة في انتخابات 1988، التي تلت سنة الاحتجاجات الكبيرة في رانغون، والتي انتهت بتغيير في هرم السلطة. مشاركة الروهينغيا كانت تحت بنود قوانين سُنّت في 1982. فشلت الحكومة في إدارة الدولة، فكان ثمة تغيير في 1992، وكان التمرّد في كل البلاد، فطالت الهجمات العقابية أراكان، وزاد العنف، وهاجر ربع مليون شخص، وكان يتم إحلال سكان جدد محل كل مهاجر، وعليه فقد تكوّن في الإقليم مجتمع فيه «المُهاجر» و«العائد» و«مهاجر ثانٍ»، وسكان جدد يتحالفون مع الجيش فيكتسبون أصالة، فتمّ تغيير التركيبة الاجتماعية. وبعد ذلك جرى تحديد النسل بالنسبة لفئة من السكان، وهو ما تحوّل لاحقاً إلى قانون.
التسعينات كانت فترة مضطربة، والدولة كانت تواجه مشكلات في الأطراف مع كثير من العرقيات، حيث أقامت اتفاقية مع الكاشين في 1995 وقمعت الكارين قبل أن تتفق معهم في تايلند في العام 1997، والمآسي كانت بالتساوي بين الجميع، وقضية الفشل في إدارة ملف الأراكانيين كان واحداً من الملفات الكثيرة التي تواجه الدولة المعقدة.
في دستور 2007، تعزز حرمان الروهينغيا، الذين كانوا يعانون من قيود دستور 1982، وأعقب ذلك تحالف الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية مع المتطرفين في أرخين، الذين يمثلهم الحزب الوطني في أراكان (Arakan National Party) (ANP)، ورضخوا لمؤامراتهم الرامية لشطب الروهينغيا تماماً من سجلات الانتخابات. وهنا يجب الانتباه إلى أن المشكلة بشكل ما انتقلت إلى داخل الإقليم بعد أن اختمر التطرف لسنوات، بين مسلمي أرخين وبوذييه. لقد دخلت الأزمة مرحلة معقدة بثلاثية (الدولة البورمية ضد البوذيين من الراخين، والدولة البورمية مقابل الروهينغيا المسلمين، والراخيين البوذيين مقابل الروهينغيا المسلمين).
استمرت الأزمة بين عامي 2008 و2012، وحينما نقلتها وسائل الإعلام، اعتبرتها أميركا أزمة دينية لمّا هُدِّمت المساجد بحجة أنها بُنِيت بلا إذنٍ رسمي، ولاحظَت الدول إعلان المتطرفين لبعض مناطق الإقليم «محررة من المسلمين» إشارات للإبادة. علاوة على ذلك، تم بناء معابد بوذية في مناطق لا يوجد فيها أي بوذي، ونشطت عمليات التبشير بالبوذية، وجرى ترغيب المسلمين للدخول فيها، برفع قيود السفر والانتقال عمن يفعل ذلك منهم، كل هذا كان إشارة لتحوّل كبير.

بدأت الأحداث في 2012 بعد اغتصاب ثلاثة رجال لامرأة بوذية، بعدها أوقف البوذيون مركبةً وقتلوا (10) مسلمين من بين ركابها، واندلعت الشرارة، وعلى الرغم من مزاعم قوية وإشارات حشدها كثيرون تدل على ضلوع القوات النظامية في التجاوزات، فإنّ أميركا والاتحاد الأوروبي أشادا بحكمة الجيش في إدارة الأزمة بطريقة احترافية وغير متحيزة.
كان العنف الأول في يونيو (حزيران)، واستمر كموجة أولى، وبحلول أكتوبر (تشرين الأول)، كان الرهبان قد قدّموا لدعاية التحريض على مقاطعة المسلمين اقتصادياً وخنقهم بالنبذ، قال أحد الرهبان: «يمكن للروهينغيا أن يهاجروا إلى أي بلد إسلامي، هناك بلدان كثيرة!». هذا وقد هاجم حزب تنمية قوميات الراخين (Rakhine Nationalities Development Party) (RNDP) كل من لم يلتزم بمقاطعة المسلمين الروهينغيا، وروّج لنظرية تربط الروهينغيا بـ«القاعدة»، وأنّ المساجد هي محطات لتجميع الأسلحة لإبادة البوذيين، وقد كتب مدير مكتب الرئيس تعليقاً على صفحته في «فيسبوك» يقول فيه: «هؤلاء الذين يعبرون الحدود بأسلحتهم ويريدون إبادة البوذيين سنلقنهم درساً... لا نريد أي حديث عن حقوق الإنسان بعد اليوم»!



هل الدين عامل محدد في الأزمة؟




نعم ولا.
برزت خلافات جادة بين النخب التي حققت الاستقلال في بدايات تشكل بورما الدولة، ولأن السياق الذي وصل للاستقلال كان عسكرياً في بدايته، كانت الخلافات المهمة هي التي داخل الجيش، لأن الجنرالات تحولوا بعد الاستقلال إلى سياسيين. دارت الخلافات حول المنهج، وكثير من القضايا أبرزها استيعاب الأقليات والعرقيات المختلفة. كان الجنرال أونغ سان من الذين يرون ضرورة اتساع الدولة الجديدة للجميع، وبذا تكون المواطنة هي المعيار لكل من يقطن داخل حدودها. بالطبع رأيه وجد معارضة نسبية داخل الجيش، ودور الجيش نفسه كان مثار خلاف، هل يكون جيشاً للدولة محكوماً بإرادة رئيس مدني، أم إنه يجب أن يكون حاكماً؟ الرأي الأخير يمثّله ني وين (Ne Win) الذي قاد انقلاب 1962، أما رأي أونغ سان فقد دُفن معه في 1947. خلاف آخر حول الدين ودوره في المجال العام، كشأن كل مجتمع يصارع للخروج من الاستعمار، فيستغرق الصراع بين الأصولية والمعاصرة أو الحداثة في بورما. واصلت Maha Thiri Thudhamma Khin Kyi وهي زوجة الجنرال وين النضال بعده، وتبنّت الخيار العلماني لمستقبل بورما، ولكن مرةً أخرى كان الانقلاب قبراً للطموحات المدنية، فبرز خيار اعتماد الدين في المواطنة، كالموالي الأهم للسلطة الجديدة التي ما فتئت تدعمه، للحد الذي جعل أن تكون بورمياً يتطلب أن تكون بوذياً! فتحوّل الحال بعد الفترة الديمقراطية 1948 إلى 1962، إذ كانت البوذية مجرد محدد أخلاقي. لاحقاً وفي 1970 تمّ تسميتها ديناً رسمياً للدولة، ومُوّلت الأديرة، واستخدم الجنرالات الشرعية الدينية. لا يمكن هنا تجاهل التنظيرات المتأثرة بالحرب الباردة، واستخدام الدين ودعمه ضد تمدد التيارات الشيوعية، فقد كانت الدولة الحليفة للمعسكر الغربي بقيادة أميركا وفرنسا تدعم هذا المزيج عبر خطط عزل مهمة، أدت في هذه الحالة التدينية إلى الدفع بتسيس البوذية التيرفادية ومنحها قوّة بتصالحها مع الجيش، ضد المعارضة الديمقراطية العلمانية اليسارية، وضد الشيوعية، وكما هي العادة فإن الأمور تتطور بسرعة لا يدركها أحد، حتى تصل لتطرُّف مؤسَّس. لا يفوتنا هنا أن نذكر أن الإقليم ذاته ظل مسرحاً للتيارات على مدى عقود، حيث كان موطناً للمتمردين الشيوعيين، ومنظمات راخين الداعية للاستقلال والحكم الذاتي والفيدرالية، والانفصاليين المسلمين.


[caption id="attachment_55261521" align="aligncenter" width="594"]خرج مئات المسلمين إلى الشوارع للتنديد بعمليات التطهير العرقي في ميانمار – روما/ إيطاليا- 18 سبتمبر 2017. (غيتي) خرج مئات المسلمين إلى الشوارع للتنديد بعمليات التطهير العرقي في ميانمار – روما/ إيطاليا- 18 سبتمبر 2017. (غيتي)[/caption]

التحالف بين الدين السياسي والسلطة، لا يمكن أن يستمر طويلاً، فما يفتأ التدين السياسي أن يتحول إلى راغب في التسّيد، أو يحرج أمام السيل الشعبي. وبالفعل، في بورما كان الشارع الديني (البوذي) مستعداً للانتقال بين مراكز القوى أو الانقسام بينها، فبعد موجة القمع التي أحدثتها السلطات في العام 1988، شكّلت الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية والرهبان البوذيون تحالفاً، واقتربا من بعضهما البعض، وتكرر هذا في سبتمبر (أيلول) 2007 حينما وقعت ثورة سفارون (Saffron revolution)، والتي شارك فيها الرهبان، وهم يَقلِبون وعاء الصدقة، وهي حركة ترمز لسحبهم الشرعية البوذية عن النظام، يومها هاجم الجيش الجميع دون تفريق، وأغلق عدداً من الأديرة، هذا القمع أدى إلى تعزيز التحالف بين الرهبان والرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، وهذا ما قد مثّل مشكلة فيما بعد.

حينما ضربها الإعصار (نرجس) بقوة عام 2008، رفضت الحكومة في البداية إعلان البلاد منكوبة، وبعد أسبوع سمحت رابطة دول جنوبي شرق آسيا (آسيان) (Association of Southeast Asian Nations) (ASEAN) فقط بالتدخّل، ولكن بعد ضغط دولي فتحت المجال للأمم المتحدة، بعد أن صار الحديث جديّاً في المجتمع الدولي أن السلطة البورمية تمثل خطراً على شعبها. يزعم الكاتب أن المساعدات وُزّعت على المناصرين فقط، وفسّر تأخرها، بأن المنطقة التي ضربتها الأعاصير كانت في غالبها مقطونة بالكارن الذين تمتلئ خارطة تاريخهم مع الجيش بالندوب. على أية حال، فقد حرّك غياب الجيش عن المساعدة الكثيرين، وأثار الحنق بين صفوفهم. لقد كان الفشل في إدارة هذه الأزمة سبباً في تقويض ما تبقّى من شرعية في أعين الشعب وأدى ربما إلى زيادة الضغط على الجيش، الذي رضخ جزئياً في 2010.



من يدفع الثمن لتحالف التطرف والديمقراطية؟




في محاضرات علوم الإرهاب، دائماً ما يتم استخدام مثال الجيش الأحمر الآيرلندي والحراك الآيرلندي بشكل عام، فعلى الرغم من تصنيفه كحركة إرهابية منذ القديم، فإن السجلات توضح كيف أن ساسة كباراً في أميركا من جذور آيرلندية، يتجاهلون الحديث عنه، لأن إدانته علناً ستتسبب بخسارتهم لجماعة مؤثرة من ناخبيهم، كما حدث أيضاً في بعض الدول العربية في شمال أفريقيا حين حاولت أن لا تدين التطرف بغرض الحفاظ على ناخبين في الانتخابات التي تلت اضطرابات 2012. هذه الظاهرة التي توصف بإشكالية الوزن السياسي للتطرف، ظهرت بجلاء في ميانمار، وقد تكون هي واحدة من أوضح التفسيرات لصمت رئيسة الوزراء الحالية على الأحداث الراهنة، وبعض تصرفاتها قبل عامين حينما امتنعت عن المشاركة في لقاء أعدته فتاة مسلمة. وفي الأزمة الراهنة في العام 2017 وصف مكتبها الحملة العالمية ضد ميانمار بأنها تأتي بناء على أنباء مضللة.
يقول بعض الصحافيين إنهم، وفي جلسات خاصة، يشعرون بأن الحكومة ينمو لديها وعي بأن التطرف تمادى ويجب لجمُه، وبالطبع فلا يمكن أن يُعبّروا عن ذلك علناً، خوفاً من سطوة المتطرفين وجماهيريتهم، فانتقاد واحد قد ينهي حياتك السياسية!

يمكن تفهّم أنه وخلال السنوات الأخيرة تضاءلت الآمال بولادة حل قريب، فالروهينغيون يقولون إنه لم يعد للجماعة أي دور مرئي في ميانمار، آخر وثائقهم الثبوتية انتهت، وجرت الانتخابات دون مشاركة أي مسلم حتى من خارج راخين، وكان تعداد 2014 الذي موّلته الأمم المتحدة قد رفض إدراجهم تحت اسم الروهينغيا، وإنما كبنغاليين. يُكرّر الكاتب هذه المعلومة في كثير من صفحات الكتاب لأنها جوهرية، لكن هناك ما هو قبلها، ففي 2013، اقترح حزب التضامن والتنمية الاتحادي أن يصوِّت حمَلة البطاقات البيضاء على التعديلات الدستورية، فثار المتطرفون، وتراجع الحزب بالطبع، وصدر تصريح رسمي من الحكومة بأن البطاقات ستفقد صلاحيتها بعد مارس (آذار) 2015، وقد كان. وهذا يلغي الحقوق المقيّدة أصلاً والتي كانت تتوافر من سفر وتعليم وصحة.
الروهينغيا الآن يرون أنفسهم الهدف الأسهل للجميع، والرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية قدّمت تنازلات للمتطرفين، ولكن المتفائلين يقولون: إن هذا موقف مؤقت، فالحزب وصفته جماعة (MaBaTh) البوذية المتطرفة بأنه صديق للمسلمين، لأنه عمل على تعطيل قوانين الحد من الزواج بالمسلمين، وعلى ذلك فهو يعطّل حماية المجتمع، فاتّجهتْ الجماعة بدعمها نحو حزب التضامن والتنمية الاتحادي، ولكن «عظيم إبراهيم» في سياق دعمه لفرضية أدلجة الأزمة ودينيتها يلمح إلى أن السيدة أونغ سان سو تشي كتبت في الثمانينات ما يدل على إيمانها العميق بالنيرفادا وفلسفتها، ولو أنها ما زالت تحمل هذه الأفكار فإن موقفها لن يكون عابراً.
من الملاحظ أن التعصّب يتركز بشكل أساسي على الذين في مناطق التماس، والذين خلقت الأزمة ذاكرتهم، والأصغر سناً، فالنماذج الإيجابية داخل نظام الرهبنة، يمثلها الرهبان الأكبر سناً من رهبان الحركات الحديثة التي تَمَأسس فيها العنف، كحركة 969. وتبرز بعض الومضات من الرهبان الكبار، فمثلاً حينما اندلع عنف بسبب حرق رجل مسلم لامرأة بوذية، وقُتل الرجل وهُجّر الآلاف، قام رهبان بوذيون بمساعدة المسلمين، وغالباً يكون هؤلاء من الذين شاركوا في انتفاضات 1988.


الحلول المؤقتة الخاطئة: مشكلات دائمة



أنتجت الثقافة السياسية البورمية مجموعات مضطهدة، ففي ذهن السلطة أن الحل يكمن في فصل المسلمين عن البوذيين في أرخين، حيث المخيمات المبعثرة تؤوي اللاجئين، ومن هم في المدن يعانون بؤساً وفقراً ومرضاً وجوعاً لا يطاق. هذه السياسة كارثية على كل المستويات، والمسلمون لم يكونوا منعزلين في تاريخ ميانمار، حيث كان لهم مستشفى يساعَدون به في أرجون، ولهم مساهمات لخلق ثقافة وطنية، ولكن ثقافة العزل تأكل حتى الذاكرة الوطنية الواحدة.
مأساة أراكان هي الاختبار للديمقراطية الشكلية، والجواب الأنموذجي هو أن الحكومات عموماً، والحكومات الديمقراطيّة بشكل أخصّ، تُقيَّم بحمايتها للضعفاء من مواطنيها، فالديمقراطية لا تضمن حكم الأغلبية على إطلاقه، بل إن من مسؤولياتها أن تجيب علن سؤال: «كيف تضمن أن صوت الأغلبية لا يسحق صوت الأقليات؟» لذلك فحتى لو أخذتنا حريّات الصندوق والأحزاب، فإنّ المواجهة الحقيقية يجب أن تكون في استصحاب «حقوق الإنسان» من ضمن التحديات لكل بلدٍ يريد الانتقال من حكم الفرد إلى الحكومة الديمقراطية.
بيد أن تاريخ الجهاد والهجرة، والعمليات المتطوّرة التي قادتها الجماعة الفاعلة، كان لها أثر في تشظّي المسلمين وانفطارهم عن الهويّة البورمية، وإن كان هذا في مرحلة سابقة، إلا أن فتح الباب لدراسة المأساة الإنسانية، في مظلة تُجافي العرقيّة وتنظر للفرد كإنسان، طريق حل يمكن سلوكه، فبقدر ما حاول البوذيون جعل كل بورمي بوذياً، يمكن ادعاء أن الطروحات الروهينغية جعلت كل مسلم أراكاني روهينغياً، فقتلت التعدد الذي يمكن أن يخفف الاحتقان ويفسح مجالاً للحل.



خلاصة... هذه المشكلة فأين الحل؟




مرّت أغلب الدول بعد استقلالها بحالات عميقة من الاضطراب المجتمعي، مردُّه سوء إدارة الدولة والتنازع بين الهويّات، وأفضت كثير من الحالات إلى فشل، تنفصل بفعله أقاليم، عن مجتمع تحكمه أغلبية متديّنة أو متعصبة لقوميتها.
ولأن التاريخ في القرن الماضي هو تاريخ جماعات لا تاريخ دول، يبدو فيه كل آخر، خائناً ومتخاذلاً وغير عادل، لأننا ننظر فيه إليه بوصفه جسماً منافساً، ولا يستطيع أحد الزعم بأنّ التاريخ المبني على تصور الدولة تبلور بسهولة ربما إلى اليوم، وهناك الكثير من المرارات حتى بعد تشكل الدول، مرارات تشد أطراف الأديان الممتدة على أصقاع الأرض، فتقوّض تركيبة الدولة، وأحداث تحرّك الخطوط الانقسامية التي إذا ما أثيرت تزيد الدولة هشاشة، وضعفاً، وكل هذا لا مناص أمام مواجهته، بحسم قضية الدولة وقضية المعايير الإنسانية. فالمواطنة لا تحكمها الهجرات وإنما حقوق الإنسان، والدولة لكي تفي بعهد العقد الاجتماعي عليها أن تكون فوق الجميع وملكاً لهم بالتساوي.

جلي من هذا السرد أن مجال المصالحة الوطنية يحتاج إلى كثير من التعاطي الذي يُعبّد للوصول إليه، فهذه الحروب التي تجد جذورها في التاريخ، إنما هي نتوء في نفوس لم تتصالح، وذاكرة لم يحسن إدارتها، والكثير من مبادرات التسامح إذا أرادت أن تتقدم فهي مطالبة بالاعتراف والمصالحة.
تمنح الأزمات وقوداً للتطرف، وتدفع باتجاه واضح لمحو «ثقافة» الدولة لصالح الهويّات الأخرى، فيزداد الموالون فيها لصالح ضامن الجماعة ومغذيها، كالدين أو العرق أو القبيلة، كما قد يجري اختراعه. والمطلوب لتفادي ذلك هو تحرير العقل من الأزمة، والاتجاه لدراستها بوصفها إنسانية، وتفكيكها على هذا الأساس، ونقلها كعظة، لضرورة التصالح والتواؤم والحلول الوسطى.

ما يحتاجه المسلمون في أراكان هو نفسه ما يحتاجه المتعصبون هناك، إنه الانفتاح مع التاريخ، والاستفادة من أخطاء الاصطفافات، وإحداث مراجعات، وقد يطول النقاش ولكن لا مناص من الدخول في حوارات حقيقية، تنسف الأسبقيات، وتتضمن اعترافات بسوء التقدير، وتلجأ إلى الإيمان بضرورة العيش المشترك.
وختاماً، ما دامت البشرية تراضت على المبادئ الإنسانية، ومنها عولمة التراحم، وسعت للتعاون والتقارب، فإن ذلك يقودنا للقول إن كل ثقافة لا تحارب التطرف داخلها فإنها تخون العهد، وكل ثقافة لا ترغب في ترميم الجراح، وسياسة الذاكرة فهي تخذل منظومة القيم الحقيقة. ولن يفتت سدّ التاريخ إلا نور الحوار. فما هو التسامح إن لم يكن تسامحاً مع ما لا نستطيع التسامح معه؟!

*باحث وكاتب سوداني


font change