عندما اعتقلوا والدي

تجربة شخصية لزميلة بـ«المجلة» مع استخبارات النظام الإيراني

صورة تم التقاطها في 2 سبتمبر (أيلول) 2014 في العاصمة الإيرانية طهران لتمثال مصنوع من الشمع لأحد المحتجزين يظهر في زنزانة في سجن القصر، وهو سجن سابق يستضيف سجناء سياسيين تم تحويله إلى متحف في عام 2012.

عندما اعتقلوا والدي

* ما زال يوم اعتقال والدي محفورا في ذاكرتي منذ ذلك اليوم.
* لم يخل يوم واحد في البلاد لم نسمع فيه عن اعتقال ناشط أو كاتب أو مثقف أو طالب.
* وعدت نفسي بأن أكون قوية بعد اعتقال والدي وأديت الامتحانات الجامعية وأنا أمر بظروف نفسية صعبة

لندن: عندما عرضت علي هيئة تحرير مجلة «المجلة» أن أكتب عن تجربتي الشخصية وما جرى لي ولعائلتي عندما اعتقل والدي الناشط السياسي والباحث يوسف عزيزي، شعرت بأن كل الذكريات المؤلمة عن تلك الأيام عادت إليّ فجأة. وكأن اليوم هو اليوم الذي اقتادت فيه القوات الأمنية التابعة لوزارة الاستخبارات والدي إلى السيارة من بيتنا (الواقع في حي يوسف آباد في طهران) أمام أعيني وأعين والدتي. وبقيت أنا أنظر باندهاش إلى والدتي وكأنني لم أصدق ما جرى للتو. ما أصعب تلك الأيام. لم تقتصر هذه التجربة علي فقط بل إن الآلاف من عائلات السجناء السياسيين ومعتقلي الرأي في إيران عاشوا ولا يزالون يمرون بظروف مماثلة وأصعب بكثير. ما زال يوم اعتقال والدي محفورا في ذاكرتي منذ ذلك اليوم. اعتقلت السلطات والدي في 25 أبريل (نيسان) 2005. أدلى والدي في ذلك اليوم بكلمة في مكتب رابطة مدافعي حقوق الإنسان في إيران، وكانت شيرين عبادي الحاصلة على جائزة نوبل للسلام رئيسة المركز آنذاك حيث تمت دعوة والدي من قبل عدد من أعضاء الرابطة لإلقاء كلمة حول قمع السلطات للمظاهرات التي قام بها عرب الأهواز في 15 أبريل 2005.

بدأت الحكاية من رسالة مسربة بتوقيع محمد علي أبطحي مدير مكتب الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي التي نشرتها بعض المواقع الأهوازية في نفس العام. وكانت الرسالة موقعة في عام 1988 أي العام الثاني لحكم خاتمي.

وأشارت الرسالة التي اشتهرت فيما بعد باسم رسالة أبطحي إلى ضرورة تغيير التركيبة السكانية لعرب الأهواز خلال السنوات العشر المقبلة حيث يتحول العرب إلى الأقلية في الإقليم.
واحتشد عدد من المواطنين العرب في مدينة الأهواز في حي الدايرة في 15 أبريل (نيسان) 2005 وقاموا بمظاهرات صوب مقر المحافظ تعبيرا عن رفضهم للرسالة.
وقام المتظاهرون بمسيرات سلمية ولكن قوات الشرطة فتحت النار أمامهم مما أدى إلى مقتل العشرات من الأشخاص. هذا ولا توجد إحصائية دقيقة عن العرب الأهوازيين القتلى على يد السلطات.
واتسع نطاق المظاهرات في الأيام التالية لتشمل مدنا أخرى بالإقليم وبذلك تحولت المظاهرات إلى انتفاضة شعبية.

وقد عاد والدي نحو الساعة الواحدة ظهرا برفقة أحد الصحافيين العرب الأهوازيين إلى البيت.
كانت والدتي تحضر المائدة لتناول الغداء والساعة نحو الثانية ظهرا. دق أحدهم جرس البيت. كنت أستطيع مشاهدة الأشخاص الذين يطرقون الباب عن طريق شاشة الجرس فشاهدت رجلا يحمل حقيبة ساعي البريد. كانت تلك الفترة مليئة بالاعتقالات وأنا كنت قلقة دوما من تعرض والدي لحادث اغتيال أو للاعتقال على يد السلطات. شعرت بخوف غريب. سألت الطارق من هو. قال إنه ساعي البريد. كنت خائفة للغاية لأننا لم نكن نتوقع وصول أي حمولة بالبريد. كان والدي في غرفته وكان الصحافي الأهوازي في الغرفة الرئيسية. لم تثق والدتي بما قاله الطارق. نحن كنا في الطابق الأرضي فصعدت والدتي وفتحت الباب الرئيسي للمجمع السكني لتستفسر عما يجري. كنت أراقب وأسمع ما يجري عبر شاشة المراقبة للجرس. عندما فتحت والدتي الباب وقف عدة رجال أمن بملابس مدنية أمامها ومنعوها من إغلاق الباب. لقد أدركت ما يجري وقلت لوالدي إن رجال الأمن جاءوا لاعتقالك. خرج والدي من الغرفة. عندما رأى والدي وجهي الشاحب والخائف حاول أن يطمئنني. أتذكر أنني كنت في السنة الأخيرة من مرحلة الإجازة في الجامعة وكان موسم امتحانات. قال لي والدي اهدئي لم يحدث شيء. قدمت والدتي في هذه الأثناء وفتحت الباب وقالت إن عددهم كبير وجاءوا لاعتقال والدك. قالت والدتي لرجال الأمن أن يمنحوها عدة دقائق لتحضيري أنا نفسيا لتلقي هذا الخبر الصادم وإذا اقتحتم فجأة البيت قد تتعرض ابنتي إلى صدمة نفسية. أما أنا فكنت مرعوبة جدا خلال تلك اللحظات وأستعرض في ذهني كل الخيارات الممكنة خلال بضع ثوان. إذا أخذوا والدي معهم واعتقلوه فماذا سيتعرض له في السجن؟ هل يمكن أن يقتلوه؟ ماذا لو لم أستطع رؤيته مرة أخرى؟ ماذا لو عذبوه في السجن؟
 
امرأة شابة إيرانية تحمل صور الصحافيين خلال تجمع في جامعة أمير كبير في طهران.
امرأة شابة إيرانية تحمل صور الصحافيين خلال تجمع في جامعة أمير كبير في طهران.


فجأة سمعت والدتي وهي تقول جاءوا ليعتقلوا والدك. يجب أن لا يروا الشاب الأهوازي في البيت وإلا سيعتلقونه هو أيضا. كانت الأحداث تمر بسرعة. لم تكن لدينا فرصة للتفكير فأي تعلل قد يؤدي إلى مصيبة أخرى. الأهم هو أن نفكر بالشاب الأهوازي. كان لبيتنا الواقع في الطابق الأرضي بابان يطلان على شارعين أحدهما على شارع لاله (حي يوسف آباد) والباب الآخر يطل على زقاق (نسترن). أعطت والدتي بسرعة كبيرة للشاب الأهوازي حذاءه ومعه المفتاح المتعلق بالباب الخلفي ليهرب منه. وكأنني كنت أحضر فيلما سينمائيا ولم أصدق بأن هذا حدث لي. لقد سمعت وقرأت كثيرا حول عمليات الاعتقال بحق المثقفين والكتاب والنشطاء ولكنني كنت الآن في قلب الحدث. كان قلبي يدق بسرعة كبيرة وكنت أتمنى أن يخرج الشاب الأهوازي من الباب الخلفي بسلامة ويتمكن من الهروب. لقد هرب بسرعة البرق. كل هذه الأحداث وقعت خلال دقيقتين أو ثلاث دقائق. وكان رجال الأمن قد نزلوا إلى باب شقتنا ويطرقون على الباب منذ دقيقة. فتحت والدتي الباب لهم وفجأة رأيت 8 رجال بملابس مدنية تابعين لوزارة الاستخبارات اقتحموا البيت. جلست على الأريكة لأنني كنت أرتجف ولكنني لم أكن أعلم هل كان السبب البرد أم الخوف. ما زلت أتذكر وجوههم كلهم واحدا واحدا. وكانت أثار تربة الصلاة ظاهرة على جبهة أحدهم وبالمناسبة كان مسدس كولت ظاهرا من تحت قميصه على حزامه. والثاني كان يمسك كاميرا للتصوير وعندما دخل البيت أخذ يصور كل زوايا البيت. قال رجل الأمن الذي دق جرس البيت في البداية إنهم جاءوا ليعتقلوا بابا. ثم ذهب 3 أو 4 منهم إلى غرفة بابا وقاموا بتفتيشه وقاموا بتفتيش كل شيء في الغرفة. كنت جالسة في تلك اللحظات في الغرفة الرئيسية وأنظر إليهم بدهشة وحيرة وقلق. كنت أنظر إلى الأشخاص الذين كانت مهمتهم اليومية أن يطرقوا أبواب الناشطين والمثقفين ويقتحموا البيوت ويبثوا الرعب في صدور المواطنين العزل وعائلاتهم. وكنت أفكر في أنهم سيقومون غدا بالتأكيد بطرق باب بيت آخر وعائلة أخرى ستتعرض لنفس المشهد الذي نتعرض إليه اليوم. فلم يخل يوم واحد في البلاد لم نسمع فيه عن اعتقال ناشط أو كاتب أو مثقف أو طالب. كان في البيت 3 غرف نوم وكان أحدهم يفتش غرفتي أنا والثاني غرفة أخي الذي كان آنذاك يدرس في إحدى جامعات لبنان. لقد بعثروا كل شيء في غرفة والدي ولم يبق شيء في مكانه وأخذوا معهم هارد حاسوبه. كانت والدتي تجادلهم طوال الوقت وتقول لهم لا تلمسوا هذه الكتب أو لا تلمسوا السيديهات في غرفتي أنا وأخي. كان أحدهم يفتش غرفة أخي حيث قال باستهزاء لوالدتي «هل عندكم خبر منه (شقيقي) في لبنان؟ كيف حاله؟» وأدركت أنهم يراقبوننا خطوة خطوة ويراقبون كل تحركاتنا نحن وحتى أخي في لبنان. فجأة شعرت بخوف رهيب من أن يفعلوا شيئا بأخي. وكنت دوما ألاحظ سيارة مركونة أمام المجمع السكني الذي كنا نقيم فيه أو أبعد بقليل وعلى متنها رجل أو رجلان. كنت متأكدة من أن البيت مراقب. كنت أشعر بالخوف الشديد في البداية وأخشى الخروج من المنزل لأنني لم أكن أرغب في مشاهدة تلك السيارة ولكنني تعودت عليها وأصبحت جزءا من حياتنا اليومية فإننا علينا أن نعيش حياتنا وكنت مضطرة للذهاب إلى الجامعة والخروج يوميا. فهناك الكثير من المواطنين الإيرانيين الذين يمرون بظروف مشابهة.

لنعد إلى أحداث اعتقال والدي. كانت والدتي تتجادل معهم وحتى إنها قالت لهم باستهزاء: تفضلوا تناولوا الغداء. فأحدهم قال: لا شكرا. يمكنكم أنتم والسيد عزيزي تناول الغداء. ردت عليهم والدتي: لقد فقدنا شهيتنا بمجيئكم أنتم. فتشوا كل البيت وصادروا نحو 40 أو 50 شريط فيديو وسي دي عائلي. كان عندنا صحن لاقط وجهاز استقبال. السلطات الإيرانية تمنعهما وتقتحم الشرطة البيوت لضبط أجهزة الاستقبال وصحون اللاقط. فقال رجل الأمن نحن لم نصادر جهاز الاستقبال لديكم هذه المرة لأننا نحترمكم!! لكن في المرة القادمة يجب أن ترموه في سلة المهملات. كانت الساعة 4 عصرا والعملية استغرقت ساعتين تقريبا. قاموا بقطع خطوط الهاتف الأرضي. وبعد أن تأكدوا من مصادرة كل شيء ممكن حتى دفتر تسجيل أرقام الهواتف طلبوا من والدتي إعطاءهم أكياس القمامة ليملأوها بالكتب وبما تمت مصادرته من البيت وملأوا 9 أكياس كبيرة. ورحل والدي أمام عيوني. بعد دقائق معدودة سمعت صوت جرس البيت مرة أخرى وكان والدي يريد أن يجلب معه حبوبه لأنه كان مصابا بالزكام الشديد. احتضنني والدي عند الوداع وقال لنا أن ننتبه لأنفسنا ونكون أقوياء ولا نخاف شيئا ورحل. ما زلت في حالة صدمة مما جرى وكانت الدموع في عيوني ولكن والدتي قالت لي أن لا أبكي ويجب أن نكون أقوياء لنخرجه من السجن. فبعد ساعة أو ساعتين من اعتقاله بدأ عدد من الوجوه الثقافية والسياسية، منها المرحومة سيمين بهبهاني (الشاعرة والكاتبة) يجرون اتصالات هاتفية معنا معلنين عن دعمهم وتضامنهم معنا. لقد أجرت والدتي اتصالا مع إذاعة «بي بي سي» الفارسية بعد لحظات من اعتقال والدي من هاتف بيت جارنا الذي كان سمع بالخبر آنذاك وقامت بإبلاغ الإذاعة بأمر اعتقال والدي. لم نكن نعرف إلى أي معتقل تم اقتياده فهم لم يقولوا لنا. وأجرى الكثير من الإذاعات والقنوات التلفزيونية الفارسية وقناة «العربية» اتصالات مع والدتي مستفسرين عن الأمر وكيفية اعتقاله. وعدت نفسي بأن أكون قوية بعد اعتقال والدي وأديت الامتحانات الجامعية للسنة الأخيرة في مرحلة الإجازة في فرع اللغة العربية وآدابها وأنا أمر بظروف نفسية صعبة. كان والدي معتقلا في سجن كارون في الأهواز لمدة 65 يوما وكانت هذه الفترة مليئة بالقلق والخوف من مصير والدي. وكان رجال الأمن يمارسون ضغوطا نفسية كبيرة علينا بإجراء اتصالات هاتفية. اتصل رجل من وزارة الاستخبارات هاتفيا بعد ساعات من اعتقال والدي وهدد والدتي بالسجن إذا لم تكف عن إجراء مقابلات مع الإذاعات والقنوات التلفزيونية العربية والفارسية وأخذوا يطلقون عليها الشتائم.

وتمكنا أنا ووالدتي من لقائه في أحد المراكز التابعة للاستخبارات في الأهواز قبل أسبوعين من إطلاق سراحه فكان يبتسم عندما رآنا ولكنه كان نحيفا للغاية. لم يستغرق اللقاء إلا 15 دقيقة برفقة رجلين مسلحين تابعين للمركز واقفين خلفنا. شعرت بالحزن الشديد بعد لقائه ولكنني كنت في نفس الوقت مسرورة لأنه لا يزال على قيد الحياة. أطلقت السلطات سراحه في 28 يونيو (حزيران) بكفالة مالية قدرها 100 مليون تومان أي كانت كفالته ثمن بيتنا، لأن المبلغ كان كبيرا آنذاك. وفتح هذا الحدث الأليم الباب أمام أحداث حزينة ومؤلمة أخرى في حياتي، منها منعي من إكمال دراستي في مرحلة الماجستير من قبل السلطات الأمنية واعتقال أخي ورحلتي الشاقة في أحد قوارب الموت باتجاه أوروبا ولكن لا مجال للتطرق إليها هنا.



 
font change