القاعدة العسكرية الصينية في أفغانستان بين النفي والإثبات

في ظل الوجود الأميركي، الروسي، الإيراني، الهندي، الباكستاني على الأرض الأفغانية

القاعدة العسكرية الصينية في أفغانستان بين النفي والإثبات

[caption id="attachment_55264473" align="aligncenter" width="1280"]صورة أرشيفية للرئيس الصيني شي جين بينغ خلال أستقباله  الرئيس الأفغاني أشرف غني أحمد زاي في قاعة الشعب الكبرى في 28 أكتوبر 2014 في بكين (غيتي). صورة أرشيفية للرئيس الصيني شي جين بينغ خلال أستقباله الرئيس الأفغاني أشرف غني أحمد زاي في قاعة الشعب الكبرى في 28 أكتوبر 2014 في بكين (غيتي).
[/caption]

باكو (جمهورية أذربيجان): أحمد طاهر*

 

* من خلال رؤية الصين العالمية التي تطرحها تحت اسم «طريق الحرير الجديد»... أفغانستان نقطة ارتكاز رئيسية.
* رغم ما تشهده أفغانستان من حالة عدم الاستقرار، حرصت الصين على وجودها الاستثماري والتنموي والإبقاء على القوى العاملة في أفغانستان مع الالتزام بتنفيذ كافة التزاماتها
* اتهمت بكين طالبان بدعم الانفصاليين الإسلاميين في شينغيانغ، فازدادت العلاقات توتراً. ولم يعد الدفء إليها إلا بعد طرد حركة طالبان من السلطة.
* جاء احتلال الإمبراطورية البريطانية أو السوفياتية أو الأميركية لأفغانستان في إطار تتويج مكانتها العالمية.
* اكتسبت أفغانستان أهمية رئيسية لدى صانع القرار الصيني وهو ما تجلى في وجود استثماري تنموي، ودور سياسي عسكري.
* تحرص باكستان على أن لا تفقد تأثيرها في الساحة الأفغانية بل تسعى إلى أن تصبح شريكا رئيسيا يُعتمد عليه في إحقاق السلام في أفغانستان.
* مستقبل أفغانستان لا يبشر بنجاح المصالحة السياسية أو استعادة الأمن والاستقرار في ظل وجودها ضمن خريطة الصراعات القادمة بين الأقطاب العالمية.




ليست مبالغةً القول إن القدر فرض على أفغانستان أن تظل ساحة للصراعات الدولية والإقليمية، إذ إنه سرعان ما ينتهي وجود أجنبي إلا ويتجدد وجود آخر لتبدأ محطة جديدة من محطات الصراع الدولي على الأرض الأفغانية، متخذة من التهديدات التي يواجهها كل طرف ذريعة للتدخل في الشأن الأفغاني، وإن تركزت تلك التهديدات بصفة رئيسية في محاربة الإرهاب، ذلك العدو الذي يتمظهر بأشكال عدة وبصورة متباينة مانحا لكل طرف مبررا للوجود ولإيجاد موطئ قدم له في تلك المنطقة.
وفي ظل الوجود الأميركي، الروسي، الإيراني، الهندي، الباكستاني على الأرض الأفغانية، يأتي الوجود الصيني ليسكب مزيدا من الزيت على النار الملتهبة بين الأطراف كافة، إذ تمثل أفغانستان ساحة لتقاسم النفوذ والصراعات بينهم. صحيح أن الدور الصيني ليس جديدا في أفغانستان إلا أنه من الصحيح أيضا أن هذا الدور شهد خلال الأعوام القليلة الماضية تزايدا ملحوظا ليس فقط على المستوى الاقتصادي والاستثماري أو مستوى المساعدات المقدمة للشعب الأفغاني، وإنما تمدد هذا الوجود ليشمل وجودا عسكريا وكذلك سياسيا، وهو ما يثير التساؤلات حول دوافع الوجود الصيني في أفغانستان، وما هي آلياته ووسائله؟ وكيف يدير هذا الوجود علاقته مع الفاعلين الموجودين على الأرض؟ وإلى أي مدى يُسمح للصين بتمدد وجودها؟ وما هي عقبات هذا الوجود إن وجدت؟ وكيف يمكن التغلب عليها؟
 


الصين وأفغانستان: نصف قرن من تأرجح العلاقات بينهما



شهدت العلاقات الصينية الأفغانية، منذ تدشين تبادلهما الدبلوماسي في منتصف خمسينات القرن المنصرم وتحديدا عام 1955، مسارا متعرجا من الوفاق تارة والتوتر مرات كثيرة، وذلك بحسب من كان يسيطر على السلطة في كابل. ففي خمسينات وستينات القرن الماضي، سادت هذه العلاقات أجواء تعاون وثقة متبادلة في ظل حكم محمد ظاهرشاه، رغم الخطاب الراديكالي لنظام ماوتسي تونغ في بكين، حيث شهدت هذه الفترة زيارات متبادلة بين مسؤولي البلدين، فاستقبلت كابل رئيس الوزراء الصيني تشو اين لاي عام 1957، حيث التقى الملك ظاهرشاه وبعض المسؤولين الأفغان. وبعد بضعة أشهر كان محمد داود خان رئيس الوزراء الأفغاني يزور بكين للتوقيع على اتفاقيات تستهدف تعزيز العلاقات البينية وتوطيد أركانها، ليتم تتويج هذه العلاقات عام 1963 بحسم النزاع الحدودي بين البلدين حول ممر داخان الواقع بين ولاية باداخشان وإقليم شينغيانغ الصيني وذلك بخضوعه للسيطرة الأفغانية، وتم على أثر ذلك قيام الملك ظاهرشاه بأول زيارة ملكية أفغانية للصين في العام التالي (1964)، حيث تم التوقيع على أول اتفاقية للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي والثقافي بين البلدين.

ورغم هذا التقارب لم تتأثر علاقات البلدين بالتطورات التي شهدتها الساحة الأفغانية مع وقوع انقلاب عام 1973 بقيادة محمد داود، وتحويل أفغانستان إلى جمهورية، حيث سارعت بكين بالاعتراف بالوضع الجديد، وهو ما حافظ على علاقاتهما على المستوى ذاته، إلا أن الأمر اختلف مع وقوع الانقلاب الشيوعي عام 1978 بقيادة قائد سلاح الجو العميد عبد القادر، الذي حوّل أفغانستان إلى جمهورية شعبية ديمقراطية، فلم تعترف به بكين، وهو ما دفع القادة الأفغان إلى التوجه صوب موسكو، لتدخل علاقاتهما في مرحلة التراجع التي ازدادت تدهورا مع الغزو السوفياتي لأفغانستان في ديسمبر (كانون الأول) 1979. وما تلى ذلك من ظهور الفصائل الجهادية المقاومة للسوفيات انطلاقاً من الأراضي الباكستانية وبدعم أميركي وغربي وإسلامي. وكان من نتائج هذه التطورات تقليص مستوى العلاقات الصينية - الأفغانية إلى مستوى قائم بالأعمال ثم إغلاق السفارة. وحين شهدت أفغانستان حرباً أهلية بين فصائل المجاهدين، وتسلمت بعدها السلطة حركة طالبان عام 1996. اتهمت بكين طالبان بدعم المتمردين والانفصاليين الإسلاميين في إقليم شينغيانغ الصيني، فازدادت العلاقات توتراً. ولم يعد الدفء إليها إلا بعد طرد حركة طالبان من السلطة في مطلع هذا القرن.
 


أفغانستان... مطمع الإمبراطوريات العالمية



شغلت أفغانستان مكانة متميزة في استراتيجيات الإمبراطوريات العالمية، إذ سعت كل منها إلى بسط نفوذها وسيطرتها على هذه المنطقة، فبنظرة معمقة إلى التاريخ نجد أن أفغانستان كانت مرتكزا رئيسيا في استراتيجية المغول في غزوهم للدولة الإسلامية في القرن الثالث عشر الميلادي، حيث رأت القيادة المغولية (جنكيز خان) أن ثمة مقومات مهمة في أفغانستان تمثل مفتاحا لتسهيل مهمته في إسقاط الخلافة الإسلامية، أبرزها: موقعها الاستراتيجي وسط آسيا، فالذي يحتلها سيملك رؤية باتساع 360 درجة على المنطقة بأسرها، حيث يصبح على بُعد خطوات من دول المنطقة مثل باكستان وإيران وروسيا والهند، وبذلك تصبح السيطرة على كامل آسيا - بعد احتلال أفغانستان - أمراً ممكناً.

[caption id="attachment_55264474" align="alignleft" width="594"]جنود أمريكيون يتجمعون في قاعدة قندهار الجوية في أفغانستان في 23 يناير / كانون الثاني 2018  (غيتي) جنود أمريكيون يتجمعون في قاعدة قندهار الجوية في أفغانستان في 23 يناير / كانون الثاني 2018 (غيتي)
[/caption]

وإذا كانت مثل هذه المقومات هي التي دفعت المغول إلى السعي للسيطرة على أفغانستان، وقد نجحوا بالفعل في السيطرة عليها، إلا أنهم لم يستمروا في احتلالها طويلا، إذ انهارت الإمبراطورية المغولية ما بعد جنكيز خان والصراعات بين أبنائه من ناحية، واستعادة الدولة الإسلامية وحدتها وتماسكها تحت قيادة قطز ونجاحها في معركة عين جالوت التي وضعت النهاية لدولة المغول من ناحية أخرى.
ولم يختلف الأمر كثيراً في التاريخ المعاصر، إذ تكررت مطامع الإمبراطوريات المختلفة في السيطرة على أفغانستان وإن تباينت الأسباب والدوافع، إلا أنها لم تستمر هي الأخرى، فقد أُرغمت الإمبراطورية البريطانية على دفن طموحاتها في القرن التاسع عشر، وأُرغمت أيضاً الإمبراطورية السوفياتية أن تسحب قواتها في ثمانينات القرن الماضي بعد هزيمة مذلة، في حين أن الإمبراطورية الأميركية لم تحصد إلا الخيبة بعد حرب دامت 17 عاماً قضتها في أتون حروب عرفت كيف تبدأها، لكنها ما زالت حتى الآن تفتش عمن يُساعدها لإنهائها.

وهنا يبزر التساؤل: هل ثمة تشابه آخر بين ما قامت به هذه الإمبراطوريات في سعيها لاحتلال أفغانستان أو الوجود فيها بأي شكل من الأشكال وبين المسعى الصيني اليوم؟
وتأتي الإجابة على هذا التساؤل لتضع ملاحظة مهمة وهي أن الإمبراطورية سواء البريطانية أو السوفياتية أو الأميركية في احتلالها لأفغانستان جاء في إطار تتويج مكانتها العالمية، بمعنى أكثر وضوحا أن هذه الإمبراطوريات نظرت إلى أفغانستان ما بعد بناء قوتها، فعلى سبيل المثال الدخول البريطاني أو السوفياتي أو الأميركي إلى أفغانستان لم يأت في بداية بناء هذه الإمبراطوريات وإنما جاء قبل نهايات هذه الإمبراطوريات، فإذا نظرنا إلى الاحتلال السوفياتي لأفغانستان كان أواخر عام 1979 أي بعد ما يزيد على نصف قرن من تأسيس الإمبراطورية، في حين أن انهيار الإمبراطورية السوفياتية لم يتأخر كثيرا ما بعد الغزو حيث انهارت مع سقوط سور برلين عام 1989 أي بعد أقل من عشر سنوات فقط من خروجها من أفغانستان. الأمر ذاته تكرر مع الولايات المتحدة حينما دخلت أفغانستان عام 2001 تحت حجة محاربة الإرهاب، إلا أنه منذ ذلك التاريخ تشهد الإمبراطورية الأميركية تراجعا في مكانتها الدولية، حيث تراجعت مكانتها في بنية النظام الدولي من دولة أحادية في قيادة هذا النظام إلى بروز قيادات دولية أخرى على رأسها روسيا والصين.

على الجانب الآخر، شغلت أفغانستان فكر الإمبراطورية المغولية في بداية انطلاقها، إذ رأت فيها – كما سبق القول – مفتاحا مهما لنجاح تمددها الخارجي، وهو النهج ذاته الذي تتبناه الصين اليوم، إذ مع صعودها لقمة النظام العالمي، بدأ اهتمامها بأفغانستان، حيث حظيت بمكانة متميزة في فكر صانع القرار الصيني وهو ما تجلى في كثير من المؤشرات، أبرزها الوجود الاقتصادي والتنموي الصيني في أفغانستان، وكذلك الوجود السياسي والعسكري كما سيتضح لاحقا، وهو ما يعطي دلالة تحتاج إلى مزيد من التحليل والدراسة بشأن استراتيجية الصين العالمية في منافستها للولايات المتحدة وروسيا.
 


أفغانستان في الرؤية الصينية... تعددية المسارات اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً



في ضوء الاستراتيجية الصينية العالمية التي تطرحها تحت اسم «طريق الحرير الجديد» والذي يتخذ عنوان «حزام واحد طريق واحد» one belt، one road شعارا لها، تشغل أفغانستان مكانة مهمة في هذه الاستراتيجية، إدراكا من صانع القرار الصيني بعدم تكرار الخطأ الذي ارتكبته القيادة الصينية في سبعينات القرن المنصرم حينما رفضت الاعتراف بانقلاب عام 1978 لتخسر الصين وجودا مهما في تلك الدولة التي تلاصق حدودها، صحيح أن المسافة ليست بالكبيرة (76كم فقط) إلا أنها تكتسب أهميتها من ملاصقتها لإقليم شينغيانغ الصيني الذي يشهد بين الحين والآخر كثيرا من الاضطرابات التي تحتاج الصين إلى التنسيق مع القائمين على السلطة في أفغانستان لمنع انتقال هؤلاء المتمردين والانفصاليين الإيغور إلى أفغانستان، وعدم السماح بمرور المساعدات إليهم عبر أراضيها، وهو ما أكد عليه الرئيس الصيني شي جينبينغ في زيارته لأفغانستان في 28 ديسمبر (كانون الأول) 2014 بقوله إن بلاده «تدعم سعي أفغانستان للاستقلال الوطني والسيادة وسلامة الأراضي... إن كابل تدعم بقوة تصدي الصين للإرهاب، ولن تسمح بأن تُستخدم أراضيها لأي أنشطة إرهابية تستهدف الصين».

ومن هذا المنطلق، اكتسبت أفغانستان أهمية رئيسية لدى صانع القرار الصيني وهو ما تجلى في مؤشرات عدة تنوعت بين وجود استثماري تنموي، ودور سياسي عسكري، وهو ما يمكن أن نجمله فيما يأتي:

1- الوجود الاستثماري والتنموي الصيني في أفغانستان، حرصت الصين رغم ما تشهده أفغانستان من حالة عدم الاستقرار، الإبقاء على الفرق الصينية العاملة في أفغانستان مع الالتزام بتنفيذ كافة التزاماتها. فالمجموعة الصينية للتعدين التي تملكها الدولة، تدير عملية بحجم ثلاثة مليارات دولار في منجم «إيناك» للنحاس، في إقليم لوجار الشرقي. ويُعد هذا المنجم، الذي يبعد 35كم عن العاصمة، أحد أكبر مصادر النحاس في العالم. إذ يقدر حجم المعدن فيه بنحو 11 مليون طن، علما بأن هذه المجموعة تعرضت لهجوم بالصواريخ ولم توقف العمل. كما أن هناك فرق عمل أخرى تعمل في حقول النفط الخام والحديد واليورانيوم ومعادن أخرى تقدر بمليارات الدولارات. وفي المجال التنموي، أبرم البلدان كثيرا من الاتفاقات بمليارات الدولارات لمساعدة الحكومة الأفغانية ولتدريب آلاف الأفغان خلال الأعوام المقبلة، وكذلك لبناء طرق سريعة في مختلف أنحاء البلد ومحطات للطاقة الكهرومائية لتصدير الكهرباء إلى باكستان، وتمويل سكة حديد تصل إلى شامان الواقعة في جنوب شرقي أفغانستان بقندهار.
وفي هذا الخصوص، يبرز التوجه الصيني نحو ضم أفغانستان إلى الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، وهو مشروع اقتصادي كلفته 54 مليار دولار تم إطلاقه عام 2013 بهدف ربط غرب الصين بالمحيط الهندي عبر باكستان.

2- الدور السياسي في المصالحة الأفغانية، تحاول الصين القيام بوساطة دبلوماسية ورعاية لتفاهمات بين الأطراف المتنازعة (وتحديدا بين أفغانستان وباكستان التي تدعم أطرافا أفغانية إضافة إلى خلافهما بشأن بعض القضايا كالخط الفاصل بين الدولتين وعلاقات أفغانستان مع الهند)، وهو ما أشار إليه بوضوح المندوب الصيني لدى باكستان وأفغانستان دي جون شون بقوله: «إن بكين مصممة على المضي قدما في بذل جهود حثيثة لاحتواء الأزمة الأفغانية من خلال العمل مع إسلام آباد وكابل». وقد نجحت بكين في إبرام اتفاق بين الجانبين (الأفغاني والباكستاني) خلال زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى أفغانستان في يونيو (حزيران) 2017. حيث تم الاتفاق على تأسيس آلية الحوار الثلاثي (الصيني الأفغاني الباكستاني) لتعزيز التعاون والمباحثات بينهم، بما يؤسس لتبادل معلومات استخباراتية لمنع عمل الجماعات المسلحة، وذلك تحت إشراف بكين. وقد بدأ عمل هذه الآلية في ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، إذ انعقدت الجولة الأولى من المباحثات في العاصمة الصينية بكين بحضور وزراء خارجية الدول الثلاث في 26 ديسمبر (كانون الأول) 2017، وخلصت إلى الاتفاق على التعاون لمواجهة التهديد الإرهابي كما أشار إلى ذلك وزير الخارجية الأفغاني صلاح الدين رباني بقوله: «وافقنا على التعاون في مكافحة الإرهاب بكل أشكاله ومظاهره من دون تفرقة من أي نوع».
ولكن يظل التساؤل المطروح: هل تملك بكين أوراقا رابحة تمكنها من إنجاح هذه الوساطة والتقارب بين وجهات نظر البلدين؟
في حقيقة الأمر تملك الصين بعض الأوراق التي قد تساعدها في تقريب المسافات بين البلدين، من أبرزها علاقاتها القوية مع أطراف النزاع المختلفة، الحكومة الأفغانية من جانب، وباكستان الداعمة لحركة طالبان من جانب آخر. فضلا عن انتهاجها سياسة مغايرة للسياسة الأميركية في إدارة الملف الأفغاني، يمكن تحديد أبرز ملامحها فيما يلي:

- بدء محادثات مباشرة بين البلدين وليس مجرد إدارة لعملية التفاوض، وثمة فارق بين المحادثات المباشرة ودورها في تجسير الهوة بين الطرفين وبين القيام بإدارة التفاوض، إذ أثبت الواقع أن دور الوسيط إذا اقتصر على مجرد إدارة عملية المفاوضات بين المتنازعين يعني مد أجل النزاع وليس حله.
- تنمية الموارد الأفعانية بدلا من الاعتماد على الدعم المالي الخارجي مخالفة بذلك النهج الذي تبنته الولايات المتحدة، والذي أدى إلى تفشي الفساد من ناحية وإضعاف قدرة الحكومة الأفغانية على تسيير شؤونها اعتمادا على المعونات والدعم النقدي. في حين أن الصين رأت أن تنمية موارد الدولة الأفغانية خطوة أساسية في إرغام الحكومة الأفغانية على تولي مسؤولية أكبر حول مستقبلها المالي والعمل على تنمية مصادر عائداتها.

[caption id="attachment_55264475" align="aligncenter" width="594"]يشارك وزير الخارجية الصينى وانغ يى ووزير الخارجية الافغانى صلاح الدين ربانى ووزير خارجية باكستان خواجا محمد اصف فى مؤتمر صحفى مشترك بعد اول حوار لوزراء خارجية الصين وافغانستان وباكستان فى بكين فى ديسمبر الماضى. 26، 2017. (غيتي) يشارك وزير الخارجية الصينى وانغ يى ووزير الخارجية الافغانى صلاح الدين ربانى ووزير خارجية باكستان خواجا محمد اصف فى مؤتمر صحفى مشترك بعد اول حوار لوزراء خارجية الصين وافغانستان وباكستان فى بكين فى ديسمبر الماضى. 26، 2017. (غيتي)
[/caption]

ولكن، من المهم أن نفهم أن الأمر لا يتوقف على مجرد ما لدى الصين فقط من أوراق قوة في علاقاتها مع أطراف النزاع، وإنما يرتبط نجاحها في هذا المضمار بالموقف الأميركي الذي يملك هو الآخر الكثير من أوراق القضية (العلاقة الأميركية الهندية – الوجود الأميركي المباشر في أفغانستان)، فهل الولايات المتحدة راضية عن هذه الجهود؟ الاعتقاد الأقرب إلى الواقع أن الولايات المتحدة ترى أن الدور الصيني يجب أن لا يتعدى أكثر من محاولات لتقريب وجهات النظر بين البلدين كعنصر معاون لجهودها بما يمكنها من ترتيب الأوراق في تلك المنطقة بما يتفق ومصالحها، وأن هذا الدور لن يصل إلى مرحلة حل الملفات العالقة بين البلدين التي ترى الولايات المتحدة أن الحل يجب أن يكون أميركيا فحسب، وهو ما يعد تحديا للسياسة الصينية في تلك المنطقة التي تمثل تهديدا مباشرا سواء لأمنها القومي أو لاستثماراتها كما أشار إلى ذلك المبعوث الصيني الخاص دي جون شون بقوله: «إن المشاريع التجارية والاقتصادية لدولة الصين في باكستان وفي المنطقة لا يمكن تنفيذها وهي في خطر في ظل الأجواء الأمنية السائدة». ويعني ما سبق أن حظوظ نجاح الوساطة الصينية في المصالحة الأفغانية محدودة وذلك في ظل التمسك الأميركي بالدور الأول في الأزمة حسبما جاء في الاستراتيجية الجديدة التي قدمها ترمب بشأن السياسة الأميركية في أفغانستان، والتي تقضي بإرسال مزيد من الجنود وممارسة ضغط متزايد على باكستان التي دعاها إلى الكف عن إيواء إرهابيين، نافيا تحديد عدد الجنود بحجة أن أعداء أميركا يجب أن لا يعرفوا مشاريعنا أبداً»، إلا أن وزارة الدفاع الأميركية عادت وأعلنت في أغسطس (آب) 2017 إجمالي عدد الجنود الأميركيين في أفغانستان ليصل إلى (11) ألف جندي بعدما كان عددهم 8400 جندي موجودين بموجب حد أقصى تم وضعه خلال إدارة باراك أوباما. أخذا في الحسبان أن القرار الأميركي في هذا الخصوص، لم يكن منفردا وإنما جاء متزامنا مع قرار حلف شمال الأطلسي في اجتماع وزراء دفاعه في يونيو 2017 بشأن زيادة عدد قواته لمساعدة الحكومة في معركتها ضد حركة طالبان، وفي إطار التنسيق الأميركي الهندي بشأن الأزمة الأفغانية، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى إحلال الهند كبديل لها في أفغانستان، استنادا إلى دور الأخيرة المتزايد داخل أفغانستان، حيث بلغ حجم مساعداتها ما يقرب من مليار دولار.

3- الوجود العسكري الصيني، في ضوء التوترات التي تشهدها أفغانستان، وإدراكا من صانع القرار الصيني أن نجاح جهود بلاده في المصالحة الأفغانية سيظل محدودا في ظل تعاظم الدور الأميركي الذي يرفض الانسحاب العسكري من الأراضي الأفعانية رغم تكرار الإعلان عن ذلك منذ عهد الرئيس الأميركي السابق أوباما. ولذا، بدأ يتواتر الحديث عن وجود عسكري صيني في أفغانستان من خلال بناء قاعدة عسكرية في منطقة ممر واخان الجبلية الملاصقة لإقليم شينغيانغ الصيني، وهو ما أشار إليه صراحة مساعد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأفغانية محمد رادمانيش في حواره مع وكالة الصحافة الفرنسية في أوائل فبراير (شباط) 2018. وذلك بقوله: «سنقوم نحن ببنائها، لكن الحكومة الصينية التزمت تقديم الدعم المادي، وتجهيز وتدريب الجنود الأفغان». ورغم هذا التصريح فإن المسؤولين من الطرفين (الأفغاني والصيني) ينفون الإقدام على مثل هذه الخطوة وأنه لا صحة إطلاقا لإقامة هذه القاعدة العسكرية، كان من أبرزها تصريح المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية وو تشيان بقوله: «إن التخطيط لإنشاء قاعدة عسكرية بشمالي أفغانستان أمر لا أساس له من الصحة... وأنه لا صحة لقيام السيارات العسكرية الصينية بدوريات داخل أفغانستان»، وهو الموقف ذاته الذي أعلنته أفغانستان، إذ رفض مكتب مجلس الأمن الوطني الأفغاني هذه الأخبار حسبما جاء في بيانه بأنه: «يتم تداول معلومات غير صحيحة بأن الجيش الصيني مستعد لإقامة قاعد عسكرية في أفغانستان... وأنه لن يكون هناك أي تعاون عسكري مع الدول الأجنبية، إذا لم يتم الموافقة على ذلك من قبل مجلس الأمن الوطني ورئيس البلاد».

ولكن، الكثير من المؤشرات تؤكد على أن ثمة محادثات ومفاوضات تجري بين البلدين في هذا الخصوص، من ذلك ما يأتي:

- تصريح أحد مسؤولي السفارة الصينية في كابل بأن: «بكين تساهم في بناء القدرات في أفغانستان»، وهو ما قد ينسجم مع ما ذكره مساعد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأفغانية.
- شهادات أدلى بها أهالي منطقة ممر واخان للصحافة العالمية بوجود مركبات ترفع العلم الصيني، بها جنود صينيون أتوا إلى المنطقة في صيف عام 2016 وغادروها في مارس (آذار) 2017، مع قيامهم بزيارات متقطعة إلى المنطقة بين الحين والآخر لتوزيع بعض المساعدات على الأهالي في ظل حالة العزلة التي يعانيها سكان هذه المنطقة.
- تزايد حجم المساعدات العسكرية الصينية لأفغانستان لتصل في بعض التقديرات إلى 70 مليون دولار، وهو ما يعكس أن التعاون العسكري الذي وصفته وزارة الدفاع الصينية بأنه تعاون عادي ليس صحيحا، إذ إن حجم التعاون بينهما يتجاوز هذا الوصف. أضف إلى ذلك أن المبرر الذي ذكره بيان مجلس الأمن الوطني الأفغاني بأن التعاون العسكري مع الدول الأجنبية لن يتم إلا بموافقة مجلس الأمن الوطني ورئيس البلاد، مبرر غير كاف إذ إنه من المنطقي أن يتم ذلك طبقا للدستور الأفغاني. ولذا فما ورد في البيان توضيح للإجراءات الواجب اتباعها وليس دليلا على نفي المباحثات التي عادة ما تجرى فيما وراء الستار.
- قيام الصين بعدد من الاتفاقات مع الأطراف المجاورة لها في تلك المنطقة لتعميق التعاون في مواجهة الإرهاب، ففي 4 أغسطس 2016 تم تأسيس آلية للتنسيق والتعاون العسكري بينها وبين كل من باكستان وطاجيكستان وأفغانستان. وفي سبتمبر (أيلول) من العام ذاته وقعت الصين وطاجيكستان اتفاقا يقضي ببناء عشرة مواقع مختلفة الأحجام ومركز تدريب لحرس الحدود الطاجيكية على طول الحدود الأفغانية الطاجيكية. وفي أواخر أكتوبر (تشرين الأول) من العام ذاته، عقدت الصين وطاجيكستان اتفاقا في الجزء الطاجيكي لممر واخان.

ومن الجدير بالإشارة أن هذه المؤشرات تعكس حجم التعاون العسكري بين البلدين دون التطرق إلى بناء قاعدة عسكرية صينية في تلك المنطقة، ولكن إذا كان لدى الصين النية في بناء هذه القاعدة العسكرية، فمن الواجب أن يظل الأمر في إطار السرية التامة لحين الانتهاء من المباحثات أو المفاوضات الجارية في هذا الخصوص، تحسبا لأمرين: الأول، رد الفعل الباكستاني على إقدام الصين على مثل هذه الخطوة وهو ما يعني وجودا صينيا عسكريا في أفغانستان لن تقبل به باكستان وحلفاؤها من الأطراف الأفغانية إذ يترتب على هذا الوجود إضعاف لنفوذها الذي تستغله في تعزيز علاقاتها مع الصين وفي مواجهة الولايات المتحدة الحليفة الرئيسية لعدوتها اللدودة الهند. ولذا تحرص باكستان على أن لا تفقد تأثيرها في الساحة الأفغانية بل تسعى إلى أن تصبح شريكا رئيسيا يُعتمد عليه في إحقاق السلام في أفغانستان. الثاني، رد الفعل الأميركي الذي تراجع عن أي انسحابات محتملة من أفغانستان خوفا من إيجاد فراغ تشغله بعض الأطراف وفي مقدمتها الصين، ويعزز من ذلك الموقف الأميركي الساعي إلى إحلال الهند كبديل لها في أفغانستان كما سبقت الإشارة بما يعزز من مكانة الأخيرة في صراعها مع الحلف الصيني الباكستاني.
نهاية القول إن مستقبل أفغانستان لا يبشر بنجاح المصالحة السياسية أو استعادة الأمن والاستقرار في ظل وجودها ضمن خريطة الصراعات القادمة بين الأقطاب العالمية، إذ موقعها الجيواستراتيجي فرض عليها أن تظل دائما ساحة للتجاذبات والصراعات، فما إن ينتهي طرف من الوجود على أراضيها إلا وتنفتح شهية طرف آخر لملء هذا الفراغ، بما يجعل الشعب الأفغاني بكافة تكويناته وطوائفه ضحية لهذه الصراعات إلا إذا أدرك هذا الشعب وقيادته أن مستقبله ليس رهنا لهذا الطرف أو ذاك وإنما رهن للإرادة الوطنية إذا ما توحدت توجهاتها وفقا لرؤية أفغانستان أولا، وإلا ظلت الدولة الأفغانية تدور في حلقة مفرغة من الصراعات وتمددات النفوذ الأجنبي على أراضيها.

* باحث زائر بمركز الدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة جمهورية أذربيجان
 
font change